نصيف الناصري
حرق الشيب: الفصل الرابع من كتاب quot;صوت سنبلة قمح لم تولدquot;

العمود الطوطمي
تظللُ الرايات والمشاعل في ليل العراق قبر السيّاب
ولا تظلل قبور الشعراء الآخرين.
أنحتُ اسمي في صارية العمود الطوطمي وأنتسب الى القبيلة
تاركاً خلفي ميراث بلادي ومهاترات أحزابها الجليلة.
بعد رحلة طويلة تحت الأهداب المصّفرة للرعود والزلازل
بحثتُ عن النور العظيم في {انشودة المطر}
في {أسمال الملوك}
في لحاء شجرة الكستناء
في برق الياقوت.
ينبغي أن نصغي الى صمت البراكين في قلب الشاعر
الى تعثر الأنهار وتعرجاتها في جبينه
الى نبض الصخرة
على امتداد القانون الذين يزن رماد أسلافنا وعباداتهم المستريحة.
جان دمو، تقدمتنا الأخيرة
عروق ذهبنا القاسية المنحدرة من أعماق انقساماتنا المتصدعة بين النور
والظلمة، والقبلة والمخلب.

توجع كلب
1
quot; 1- ومن الملاحظ أن كل مدينة يكثر فيها رجال الدين. ينتشر فيها أيضاً ازدواج الشخصية على درجة كبيرة. ذلك لأن الانسان في هذا المجتمع مضطر أن يكون دينياً في ناحية من حياته ودنيوياً في ناحية أخرى. ورجل الدين عادة يحترف بث التعاليم الدينية، فهو يبثها قولاً ويقبض على ذلك أجراً، ولكن هذا الأجر يدفعه في الغالب أناس بعيدون عن تعاليم الدين في أعمالهم. ورجل الدين يضطر أن يجاري هؤلاء فعلاً ويناقضهم قولاً، وكثيراً ما يقع في مآزق حرجة للغاية نتيجة هذا التناقض.
2- كثيراً ما يحارب الناس بعضهم بعضاً، ويعتدي بعضهم على بعض وهم مرتاحو الضمير. كأن ما قامو به من ظلم تجاه غيرهم ليس إلاّ جهاداً في سبيل الله أو تأييداً لجانب الحق كما يدّعون. وكثيراً ما نرى شخصاً شديد الأذى لغيره. سفّاكاً معتدياً على الناس، من غير أن يشعر بشيء من وخز الضمير في كثير من الأحيان، بينما هو في أحيان أخرى. يشعر بالألم الممض ويتقلب على فراشه اذا سمع توجع كلب أو أنين مريضquot;. (د علي الوردة {شخصية الفرد العراقي)

تجليات عشتار
الإلهة الكلدانية عشتار التي ظهرت أولاً في وادي الرافدين. كان مركز عبادتها الأصلي في مدينة الوركاء. هي الإلهة الأم مانحة الحياة و{إلهة الحب وسلطانة الظفر وإلهة التناسل. في وظيفتها الأولى كانوا يرسمونها راكبة أسداً أو ثوراً ورأسها مكلل بتاج مرصع بنجوم. رمزها هو النجمة الثمانية التي تشير الى كوكب الزهرة ألمع الكواكب}. عبدها شعب سومر وأسماها انانا وعبدها العرب وأسموها عثتر. الزهرة. نجمة الصبح. الكنعانيون عبدوها وأسموها عشتروت وعند الاغريق تجلت الزهرة. فينوس العذراء التي ظهرت فوق أمواج بحر ايجة. هل كانت بكارتها اكذوبة؟ هي {بهجة البشر والآلهة التي أسكرت آسيا منذ قرون}. في الأساطير الشيعية ستتجلى بشكل جديد وتتغير وظيفتها الأصلية من إلهة للحب والظفر والتناسل الى إلهة للأحزان والبكاء والفقدان. انها الآن فاطمة البتول ابنة النبي محمد. زينب العقيلة ابنة الامام علي من فاطمة. يضفي عليها الحزن الشيعي مسحة من المأساة ويطوّع اسطورتها ووظيفتها الجديدة لتتلائم مع مذبحة كربلاء حيث شهدت مصارع أهلها.

كزار حنتوش
{عن لوركا}
أيها الصعلوك
أحبك كأسد جائع
أنت آكل اللحوم
أنا الغجري، ناقر الدف
عاشت أيامنا بين البارات والمعسكرات.
أنتَ أشقر كعنترة بن شدّاد
شَعرك من شجرة ليف
وقلبك خوخة
أيها الصعلوك
أحبك كأسد جائع.
اختراع البعثي
في فلكلورنا السياسي الحديث تبرز في المنافي التي يتواجد فيها أعضاء الحزب الشيوعي العراقي. فكرة اختراع البعثي. لا يستطيع الشخص الشيوعي النضال والكفاح وممارسة دوره الثوري في هذه المنافي إلاّ اذا كان يعيش في مدينته البعثي، واذا لم يكن هناك بعثي واحد فيتوجب على الشيوعي اختراعه عبر اتهام هذا الشخص أو وذاك بانه كان بعثياً أو أن هذا الشخص يؤمن بفكر البعث. كل لاجىء عراقي في مدينة ما ليس شيوعياً فهو بعثي. الفكرة غريبة وهي من أمراضنا الفانتازية في كل منافي العالم. ذات مرة ذهبت برفقة أصدقاء الى مرقص تركي في مدينة مالمو وكان معنا أحد الأصدقاء الشيوعيين. حين جلسنا على الطاولة. راح يمعن النظر في شخصين يجلسان على طاولة مقابلة لنا. {نصيف. هؤلاء بعثية بشرفي} همس في اذني. نظرتُ اليهما.وجهان سمراوان ويرتديان ملابس تشبه ملابسنا.{كيف عرفت انهما بعثية؟} قلت له {من شواربهم} طبعاً أعرف هذه الاسطورة التي يؤمن فيها صديقي ولكي أهدىء من روعه وأطرد البعبع الذي يصرخ في أعماقه. ذهبت اليهما وحييتهما: {السلام عليكم} {وأليكم السلام} أجابا. {اعتقدت انهما بعثيين} قال لي صديقي الشيوعي حين أخبرته انهما أفغانيان وليس بعثية.
حرق الشيب
قرأت رواية لكاتب ياباني يتحدث فيها عن البطل الذي ينتف الشعيرات البيض في حاجبيه وصدره ويديه من أجل أن يظل شاباً على الدوام. الكاتب يعرف اللعبة. أن نتف كل شعرة بيضاء يدمر البصيلات وبالتالي تزداد الشعرات البيض في الموضع المنتوف. منذ سنوات ابتكرت حيلة للتخلص من الشعرات البيض التي تظهر في يديّ وساقيّ وصدري حتى أظل شاباً على الدوام. الحرق بالنار. شعر رأسي أصبغه في الشهر مرة واحدة.
Nacke bad
ذهبتُ مع آنّا الى شاطىء البحر مجبراً. هي تريدني أن أتعلم السباحة. أحضرت لي زعانف مطاطية شبيهة بتلك التي يلبسها الغطاسون في غطسهم وقطعة فلين كبيرة. غرقتُ وطلع الماء حتى من طيزي. لم تنفع معي الزعانف ولا قطعة الفلين. مرات كثيرة حاولت التعلم فيها السباحة لكنني فشلتُ. ظلت آنّا تسبح وحدها وأنا أحتسي البيرة. بعد ساعة اقترحت أن نذهب الى مكان أقل عمقاً حتى تعلمني. انتقلنا الى أمكنة عديدة ومن ثم اقتربنا من مكان كل الناس فيه نساء ورجال وأطفال عراة تماماً. آنّا } Nacke bad nacke bad صرخت مسرورة وهي تهتف{
كنتُ قد نسيت هذه الكلمة لأنني لا أستخدمها كثيراً. طلبت مني خلع ملابسي كلها وراحت هي تتعرى. المكان مخصص للسباحين العراة. لم أتعر وغادرت المكان. استاءت مني جداً فصرختُ في وجهها {تحلمين على الدوام برؤية عجيزتي. كيف أستطيع أن أتعرى على الشاطىء أمام العشرات من هؤلاء الناس؟}. تعرت تماماً وراحت تسبحُ وتتشمس مستلقية على الرمل مع الناس العراة.
ترّهات الخليفة الشاعر
{صنع الخليفة المستعين يوماً هذين البيتين:
شربت كأسا أذهبت عن ناظري الخمرا
فنشطتني ولقد كنت حزينا خاسرا
ثم قال أجيزوها، فقالوا:
هذا خرا هذا خرا / هذا خرا هذا خرا.
محمد بن شاكر الكتبي {فوات الوفيات}
الحرب
الجنرال: أيها الشاب تعال قاتل من أجل أرض الوطن المقدسة
الشاب: {مندهشاً} اللعنة، هل قامت الحرب مرة أخرى سيدي الجنرال؟
الجنرال: أجل، انها حرب شاملة هذه المرة
الشاب: هل انها حرب عادلة سيدي الجنرال؟
الجنرال: لا يهم، هذا لا يهم. مكيافيلي يقول {تكون الحرب عادلة متى أصبحت ضرورية}
الشاب: من فضلك سيدي الجنرال، صف لي حربك العادلة والضرورية هذه.
الجنرال: الحرب، آه، نعم انها وديان مجدرة. بيوت مقصوفة. جنود يحترقون
عربات محطمة. حدائق تحترق. مدن ومدارس تهدمها الطائرات. أرامل. أيتام.
ومشهد حزين يغطي العالم كله.
الشاب: يا إلهي. اللعنة عليك سيدي الجنرال. لماذا تشعلها اذا كانت بهذه الوحشية؟
الجنرال: من أجل مجد الله والوطن
الشاب: {بامتعاض} مجد الله والوطن. وهل الله بحاجة الى حربك القذرة ليبقى نظيفاً؟
الجنرال: {بثقة} أنت لا تفهم أيها الشاب. هذه الحرب يجب خوضها بكافة الوسائل
الشاب: انني أرفض حربك القذرة سيدي الجنرال
الجنرال: لقد أصدرت أوامري باعدام كل من يتخلف عن اداء الخدمة العسكرية.
موت الكاتب غازي العبادي
كان الكاتب غازي العبادي صديق الشاعر حسب الشيخ جعفر وابن مدينته وزميل دراسته في موسكو قد وصل الى عمّان قبل وصوله بأسابيع شتاء عام 1996 من أجل الحصول على عقد عمل من السفارة الليبية لكنه لم يتمكن من الحصول على هذا العقد الذي كان يعول عليه كثيراً. ذات يوم طلب مني حسب الذي نقلته من الفندق في أول يوم من مجيئه الى عمّان الى السكن معي أن يسكن غازي معنا لأنه متعب ومريض ويسكن مع مجموعة من العراقيين الذين لا يهتمون في الأدب وغرفتهم تخلو من مدفأة. طبعاً أنا لا أستطيع رفض هذا الطلب لكن المشكلة أن المسؤولين في{حركة الوفاق الوطني} التي أعمل فيها. يمنعونني كما يمنعون سواي من استضافة غازي وأمثاله بحجة أن هؤلاء كانوا يعملون في صحف نظام صدام حسين. مرة حاولوا أن يبتزوا حسب من أجل الانضمام اليهم والعمل معهم. طلبوا أن ينشروا مجموعته {الفراشة والعكاز} في لندن {دار الكتاب العربي} وهي واجهة لهم. أعطاها لهم لكنها لم تنشر. طبعاً عرفوا انه لا يريد أن يبتزه أحد ما.
يسكن في البناية التي نسكنها أنا وحسب شاب عراقي خيّاط أعرفه اسمه حيدر وتوت. طلبت منه أن يضيّف غازي في غرفته التي تخلو من مدفأة أيضاً فوافق الرجل مشكوراً. في بعض الليالي يتسلل غازي خلسة الى غرفتنا التي تنتصب في وسطها مدفأة للقاء حسب والحديث معه. ذات يوم جاء هادي الحسيني الى غرفته فوجده مصاباً بجلطة دماغية وفاقداً الوعي. نقله الى أحد المستشفيات ومنعونا من زيارته. ظل في المستشفى عدة أيام ثم نقلوه الى العراق ليموت حسرة وكمداً.
رفاق الحزب
كتبت خالدة سعيد مرة مقالة في صحيفة لبنانية عن حسب الشيخ جعفر وذكرت فيها انه يكاد يعرف أغلب الأعمال الموسيقية الكلاسيكية حال سماعها. عندما كنا أنا وهو نجلس الى الشراب. يبقى صامتاً كما هو معروف عنه الى أن يدب دبيب الخمرة، بعدها يبدأ الحديث في شؤون وشجون شتى. في كل جلسة شراب يطلب مني أن أسمعه أغنية ياس خضر الأولى التي سجلها عام 1969 في اذاعة القوات المسلحة {الهدل} وبعدها مونولوج أم كلثوم {هو صحيح الهوى غلاّب}. قلت له مرة: {مالذي يجعلك تعجب في هاتين الأغنيتين؟} {ذكرى حب عاثر} قال لي. في عمّان التي أيقظت ذكريات سنوات موسكو عنده أيام دراسته، ستستمر لقاءاته وجلساته مع {صديق العهد الدراسي} المعماري الدكتور خالد السلطاني ومع سعدي يوسف. وبين ذكرى ذلك الرفيق الميت الذي قال عنه في قصيدة {بمقبرة خلف برلين يرقد ابن جودة} وبين الوحشة والسأم في عمّان حيث لا أفق ولا نسمة مستقبل، سيتوهم كثيراً أثناء جلسات الشراب معنا في الغرفة وهو يحدق في ملابسه المعلقة على الحائط، اننا رفاق الحزب من عهد الشباب وأن هذا الجالس على يمينه هو الرفيق فلان ويسأل بعدها عن الذي ذهب الى الحمام: أين الرفيق فلان؟ معلوم انه عندما كان في موسكو كان يحمل حنيناً كبيراً الى مدينته العمارة والى بلده العراق، وعندما يكون بالعراق يشتاق بشدّة الى موسكو. كانت كل مكافأة يحصل عليها عبر نشره لقصائده أو ترجماته وأغلب المكافآت قليلة جداً. يبعثها الى أطفاله. مرة قلت له أمازحه حين استلم مكافأة عن قصيدة نشرها في مجلة {عمّان}: {استاذ حسب. هذه المكافأة يجب أن تتصرف فيها وحدك} {لا، سأبعثها الى أطفالي} قال لي، فصرختُ في وجهه: {نؤاس طبيبة ويارا مهندسة ومحمد عسكري. بشرفك هل هؤلاء أطفال؟} مات من الضحك وهو يوبخني.

الحرب وتطور المجتمعات
كل حرب ضرورية لتطور المجتمعات عبر جميع حقب التاريخ. الحروب الأهلية والدفاعية والعدوانية لعبت أدواراً مهمة في قلب المعادلات التي كانت قائمة وأعادت الحقوق المغتصبة الى أهلها وصاغت أطر سياسية ومعرفية واجتماعية وعلاقات انتاج جديدة، وعلى الرغم من بشاعتها والجرائم التي ترتكب فيها. تبقى الميزة الأساسية للحرب في تغييرها للواقع القائم ورسم الحدود والملامح الجديدة للمجتمع المتعفن. كانت حروب ايطاليا في القرون الوسطى هي التي منحت البشرية عصر النهضة ودافنشي ومايكل انجلو وسواهما.
رامز فيلد شاعراً
الصندوق الزجاجي
{أنت تذكر ذلك الصندوق الزجاجي القديم
في محطة الوقود
حينما تستعمل تلك الأشياء الصغيرة
محاولاً الحصول على الجائزة
التي لم تجدها
كل تلك الاذرع التي غاصت هناك
وها أنت تستمر في الرمي والالتقاط ثانية
وتستمر بتحريكها
لكن
ربما تكون صغيراً جدا لتتذكر
تلك الصناديق الزجاجية
الذين اعتدت اللعب بها
عندما كنت صغيراً
في محطات الوقود}.
عن مجلة Slat
ترجمة: عمار كاظم محمد

وقائع سعدي يوسف
تلقيت في مناسبات مختلفة ملاحظات مهمة من سعدي يوسف تتعلق بتلك القصائد التي كتبتها ونشرتها. سعدي يطلب مني أن أؤكد على الوقائع في القصيدة. الوقائع الآن لا تعنيني. مشروع سعدي وعمارته الشعرية يختلفان عن مشروعي الذي أريد تطويره بدأب. هل لي أن أحلم بكتابة قصيدة تنأى عن ماهو سائد؟ يهمني التجريب والبحث عن أشكال ولغة ومناخات وموضوعات جديدة في قصيدتي. أعرف أن التركيز على الوقائع يستلب من القصيدة حرارة الخيال ويجعل الذاكرة شاغرة. في كل مرة أعيد فيها قراءة أعمال سعدي يوسف، تبرز أمامي هذه الظاهرة الملفتة. كل مجموعة جديدة وطوال سنوات عديدة لا تضيف الى المجموعة التي سبقتها وكأن تجاربه عبارة عن تجربة ومجموعة واحدة.

داء الجرب / السجن
حين انتهت الحرب العراقية ndash; الايرانية. كنت هارباً من وحدتي العسكرية وأحيا متخفياً، وبما أن وظيفتي السابقة قبل بداية الحرب كانت في احدى دوائر وزارة النفط فقد كنت أتدبر بطريقة ما، نموذج الاجازة المزور وتأييد استمراري في الخدمة من أجل ان استلم راتبي من دائرتي والذي يصادف يوم 23 من كل شهر. كانت القوانين والأوامر الشديدة تقضي انه في حالة القاء القبض عليّ أثناء هروبي من الخدمة العسكرية فيتوجب عليّ بعد تقديمي الى محكمة عسكرية مختصة والتي ستحكم بسجني أن أعيد كل المبالغ التي تسلمتها أثناء فترة هروبي الى الدائرة. عند نهاية الحرب التحق آلاف الجنود الهاربين من الخدمة الى وحداتهم بموجب العفو الذي أصدره وزير الدفاع عدنان خير الله آنذاك. التحقت في هذا العفو الى وحدتي التي كانت تقوم بمهمات التدريب في منطقة {قصري} بقضاء {جومان} ووجدت الكثير من الجنود الهاربين مثلي قد التحق قبلي. بعد أيام ألغى صدام حسين قرار العفو هذا كما هو معروف للجميع وجاءت التعليمات بمنع الاجازات عن الجنود الهاربين الذين التحقوا الى وحداتهم لحين تقديمهم الى المحاكم. في الشهر الحادي عشر بعد أن حرروا لنا المجالس التحقيقية تم تقديمنا الى محاكم عديدة ضمن قاطع الفيلق الخامس. ذهبت مخفوراً برفقة جندي مأمور الى المحكمة الدائمية 23 في الموصل. أصدرت المحكمة حكماً ضدي يقضي بحبسي حبساً شديداً لمدة 6 شهور واسقاط رتبة أعلى {كنت نائب عريف} واعتبار جريمة هروبي مخلة بالشرف. كان المألوف أن يسمح المأمور الذي يخفر الجندي المحكوم اذا كان واثقاً من عدم هروبه ويعرف عنوانه، أن يسمح له بتمضية يومين أو ثلاثة يزور فيها أهله قبل الذهاب الى السجن. عدت الى بيت أهلي ومن ثم التقيت أصدقائي الشعراء في مقهى {حسن عجمي} وبعد يومين ملأت حقيبتي بالكتب وذهبت بصحبة المأمور الى سجن الموقع بأربيل. كان السجن الذي يشرف عليه عناصر الاستخبارات في ألوية الفيلق المختلفة، أشبه بجهنم وربما أقسى منها. غرف صغيرة تم حشر الجنود فيها بقسوة بالغة. الغرفة تتسع لعدد محدود جداً ويسجن فيها أكثر من 25 شخصاً. واذا وضع أحدهم ساقه أو مؤخرته أو ضرط فوق رأسك فهذا شيء عادي. كنا ننام بصعوبة وفي النهار يسمح لنا بالخروج من الغرف لغرض تنظيفها وتعقيمها بالديتول بشكل يومي. والمصيبة الجهنمية التي كانت تواجهنا صباح كل يوم هي طريقة ذهابنا الى المراحيض. توجد في السجن 3 مراحيض ويبلغ عدد السجناء أكثر من 400 سجين. كان يسمح لكل 7 أو 9 جنود بالتبول سوية من أجل افساح المجال للآخرين. وكانت السياقات اليومية المعتادة للسجن الذي بدا لي أشبه بقلعة من قلاع القرون الوسطى، تقضي بقيام السجّانين بعملية التعداد الصباحي للسجناء وتوزيع الأطعمة والتنظيف وتنتهي بالتعداد المسائي وبعدها يتم اغلاق الغرف. كانت اذا بدرت من أي سجين علامة غضب أو تأفف بسبب الأوضاع اللاإنسانية في السجن أو تشاجر مع سجين آخر لسبب ما تافه وبسيط. يتم تجريده من ملابسه واخراجه الى ساحة السجن معرى، حيث يقوم السجاّنون بأبشع عملية تعذيب ضده لتأديبه حسب زعمهم، ويتم ضربه بالسياط وحين يخرج الدم من جسده يقومون برش الملح على الجروح ويواصلون الضرب وسط صراخ وبكاء السجين العاري، وهذه الأشياء التي كانت تحدث في سجن الموقع بأربيل يعرفها كل من أوقعه حظه العاثر في ذلك السجن. بعض الجنود الذين تعرضوا لتلك العمليات الوحشية وظلت آثار التعذيب بادية على جلودهم، قاموا بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية بتعقب أولئك الذي عذبوهم واغتالوهم في مدن مختلفة من العراق. قبل دخولي السجن لم أكن أعرف أي شيء عن داء الجرب المعدي الذي يتسبب فيه الظل والظلام والاقذار. حين أصبت بهذا الداء اللعين بعد أسابيع تم عزلي في غرفة مخصصة للمصابين الآخرين وكان يسمح لنا بتمضية وقت أطول في الشمس وتعريض جروحنا لحرارتها. لكن أين هي الشمس والفصل شتاء؟ في هذه الغرفة التي كانت تضمنا نحن المرضى، استطعت أن أقرأ بشكل جيد لكن الحساسية الشديدة التي كانت تداهمني في الليل عند حلول الظلام، كانت تسبب لي ألاماً شديدة ولم تنفع معها تلك الأقراص التي كنت ابتلعها ولا ذلك المرهم الذي كنت أدهن فيه المناطق الحساسة من جسدي. جاء المرحوم العجوز أبي مرة واحدة الى السجن وكان أخوتي الثلاثة جنوداً مثلي ويمضون خدمتهم العسكرية في وحدات وقواطع أخرى والبعض منهم هارب من الخدمة وكان أبي يعاني المصائب. كانت السعادة القصوى التي أشعر فيها في تلك المحنة هي زيارة صديقي الطالب في جامعة صلاح الدين رزاق علي الذي يعيش هنا الآن في السويد. كان رزاق حين يزورني يحمل معه الكتب والصحف والمجلات وأخبار وتحيات الأصدقاء الشعراء والكتّاب في بغداد. وكان يجلب لي الأطعمة الجيدة ويمنحني المال ويواسيني دائماً. كان بعض السجناء ممن يقدر على دفع الرشوة يتم تعيينه بصفة {عنقرجي} من قبل ادارة السجن ولم أكن أفهم معنى كلمة العنقرجي تركية الأصل في البداية. كنا نقول في العامية عن الشخص الذي يأمرنا بعنجهية: {لا تتعنقر علينا}. يسمح للعنقرجي الذي يكون واسطة أحياناً بين السجناء وادارة السجن بالذهاب الى الأسواق والاستحمام في الحمامات ودور السينما التي كانت تعرض الأفلام البسيطة في أربيل كما يسمح له بشراء ما يطلبه السجناء من خارج السجن ويستطيع زيارة بيته متى ما شاء باتفاق مع مسؤول السجن، أي انه يتمكن من خلال دفع الرشوة بتمضية مدة محكوميته خارج السجن. أغلب الجنود الذين يأتون الى السجن لتمضية فترة عقوباتهم. تنهض عواطفهم الدينية في الأيام الأولى للسجن ويقومون بتأدية الصلوات وقراءة القرآن والحديث في الأمور الدينية، وبما انني غير متدين فقد كنت أعاني صعوبات مع هؤلاء المساكين الذين يلوذون بالدين في السجن وينسونه في اليوم الأول لخروجهم منه. كان البعض يعتبرني ملحداً ويحاول الوشاية بي الى السجّانين اذا لم تعجبه آرائي، وكنت أموت من الرعب اذا حاول أحدهم ذلك. كانت أفضل طريقة لدي هي أن اعتذر منه واعارته رواية أو مسرحية أو أي كتاب آخر من أجل امتصاص نقمته وغضبه وحرصه الشديد على إلهه الذي تذكره حين جاء الى السجن. في بداية الشهر الخامس من عام 1989 انتهت مدة محكوميتي وتم اطلاق سراحي من السجن. ذهبت الى وحدتي التي استولت هي ووحدات أخرى على بيوت الناس من أبناء الشعب الكوردي في منطقة {ديبه كَه} الواقعة بين كركوك وأربيل بعد عمليات الأنفال القذرة التي قامت بها ألوية الحرس الجمهوري وتم فيها ابادة وتهجير السكان الأصليين وعقابيل داء الجرب ما زلت أعاني منها. مكثت ليلة واحدة في وحدتي وبعدها أمر آمر سريتي النقيب جاسم محمد بمنحي اجازة لمدة 7 أيام.

كيمياء الألم

نامي، نامي يا نموري الصغيرة. أيتها المتوحشة يا أحزاني
الليل برموشه الطويلة التي تنسدل على آلامي
ليل حياتي التعيسة ينزلني برفق
الى الأعماق القديمة
والسماء الغاصة بأسراب الحشرات والمطموسة بالعويل
أجراسها الصدئة
تتنرنح مهدمة فوق رأسي.
فوق الأعمدة وفي الميادين
فوق الأشجار المتوحشة العارية
وعلى الأبراج
ترفرف مدفوعة صوب الماضي
رغباتي المنكمشة.
ما الذي سأفعله بمستقبل ميت
أنا الذي عشت حياتي كلها في مستنقع من الجحيمات؟
تعلقت الظلمة في جبيني
تعلقت الصحراء
تعلقت العناكب والطحالب.
العالم هاوية
وعيناي معصوبتان برماد حاضر ميت
على أيّة سنبلة أتكىء؟
أيّة شمس تعينني على النهوض؟
حاضري رماد
وماضيّ عدم
لي من الذكرى الجروح المحفورة في العظم
لو أردت النوم يكبلني قصف مدافع وتقودني هلوسات الحروب
الى جوّ من الجحيمات.
أسمع حشرجات موتي وتفيض أمواج العذابات ارتفاعاً يناسب اغراقي.
لماذا يداي متخشبتان كحاضري؟
لماذا أبصق القصائد وأعاين مشهد خرابي؟
أصوات الموت المزمجرة ما تزال تصبغ عشب النهار
لا قناديل لي ولا طريق
لا فضة ولا ربيع
لي هذه الساعات المهشمة والعاطلة التي لا تضيئها الشمس طوال العام.
هذه السماء الخشنة التي أرقبها الآن، تحتضر وتتعثر في أنفاسي
تتعثر الغيوم والأدراج.
الموت الذي غفل عنّي عندما غشي عينيه النعاس
ما يزال مخيفاً، ملقى باهمال فوق صدري كأرنب جريح.
آهِ، يا موتاً يرافقني ويلتصق بي مثل زئير يعري فراغ الظلام.
لا صيف عندي لأفتح ابوابه من اجل الأبدية.
بحاضر شرس يتهاوى الى الوراء
أرقب انهداماتكم وأرى الخرائب التي لن تروها
هنا، على شواطىء نهر دجلة
في المدينة التي بناها {المنصور} أرقب صعود الصحراء صوب الجنائن
العالية وأتساءل: {ماذا يعني أن تتعرى الأشجار من لغاتها؟}
أهو الزمن يغوص في أذرع العناكب؟
أصدقائي الذين قتلوا عام 1987 بينهم شعراء وعشاق ومجانين
قتلوا في الهجوم الايراني على {بحيرة الأسماك} من أجل مياه لا مرئية
زهور وشموس تلفح وجوههم اللطيفة
جدائلهم الخضر ابتلعها ليل الهاوية
أصدقائي القتلى يأتون في أحلامي ويعرضون عليّ جروحهم العميقة قائلين
: {انها عميقة} وكأنني لا أملك في حياتي جروحاً عميقة.
هنا يلعب الملائكة الأيتام مع الكلاب البيض في منعطفات الشوارع
هنا الدبّابات المزمجرات يتحدثن عن أحزانهن
وفي آخر الطريق يقف الشاعر شاحباً وقدمه على رقبة مستقبل ميت.
مرآة الشمس مثلومة
والهواء عويل
هنا كل شيء ميت ماعدا القمر الذي يتشظى مثل صحن صيني.
أريد الآن أن أخوض في عراك وحشي لأصعد من هذا الرماد الذي تزينه
بقع الدم. آهِ، الدم الدم الدم الدم العفن
لا أريد أن أعيش وسط هؤلاء الذين يعيشون ببلادة ويتألمون بلا جروح
لماذا يعانون من عبودية بلا ظلام؟
لماذا يعيشون في قلعة بلا جدران؟
لا شمس لهم ولا يخجلون من دناءاتهم
يضحكون على أنفسهم ويكذبون أمام أطفالهم
تاركين تلك الآثار الباقية في أجساد الناس الفقراء
{الذين تنازلوا عن جلودهم لمدافع الهاون وعظامهم للسديم}.
ما الذي أخشاه وأنا جزء من الهاوية؟
ماضيّ الذي يدمع في طرقاتي الآن
لن أرفع له راية.
شاكيرا
كانت المغنية الكولومبية ذات الأصل اللبناني من جهة الأب شاكيرا وليم مبارك قد أصدرت البومين قبل أن تحقق شهرتها العالمية بعد اصدارها الالبوم الثالث باللغة الانكليزية {لاندري سرفيس} الذي باعت منه 8 ملايين نسخة وقد عرفها العالم من خلال أغنيتها الشهيرة التي ظهرت في هذا الالبوم {ون إيفر ون أيفر} وكانت ترقص فيها حسب الطريقة العربية في هز وتحريك {وسطها}، وبعد أن انتشرت هذه الأغنية عبر القنوات التلفزيونية المتخصصة في الموسيقى عبر الرقص الغريب والجديد. عانت الفتيات في أمريكا واوروبا واستراليا ونيوزلندا وبعض البلدان في قارة آسيا من تعلم واداء هذا الطراز من الرقص، وحتى الآن مازالت الفتيات هنا في السويد لا يستطعن اداء هذا الرقص بصورة جيدة على الرغم من وجود مدارس مصرية وتركية عديدة لتعلم الرقص الشرقي، ويعود ذلك الى أن هز {الوسط} لأغراض غنائية غير موجود في الثقافة الاوروبية وهو امتياز عربي تركي باستحقاق.
دمية القش
أكتبُ اليكِ من قمة البرج
وقلبي شعلة
يدي التي لم تشم عطر عودتكِ
تجز صوف الكواكب.
عيناكِ فأرتان
تطاردهما قطط الغياب
وقلبكِ بلاطة
تبقين في مرمركِ البارد
لا نار تحرقكِ
لا ربيع ينير نهديكِ
لا هواء ينعش روحكِ القش.

لا أحب الشخص الذي يشرب كل يوم
انخيدوانا جرح حياتي الدامي. كنا نراها تتأبط في مهرجانات المربد في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي الشعراء الكبار أمثال البياتي ونزار قباني ومحمود درويش والفيتوري وعبد المعطي حجازي وغيرهم. فتاة جميلة وشاعرة في الواحد والعشرين من عمرها. أصدرت مجموعتها الأولى عام 1986 وكانت غامضة بالنسبة لنا نحن الشعراء الشباب وخصوصاً الصعاليك أمثالي، بسبب مظهرها البورجوازي {لم أكن أعرف انها من أسرة فقيرة مثلي} ومحاولاتها المحمومة للتسلق وحب الظهور والشهرة. تعرفت اليها في اليوم الثاني لخروجي من السجن بمبنى منتدى الأدباء الشباب وسألتني: {أين كنت طوال الفترة الماضية؟} أخبرتها انني كنت في السجن وعلمت منها أن مجلة {كلمات} التي تصدرها أسرة الأدباء بالبحرين قد أصدرت عدداً خاصاً بالشعر العربي أثناء فترة مكوثي في السجن وضم من الشعراء العراقيين سعدي يوسف وسركون بولص وجمال جمعة وأنا فقط. طلبت منها أن تعيرني المجلة فوافقت وقالت: {تعال غداً الى منتدى المسرح مساء. هناك مسرحية ستعرض وبعدها ربما نتمشى} ثم أبدت نحوي عاطفة حميمة جعلتني انجذب اليها بقوة، ربما بسبب شهور السجن والخيبات المستمرة التي ظللت كل سنوات حياتي في الحرب. التقينا في اليوم التالي وكنا متلاصقين بشدة في قاعة المسرح بسبب كثرة عدد الجمهور، وكان البعض من الأصدقاء وسواهم ينظر الينا بحسد واندهاش وقد قالت عنهم فيما بعد في قصيدة نشرتها بمجموعتها الثانية {اتهموني بالحب. صفقتُ لخطيئتي أيها الشفيع المعصوم بحبل القلب}. بعد انتهاء العرض المسرحي ذهبنا نتمشى وتحدثنا في الشعر وعن المسرحية التي عرضت وأمور أخرى. قبل أن أودعها وأذهب الى نادي اتحاد الأدباء، طلبت منها أن تعطيني رقم تلفونها. وافقت واتفقنا أن نبقى على اتصال. حين انتهت اجازتي والتحقت بوحدتي كنت أتصل بها كل يوم وكانت العاطفة المحمومة تزداد قوة في أعقاب كل اتصال. أسميتها انخيدوانا الشفيعة وأسمتني الشفيع. كتبت عنها في البداية قصيدتي الطويلة {عش وقواق من غيوم نووية الى الشاعرة الأميرة انخيدوانا} وكتبت هي عني قصيدتها {المعصوم بحبل قلبي. سفر الشفيع} بعد شهر أنجزت عنها مجموعة كاملة وهربت من الخدمة العسكرية من جديد لأنني لم أعد أتحمل فراقها. كنت أنام في الليل بسبب الخشية من القاء القبض عليّ بسبب هروبي في منتدى الأدباء الشباب مع الشاعر علي الشلاه وصديقنا الشاعر المصري فتحي عبد الله المحرر في مجلة {أسفار} التي يصدرها المنتدى بعد أن نعود من نادي اتحاد الأدباء مخمورين، وكان علي الذي لا يشرب. يطيّر في كل مرة السكر من رأسي عندما يقول لي: {اتصلت بي انخيدوانا قبل قليل وتقول انها تحب شخصاً آخر}. يذهب عقلي وأحاول الاتصال بها فلا ترد، وكيف ترد والساعة هي الثالثة فجراً وهي تعرف انني مخمور؟. أمزق المجموعة التي كتبتها عنها لكن علي يجمع الأوراق الممزقة ويصرخ بي: {يا حمار، كنت أمزح فقط}. في اليوم التالي أعيد كتابة المجموعة لأنني أحفظها كلها وأخبرها عندما تأتي الى المنتدى بما فعل علي بي فتقول لي: {هل أنت مجنون؟ هذه ليست المرة الأولى التي يفعلها علي. اترك الشراب. لا أحب الشخص الذي يشرب كل يوم}.
كل هذا البياض
عام 1990 بعد غزو الكويت أخبرني الصديق الشاعر عبد الرزاق الربيعي حين جئت بغداد في اجازة، أن انخيدوانا مخطوبة الآن الى رجل عجوز {عقيد في دائرة العامة}. طبعاً لم أصدق رزاق في البداية لأنه جاد ولا يمزح معي الى هذا الحد. في يوم ما ذهبت الى المنتدى عصراً وجاءت انخيدوانا تقود سيارة فارهة ضخمة ويجلس الى جوارها رجل عجوز. تجاهلتني وألقت السلام على الآخرين. غادرتُ بناية المنتدى فوراً والنار تضطرم في أشلائي. حين بلغت بي حالة السكر في نادي اتحاد الأدباء الحالة القصوى. أخذت أحرق يدي اليسرى بأعواد الكبريت من دون أن أشعر بأي ألم. في اليوم التالي قطعت اجازتي والتحقت بوحدتي. بعد أيام وصلت صحيفة القادسية الى الوحدة وفي صفحتها الثقافية قصيدة لانخيدوانا تقول فيها:
{أرح صمتكَ الآن
على مطر ينزوي في كذب الزمان
ووعود أصدقاء يمرون
كم كان موتي هادئاً
لكن دمعتكَ أقلقتني. أربكت كل هذا البياض}.

صلاة الى انخيدوانا
ضوء في الزمن الذي بلا خيانات
ضوء العشب الذي هو خمرة وخزائن شفافيات مدفونة بعمق
تحت مرتفعات الليل، والحديقة بين الشموع تشتعل على الأنهار.
ميثاق الظلمة التي تصالح جمرنا المنقوع بالصرخات
ميثاق بلورات تنهداتنا التي يرفعها الغراب الأخضر.
ما الذي يجعلنا نترقب الحطامات في بهو الضباب؟
يا أملُ
في الأرض غير المرئية
أرض السهرات القديمة
تتقدم مجاميع من مصابيحكِ وترفع بصيفها ثلوج أشجارنا العارية
تتقدم أنفاسكِ المضيئة التي تتمدد مثل سماء خضراء ثقلها ثمار
ذهب تكسوه الزرقة الأسيانة.
يا أملُ
فوق جبينك، جبين الأحجار الكريمة
تتكاثر أصداف الماضي
يرحل الشجن مع غيومه المحروقة
نسمعكِ تسافرين مع أشجار تحضن تحت أثدائها فضائح جنرالات يتعذبون
الأمواج. الحجارة الحبلى متشابهة وتئن تحت نار شفتيكِ
افتحي ذراعيكِ واستقبلينا نحن عشاقكِ المجانين
سننحني عليكِ مثل حلم يضيء بقمحه صحراء العالم.
يا أملُ
عم بذخاً يا وجهاً يرفل بهالاته
يا وجهاً أشدّ لمعاناً من لمعان العقيق العتيق.
يدكِ النجمة، تسهر وحيدة تحت ظلال الموسيقى المرفوعة فوق الرماد.
بيضاء تحت نهر من الشمس المتسلحة بالخضرة الدائمة.
يا عظم الليل اللامع في أرض الهدنات المتكسرة والمنقلبة
ويا دفء الريش المختلط بحجارة أرض ضفافنا الوقورة
اكشفي وجهكِ الذي هو وجه الشعلة المتأرجحة والمشدوهة
وجه الموسيقى المتعاقدة مع الأقمار
وجهكِ أساور من ريش يسفعها البرد
عندما تمشين. تمشي أمامكِ ظلالنا وتنفتح الظلمة المرصعة بالتوهجات
شفتاك الخضراوان تنيران باستمرار أرض العالم
فوق. قرب النبع الأرضي، تصعد رغباتنا مجهدة
وتنطفىء الصرخات. لهيب المشاعل يضيء السقوف المليئة بالأقنعة.
مشدودون الى الماضي نرقبكِ في النار العشقية ونظراتنا تقفز متموجة
بين الرمل وبين الريش العاري
اصعدي بمياهكِ الينا
ازيحي الانهدامات عن نهارنا المنقلب صوب الأيام الشبحية التي تومض
لموتنا المزدحم بنقوش العطش والخسارات.
شمسنا ناقصة ومثلومة وليلكِ متلألىء ومرفرف براياته وثرياته الكبيرة.
صخور الريح تقوّض جدران رغباتنا المحمومة وأنتِ تحيطيننا بذهبكِ
الحار وترفعين أمواجاً متنهدة.
ذراع قرنفلة وحيد
ضرع بقرة مسيحية يلمع فوق تل من الصلبان
وشجرة من النوم تثغو باتجاه الليل اللامتناهي
ضباء
وجزر عشقيات
واللوعة والقيثارات اللاهثة بين مشاعل الصيف
قلائد حاضر مجنون
والضجة البعيدة للسيف المجاور للوردة
طعم السهر، حيث لا نبع ولا سنبلة.
في مدن لا أضواء فيها
تتلاشى رغباتنا تحت غثيانات ثقيلة وتخفت حماساتنا لعناق الليل وخطواته
المستديرة والمنسجمة مع الشواطىء والأغصان المليئة بالجذام والظلمة.
آهِ، ما أقسى الليل في أعشاش المقابر
ما أقسى الفراشات السود التي تنحني في الهاوية الموشوشة
ما أقسى الصمت المتوهج بين الحشائش النائمة.
مثل نورس يهاجر
يدخل العاشق حمّى أحزانه
همسات العاشقة تحلّق فوق مروج الماضي المطفأة
وفي الحاضر الشرس يتمرأى الميتون.
بهدوء مع ثلج الخيانة وقبر الأكاذيب الوردية
يضطجع العاشق
في حلبة جنونه.

بيت المرحاض
يتقدم قانون الأحوال الشخصية في العراق على نظيره في مصر من خلال عدم اجبار الزوجة بالقوة اذا تركت زوجها لسبب ما، الى ما يسمونه بيت الطاعة، ويترك لها خيار العودة الى بيت الزوج متى ما تحسنت الظروف وشاءت هي، وتسمى هذه الحالة {النشوز}، أما في مصر فيتم احضار الزوجة الناشز بالقوة واجبارها على العودة لزوجها الذي يتحكم فيها وكأنه قد اشترى بقرة ليسومها سوء العذاب برجولته وشهامته العربية الأصيلة. هناك الكثير من المشاكل التي تحيّر القضاة في المحاكم العربية المختصة بالأحوال الشخصية في حالات الطلاق التي تحدث في كل يوم. في كل قضية تلح الزوجة على الطلاق والزوج يرفض، وبما أن الزوجة لا تستطيع في أغلب الأحيان أن تقدم الأسباب الحقيقية التي يعرفها القاضي جيداً بحكم خبرته وآلاف المشاكل المماثلة التي مرت عليه خلال سنوات عمله، فالمسألة قد تتعطل وتطول الى ما لانهاية. ينبغي الآن سنّ قانون عقوبات حول الزوج الذي ترفضه زوجته ولا تريده ويتمسك بها عبر اللجوء الى المحكمة التي تعيدها الى مرحاض الطاعة. آملُ تكون احدى هذه العقوبات على الشكل التالي. 7 بلوكات حجر يقف فوقها الشرطي وبيده سوط والزوج المكروه مكتوف الأيدي والأرجل ومربوط الى شجرة والشرطي يضربه على مؤخرته العارية 327 سوطاً.

ثقافة الشذوذ
طبعاً هناك أسباب عديدة لثقافة الشذوذ التي يخلقها العقل الذكوري في مجتمعاتنا. تبدأ من الحالات المرضية و الكبت والحرمان والخوف من الجنس الذي يغلفه المجتمع الذكوري بمقدس ديني وعشائري. صعوداً الى استفحال العادة السرية التي يدمنها الكثير من الرجال والنساء ونشوء الخيالات وأوهامها واغتصاب الأطفال وسفاح القربى ونكاح الحيوانات الأليفة، الى الشعر التافه والمنحط والأغاني الرخيصة والرقصات التي نعّلم المرأة كيفية تأديتها ونصيغها حسب رغباتنا الذكورية. ألا يشعر المرء بالقرف من المطربات المنفرات المفعوصات في قنواتنا التلفازية العربية وهن يظهرن بملابس شبيهة بملابس المهرجين ويهززن مؤخراتهن بطرق تخلو من أي ذوق ويخفين أثدائهن؟ من المفروض أن يكشفن عن أثدائهن وأفخاذهن وهن يرقصن، لا أن يخفين الأثداء والأفخاذ ويظهرن فقط المؤخرات الكبيرة الشبيهة بالبراميل. ربما سائل يسأل هنا: ما ذنب المطربات اللواتي تنقصهن الثقافة والخبرة الموسيقية والموهبة هنا؟ أليس المطربات نتاج ثقافة فرضها العقل الذكوري في مجتمعاتنا وأصبحت أشبه بالقانون الذي تسير على هديه أغلب النساء في السوق والبيت والمدرسة والتلفاز ومكان الوظيفة؟.

عشيرة السيد الرئيس
في الشهر السابع من عام 1991 رغب الشعراء الشباب بالعراق في تحقيق حلم لهم يتمثل باقامة ملتقى شعري على غرار ملتقى شعراء السبعينات الذي تم عقده في عام 1978 من خلال منتدى الأدباء الشباب الذي يرأسه عدنان الصائغ، طالما أن اتحاد الأدباء والكتّاب ووزارة الثقافة والاعلام لا يعترفان بهؤلاء الشعراء ولا في قصيدة النثر التي يصر هؤلاء الشعراء على كتابتها ومحاولة ترسيخها بقوة. كانت الأحلام الشعرية كبيرة والفكرة محمومة. تمت مفاتحة الكثير من الشعراء والنقاد وبعد أسابيع وأشهر اكتمل المشروع وتم تسليم القصائد بعد أن أجازتها لجنة رقابة في وزارة الثقافة والاعلام الى النقاد والباحثين من أجل تقديم دراسات عنها في الحلقات النقاشية المزمع عقدها في الوقت الذي يحدده القائمون على الملتقى. رفض اقامة هذا المهرجان رعد بندري الجندي السابق في دائرة التوجيه السياسي والذي حصل على لقب {شاعر أم المعارك} بمرسوم جمهوري عام 1991 على قصائده العمودية التي يمدح فيها صدام وشقة فخمة وعطايا كبيرة وتم تعيينه مستشاراً لوزير الثقافة والاعلام في البداية ولاحقاً مديراً عاماً لدائرة ثقافة الأطفال وبعدها السكرتير الأول لرئيس {التجمع الثقافي في العراق} عدي صدام حسين ومن ثم رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق. هو شاعر عمودي عادي جداً. لم يصدر أية مجموعة. أصيب الجميع بالاحباط بعد أن كنّا نعتقد أننا من خلال هذا الملتقى سنستطيع أن نفرض أنفسنا في الواقع الثقافي وتصبح لنا ولقصيدة النثر التي نكتبها منذ عام 1980 شرعية ثقافية بعد أن عانينا من الاقصاء والتهميش طوال 10 سنوات ولم نستطع أن ننشر قصائدنا غير المعنية بحروب نظام صدام. طبعاً من غير الممكن أن يقوم رعد بندر بالغاء هذا الملتقى من تلقاء نفسه، ويبدو أن وزارة الثقافة والاعلام التي كان يديرها آنذاك سكرتير صدام للشؤون الأمنية منذ عام 1979 حامد يوسف حمادي لها حساباتها وبرامجها التي تقوم على الاقصاء والتعتيم على الصامتين والمشكوك في ولائهم للنظام والذين لم يمجدوا حروبه ولم يمدحوا رأسه. في مناخ ملوث كهذا كتبت موضوعاً بعنوان {رعد بندر واعدام ملتقى شعراء الثمانينات} ونشرته في صحيفة {بابل} يوم 25 / 12 / 1991. بينت فيه الجهود التي بذلها أعضاء المكتب التنفيذي في منتدى الأدباء وذكرت فيه أن هؤلاء قد بذلوا الجهود الكبيرة من أجل اقامة ملتقى شعراء الثمانينات وأن هناك بوناً شاسعاً بين الشعراء الشباب وبين رعد بندر على اعتبار انهم يكتبون قصيدة النثر والشعر الحر وهو شاعر عمودي يقف بالضد من قصيدة النثر. في يوم 30 / 12 / 1991 نشر رعد بندر بتكليف من وزير الثقافة والاعلام ردّاً يهاجمني فيه في نفس الصحيفة واتهمني فيه أنني {لم أكتب قصائد للحرب ولا عن السيد الرئيس} وانني {رفضت الكتابة بدعوى الوقت وبدعوى عدم الاستعداد} وقال عني ليوحي انني أسكن في محافظة الناصرية وأنني اشتركت في الانتفاضة التي قامت هناك: {ليس من حق أي أديب مهما كان أن يتحدث بهذه الطريقة التي طرحها نصيف ثجيل الناصري مادام منشغلاً بالغنائم بعيداً عن خيام الوطن} وطلب مني أن {لا استخدم لقب الناصري لأنه خاص بعشيرة السيد الرئيس} وذكر انني قلت عنه انه {عاق وتخلى عن وظيفة الشعر الأصلية} عبر مديحه الدائم لصدام، حين ذكرت البون الشاسع بينه وبين الشعراء الشباب وراح يمجد ولي نعمته ويوحي انني ضد مديحه للطاغية. ماذا أفعل ازاء وضع كهذا؟ يكتب عني مستشار وزير الثقافة والاعلام انني لم أمدح الرئيس ولم أمجد حروبه وانني خائن للوطن ومشترك في الانتفاضة وانني استخدم لقب عشيرة الرئيس. هل يلقي القبض عليّ جهاز الأمن الخاص كما حدث لعزبز السيد جاسم وضرغام هاشم في تلك السنة؟ قمت بعد أيام رعب كبيرة شرحتها باسهاب في الفصل الأول من كتابي {معرفة أساسية: الحرب. الشعر. الحب. الموت} بكتابة ونشر رد على موضوع رعد بندر في صحيفة {بابل} يوم 5 كانون الثاني 1992 ويصيبني العجب الآن كلما أعدت قراءة هذا الرد وأتساءل: كيف سمحت لنفسي أن أكتب في صحيفة عدي صدام في عام 1991 أن الشعر الذي كان يكتب لصدام وحروبه {مجاز جماهيري} وأشكك في قيمته وفي مؤسسات النظام الاعلامية والثقافية، وأدعي {انني عندي وظيفة وغير محتاج الى أي شيء وأود أن لا أحسب على جمعية الشحاذين} والمقصود فيها هي تلك العطايا التي يحصل عليها الذين يمدحون ويمجدون نظام الطغيان؟
رسالة الى جان من الجبهة
شاعر عمودي في بغداد
يتأبط ساعد امرأة فارغة البال
في شقة تتضوع بتعهرات وعطور يكتب قصائد عن الحرب
شاعر عمودي محكوم بالأشغال الكلاسيكية
في جيبه مسدس ومفاتيح
عزيزي جان دمو
لا تستمع الى الأناشيد الحربية
ترقب عودتنا نحن الجنود الحزانى
سنعود مثقلين بأغانٍ حيّة ونحدثك
عن الموت المجاني وقصف المدافع والطائرات
ونهارات الخنادق الغائبة
سنحكي لك عن مدن وقرى ترفعها القذائف الثقيلة في الهواء
لا عن رماح وسيوف وخيول لفظية تغير
هل تريد هدايا من الجبهة؟
سنجلب لك دفاتر مجلدة بشظايا قذائف لتكتب تاريخ ليالينا.

المتسلط
أحدهم، طويل القامة طويل طويل
يحمل بندقية محشوة وسلاسل
أجلسني في تابوت وقال: {من أنتَ؟}
أجبته وخيمة رأسي ترتفع
وقبري يهرول صوبي
وآخر غصن من حياتي ينكسر
: {الشاعر نصيف الناصري}
ألقى البندقية والسلاسل وخرّ لي ساجداً
يقبّل الأرض التي تهتز من شدّة رعبي.

أطفال
تزوجت أمي أبي وكان عمرها 16 سنة وأنجبتني عندما كانت في عمر 17 سنة. عندما جئتُ الى السويد قبل 8 أعوام أثارت انتباهي ظاهرة الشباب الذين يتقدمون الى الكبار ويتوسلون أن يبيعوهم السكاير. يتقدم اليك فتى أو فتاة ناضجة جداً، لو تكون ولدت في دولة عربية لكان عندها الآن زوج وطفل وتطلب منك أن تبيعها سيكارة مقابل كرونين. طبعاً أنا كنت أمنح هؤلاء الشباب السكاير من دون مقابل واستغرب لماذا لا يذهبون الى الحوانيت ويشترون ما يودون من سكاير. في الباص يدفعون نصف الأجرة ولست أدري لماذا؟ فسرتها في البداية بيني وبين نفسي أنا القادم للتو الى السويد في أن هؤلاء الشباب طلبة ولديهم تخفيضات من شركات النقل. بعد شهور أخبرني صديقي الشاعر العمُاني زاهر الغافري أن هؤلاء الشبا


مواضيع ذات صلة

elaphالفرحة الكبرى... الطيب الصديقي
  • الإثنين 27 أبريل 2009 - 17:45 GMT

الفرحة الكبرى... الطيب الصديقي

elaphالجانب الآخر من التشكيل الغربي
  • الثلاثاء 28 أبريل 2009 - 06:00 GMT

الجانب الآخر من التشكيل الغربي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف

أضف تعليقك

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.