الحجاب

كان وأخواته يجلسون أمام، جدته وهي تلف نفسها، بعباءتها الجز، ليستمعوا لحكايتها...بشغف، وإذا توقفت لحظه، لتلتقط أنفاسها كان يحثها على الكلام، وبوده
لا تنقطع عن الحديث..كانت عيناه تتجول بين وجه جدته وحجابها المعلق على صدرها، وهو يتدلى من اليسار، إلى اليمين، كبندول الساعة، ويحس إن عينيه، تعبت من المتابعة، فتسدل أستارها.. ويستسلم إلى النوم، وهو لم يكمل حكاية
جدته والحجاب لم يفارقه حتى في أحلامه، فيسألها، وهو يتجول في أحلامه:ـــ
ـــ جدتي من أين لك هذا!!
ــــ وهل فيه جني يخدمك؟ كما قال أبي..ـ
ـــ ولماذا لا تنزعيه من رقبتك؟ ووووو.......ويستمر في الهذيان بنومه.. توقظه
أمه وهي تحثه قائلة.:ـــ
أصدقاءك سبقوك انهض.
يسرع في تناول فطوره....وصوت أصدقاءه يطرق سمعه بإلحاح.
ـــ أسرع يا حامد، الوقت أدركنا، هيا.
وفي الطريق إلى المدرسة كان منشغلا بحكايات جدته، وهو يريد، ان يجد لها
تفسيرا، ويطرح على نفسه عدة اسئله، يريد الإجابة عليها!!
ــــ ما هي خضره أم الليف؟. وما هو الطنطل، وما هي أم الصبيان، وحكاية الحمال وسبع البنات والشاطر حسن، وماذا فعل مع حبيبته؟. من هو المجنون؟ الذي أحب ولم يفلح، وساقه الحب إلى الموت، لماذا لم يزوجوه بمن يحب؟ ولماذا
ينهون ولماذا يقتلون؟. اسئله عديدة يحاول إن يجد لبعضها جوابا... يوقظه صوت صديقه من سلسلة أحلامه: ــــ
مابا لك اليوم يا حامد؟
ــ هل حضَرة... موضوع التاريخ؟
ـــ لا قد نسيت!.. 2
ـــ كيف تنسى.... أنواع الاستعمار، وأثاره على الشعوب؟ وكيف تنسى عدوة الشعوب...!!
ـــ الله هو الساتر!.
ــ حضَر نفسك..هذا، لا يفيد به.... أي عذر!!
ـــ سأقول له إن شيئا قد شغلني..!
لفت انتباه أصدقاءه.. وتحلقوا حوله، وأمطروه، سوية بسوْال واحد:ـ
ـــ ما هو هذا الشيْ؟
ــــ فيجيب حجاب جدتي!!
ضحكوا جميعا بصوت عالٍ، وواصلوا السير.. شاءت الظروف ان مدرسهم اخذ اجتازه مرضيه لألم بأسنانه، تنفس الصعداء، وعلا التكبير والتهليل في الصف
كبر، وكبرت جدته، وهو يراقب فعل هذا البندول المعلق على صدر جدته، عندما تأتيها النساء وهنَ، يحملنَ أطفالهن، وتضع جدتي الحجاب على رؤوسهم، . وتقرأ
وتتمتم، ببعض الكلمات، فيسكت الطفل عن البكاء، فتدس إحداهن
مبلغا من النقود، كان له نصيب فيه، لأنها كانت تفضله على البنات، وها هو يبلغ
من العمر العشرين، والدراهم تتوالى عليه، من ذلك الحجاب، من لديه مغص، أو طفل يبكي، وصداع في الرأس، امرأة تطلب الحمل، .. وجدتي ما عليها إلا إن تضع الحجاب على المريض، وتجني ثمره، لكنه كان يحس إن قلبه معلقا به... ودقاته تتناوب مع حركة الحجاب، ..يسار ثم يمين، انسحبت هواجسه، إلى كلية العلوم، حيث جرت حوارات مع بعض أساتذته عن هذه الظواهر الاجتماعية
وفي إحدى الصباحات، وبعد إن أنهى أحلامه على خير، أيقظه والده وهو يهمس بإذنه قائلا:ــــ
ــــ جدتك، تريد رؤيتك!؟
نهض مسرعا.. واتجه نحوها، جثى على ركبتيه، قائلا:ــــــ
ـــ عمرك طويل.. قبل يدها، وركز نظره على صدرها، رآه للمرة الأولى فارغا
من الحجاب، إصابته الدهشة، وقبل أن يوجه السؤال لأبيه.. بادرته، لا تخف... وبسطت يدها عن الحجاب!
شيْ من الحذر والتراخي، يصيب يديه، ينقل بتثاقل وألم عينيه بين والده وجدته، ملامح من الحزن، تبدو على وجه والده، وشيْ من اليأس والآسي على الجسد المسجى بينهم، أشارت إليه أن يقترب، همست بإذنه، بصوت بالكاد يسمعه:ــ
ـــ بني، تحت وسادتي صرة من النقود، وهذا الحجاب لك، حافظ عليه، انه يحفظك من عوادي الزمن سقطت دموعه بدون استئذان، قبلها، وانحنى على يدها ... وأخيرا، الحجاب بحوزته، لكن التسليم والاستلام كان مأساويا.. انسحب بهدوء
.. وهو يستذكر، المراحل التي مرت بها جدته مع الحجاب، الذي أصبح أرثاَ، تاريخيا.. طالما، جال وصال، وجني المال، بسهولة وبدون كد وتعب حتى أصبح مثلا للتندر بين الأصدقاء، حينما يقولون:ــ
حجاب جدتك أحسن من الحجاب الإجباري..هذه الأيام راجع أفكاره في كل الاحتمالات، فاستقرت، به بعد فترة، مراسيم العزاء... اجتمعت العائلة وهم يتذاكرون، بعض من مآثر جدته اخرج الحجاب من جيبه.. سكت الجميع عن الحديث، وكأن شيئا حدث، ثم اخرج من جيبه الأخر صرة النقود.. بدأ بصرة النقود وهم بفتحها... قاطعه والده:ــ
ـــ بني لماذا تقلق جدتك في تربتها، جسمها لم يبرد بعد.
أصر على فتحها، وبعد جهد، حل العقدة، ونشر القماش بين يديه، أصابته الدهشة، ، مد يده لعرضها على الجميع قال الوالد:ـــ
ـــ يا الله ما هذا...!!
أما الأم مدت رقبتها لتتأكد من هذه الثروة، التي لم يسبق إن حصلوا عليها، وأخواته لم تسعهما الفرحة لرؤيتهما الليرات الذهبية، !!
اخذ يعدها، ومع كل رنة، كانت الشفاه تتمتم معه بدون صوت.. حتى وصل إلى العشرين.. قفزت والدته متحمستا:ــ
ـــ لو أكملت الخمس والعشرين!!....
أعاد الصرة إلى وضعها، ودسها في جيبه، وتناول الحجاب، قفزت أمه قائلة:ــــ....
ــــ ماما دخيلك، كل شيْ ولا الحجاب... يقولون انه سحري، وإذا فّتح.. سيبطل مفعوله ويعم شره!! أصابه شيْ من الخوف، مما سمع بدأت، دقات قلبه تسرع، كاد يسمعها. سادهم صمت لبرهة، جال بعينيه الحائرتين، بدأ بأبيه، لاحت على وجهه، علامة الرضا وابتسامة خفيه، تدل على موافقته، اطمئن قليلا، أما أمه لازالت عند موقفها..وأكيد أختاه لاتقل دهشتهما عن أمهما.. فتذكر quot; إن للذكر مثل حظ الأنثيين quot; فبدأ بتمزيق الجلد الذي يلف الحجاب، و الخوف يسيطر عليه.
، مما جعل حركته مرتبكة، لن يثنه الخوف من فتح الحجاب.. وأخيرا، بانت لفافة الورق وسط دهشة وخوف الجميع، خصلة من شعر الماعز، وخصلة من صوف الغنم، وريشة طير، التف لوالده، واستمر بفتحه...! ورقة طويلة، طويت على شكل أوراق صغيره حتى أصبحت كالنـابض، طول الورقة لا يتعدى بضع سنتمترات، امسك أول الورقة انفتحت بالتسلسل ثم بدأ يقرأ والكل فاغر فاه ــــ يا صاحب الحجاب، إياك وقراءته، انه سيفقد قوته، ويبطل مفعوله.. صاحت أمه:ـــ
ـــ الم اقل لك... انتهى كل شيْ.
والصفحة الثانية، يا صاحب المندل، يا هاء ويا كاف ويا شين، ويا هاروت وماروت والثالثة، رسم مربع إضلاعه تتألف من مـــــــه وصـــه وفـــــــــه وســـــه وفي الوسط قسم المربع إلى اثنتي عشرة مربعا دونت فيها أرقام عربيه ولاتينيه، وينساب بالقراءة كلمات ما انزل الله بها من سلطان وأخيرا يقول.. يا هاروت ويا ماروت يا أيها الملكان، المعلقان بين السماء والأرض، ، انزلوا غضبكم على من يفتح الحجاب، وامنعوا عنه كل رزق!!
قاطعه والده قائلا:ــــ
ــــ لعنة الله علي من كتبه.. الله هو الرزاق. يا بني ان عمر جدتك بلغ التسعين والحمد لله، عاشت وعشنا وما بيدك أخر الغيث.
أعاد طي الحجاب، كما كانت أوراقه، وضع الشعر والصوف وريشه الطير أرجعه في الكيس وقال:ـــ
ــــ إنا بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لكن أسفي على الزمن الذي أخذه مني طيلة حياتي.. وسط ذهول عائلته وصمتهم وضعه في جيبه وتوجه به إلى قبر جدته.....!!.


الاختيار.......... قصة قصيرة / حقيقية
عندما دققت النظر فيها، وقفتُ مذهولاً لجمالها، تمتلك وجهاً قمرياً صغيراً، شوهته بقع داكنة من أثر الشمس والأتربة، وشعرُ ينسدلُ على كتفيها تشابك لشدة التعرق والغبار، لم يرَ الماء منذ مدة، وتستحوذُ على صورة وجهها جوهرتان تلمعان كالضؤ، وتخطو بقدمين صغيرين تَلسعهما حرارة الطريق الإسفلتي، الذي لايرحم، وهي تتهادى وتحملُ على كتفها عصا، تمسك بطرفها وتقطر بطرفها الأخر قاطرة بشرية تحمل هموم الدنيا وألمها، أخذت منه السنون، القوة والنظر تاركاً في كوخه، القابعُ في ضواحي المدينة، المجاور لمجمعِ النفايات، امرأة عجوز معوقة وبنتين يافعتين تعملان صباحاً بجمع مخلفات النفايات، وأعتمد على هذه الصغيرة كدليل تطوف بهِ شوارع المدينة، حتى أصبحت تعرف خارطة المدينة. وأسماء شوارعها، وبدونها لايمكنه التحرك والتجوال، بل يستدر بها عطف الناس، لصغر سنها، الذي يتجاوز الخمس وبضع شهور، ولا أدري هل.. قَسَمَت الدنيا على الناس حياتهما، بشكل غير عادل؟ أم نحن ظلمنا أنفسنا، أو انتهك حقوقنا الآخرين. بالرغم من سنها أخذت من الشارع من العادات.. مما انعكس على سلوكها الطفو لي.وإذا شعرت بالتعب أنزلت العصا من كتفها ووضعتها على الأرض، هي دلالة لهٌ إنها تعبت وعليه التوقف معها للأستراحه. يدسُ يدهُ في جيبهِ، ليخرج قطعة من الحلو، مما تصدق به بعض الناس ليقدمها لها، مكافأة على جهودها، كما يقوم مدرب الحيوانات في السيرك، ليكسب رضاها، يقوم في هذه الحالة عدة مرات في اليوم، يجلسان على رصيف الشارع، وهو لا يكف بالمنادات (المال مال الله والسخي حبيب الله) لازمة حفظها ويرددها باستمرار،
التفتت إلى الوراء.. رأت أطفال يلعبون في حديقة صغيرة، لعبة التوازن والمراجيح، انسلت ببطء بدون أن يشعر بها، إلى تلك الحديقة، لتشارك الأطفال لعبهم وفرحهم.اندمجت ونسيت أباها.. ناداها عدة مرات فلم تسمع نداءه، استنجد ببعض المارة فلو كذلك، أما صغيرته فقد صاحبة الأطفال.. ونسيت نفسها .. سألتها أم الأطفال:ــ
ــ يا صغيرتي من أنت؟
ــ اسمي ندى.. وأبي رجل شيخ كبير، تركته هناك، على قارعة الطريق.
ــ لماذا لاتعودين إليه؟
ــزمت عن شفتيها والتزمت الصمت.
ــ هل تشعرين بالجوع؟
ــ نعم، لم أكل منذ الصباح!!
ــ هل تبقين مع الأطفال تلعبين وتعيشين معهم، براحة واطمئنان؟
أطرقت برأسها إلى الأرض، ونظرت إلى نفسها والى الأطفال، والحلة التي وصلت إليها,
ــ قالت لها المرأة.. لاعليك.
بعد عودتهم إلى البيت أطعمتها وأدخلتها الحمام.. وجهزتها بالملابس الجميلة.، فأصبحت كالوردة، بعطرها وجمالها، دخلت إلى قلب المرأة، أحبتها وكم تمنت، ان تبقى مع ولديها.
في اليوم الثاني حاولت البحث عن الرجل في شوارع المدينة، شاءت الصدف إن تراه جالساً في نفس المكان، اقتربت منه وقدمت له بعض النقود وسألته، لتتأكد، إنه أب الطفلة أم لا، لأن العاجزين كُثرْ
ــ يا شيخ.. أين الطفلة الصغيرة التي تصاحبك كل يوم.
ــ أجابها، لاأدري. سرقها أحد أو ضلت الطريق أو مَلَتْ من الدوران... إنا لله.!
ــ أليست بنتك..؟
ــ لا..!
ــ أدهشها الجواب.. حاولت معرفة قصتها.
ــ إذن كيف وصلت إليك. يا شيخ.
ــ عثرنا عليها في أحد الأيام ملفوفة، ومرمية بجانب القمامة.. قرب الكوخ، فأسرعنا لالتقاطها، قبل إن تأكلها الكلاب السائبه فاعتبرناها، هبة من الله، قمنا بتربيتها، هي تساعدني على التجوال في الطريق، وأرجو من الله سبحانه، إن لاتقع بيد ضعيفة النفس ومن عديمي الضمير.
تنهدت المرأة، وغيرت رأيها بموقفها، ولم تخبرها، بل أرادت إن تكسب ودها أولا، والأجر والثواب ثانيا، وتقوم على تربيتها. أطمأنت لهذه الفكرة.. قبل أن تغادر، أردفت قائلة، لو وقعت بأيدي أمينة، قامت على تربيتها، وأشرفت على تعليمها.. ألن يرضيك ذلك؟ أدعو لها بالخير والتوفيق، لكني سأفتقدها.. من يساعدني على هذا الطريق.. عزً عليها ذلك.. وقفت حائرةً والأسى يلفها.. لكنها تســـتدرك قائــــلة:ـلو إنها ابنته، لَحَنَ قلبهُ عليها ولن يهدأ ويستكين لفقدانها، استقرت على هذه الفكرة، أقنعت نفسها، إنها سوف تقوم بالواجب وأكثر، لأنها شُغِفَتْ حبا بها وليس لديها بنت جميلة مثلها.
عادت إلى البيت، وهي تُعِدُ أجوبة لأسئلة الطفلة المحتملة، لإقناعها وكيف.. تخبرها بالحقيقة عندما تكبر. انسجمت مع أسرتها الجديدة، وأصبحت أكثر إشراقا وجمالاً كفراشة ملونة، تراقبها.. وهي تقفز في الحديقة، فرحة، بضفائرها المزينة بأشرطة ملونه.
مرت سنون، وأصبحت في مراحل متقدمة في المدرسة، تُعدها وتشرف على هندامها، صباح كل يوم، وهي تشدًُ محفظة الكتب على ظهرها. توصيها ان تحافظ على نفسها، وعليها ان ترافق زميلاتها عند ذهابها وإيابها.
ذات صباحٍ في طريقها للمدرسة تتفاجأ، وهي تقابل الرجل الذي رباها وهو يَهمُ بعبور الشارع، تقف مدققة النظر فيه. أخذت منه الحياة كل شيء، حتى هي التي كان يستعين بها، كدليل في تجواله في طرقات المدينة.. تذكرت كل شيء.. كان شريطاً مؤلماً من الأحداث في كل تفاصيلها. وقفت حائرة في بادئ الأمر... ثم اندفعت نحوه، وأخذت عصاه وعبرة تخنقها، وبخطوات جنائزية قصيرة، وبدل أن تضع العصا على كتفها عندما كانت صغيرة، حملتها بيدها وعبرت به الشارع ببطء، دعا لها بطول العمر والتوفيق، وقفت ودمعتان كلؤلؤتين تأخذان طريقهما لتسقيا وردتين جميلتين... وبصمتٍ مهيب، تضعُ مصروفها اليومي بيده، وهي تتذكر ما قالته لها أمها، التفتت إليه.. هل تعود، لتحمل العصا وتطوف به شوارع المدينة أو تبقى في نعيمها، وأسرتها الجديدة.. سؤالان أحدهما مرٌ.. والثاني حلو، والاثنان انتشلاها من العدم.. إنها براءة الطفل واختياراته، حافظت على هدوئها، وواصلت السير إلى المستقبل.
قصة
حقيقية[email protected]