سيامند هادي*
ترجمة عن الكردية/ شيرين. ك
هدم الجسر الصغير وملء تلك الترعة الطويلة التي كانت تقسم بيوت الحي الى قسمين قد جعل العودة الى امكنة الماضي معقدا، فمجيء العائلات الميسورة الى ذلك الحي وبناء بيوت حديثة مكان البيوت القديمة من جهة أخرى قد جعل وجوه الامكنة في ذاكرته باهتة.
لم يكن ليقتنع ابدا بأن الشارع المبلط للحي الان أجمل من الزقاق الذي كان مليئا بالحفر والذي كان مرتعا لالعاب طفولته، والعصفورة التي تحط الان على الاسيجة المزينة بنثارات الاسمنت لن تكون أجمل من العصفورة التي كانت تحط على حافة سطح البنايات الطينية انذاك.
بنظرة خاطفة شعر تماما بأن ذكرياته قد طمرت تحت الشارع المبلط والبيوت العالية الجميلة، كان يرى عودته هذه كعودة شخص يقف امام حي متهدم، لم يكن يرى اي فرق بين البناء والهدم. اذ كان الهدم يجلب معه وأد الرؤى والذكريات، فالبناء في كثير من الاحيان تصل الى النتيجة ذاتها! لا يمكن للركض فوق جسر صغيرو مهتز ان يعطينا الاحساس ذاته عندما نركض فوق شارع مبلط و من المستحيل ان تكون ضوضاء السيارات المارة فوق الشارع المبلط أحلى من صوت خرير مياه الترعة.
بعد تمعن قصير أعاد الى ذهنه بعض الرؤى لكي يكسر هذا الاندهاش الذي يدفعه للتساؤل ولكن يسأل من؟ ربما لأنه لا يعرف معظم الذين سكنوا هذا الحي في الوقت الحاضر اما الذين بقوا فيه لم يعد لديه اية روابط تربطه بهم. لذلك وصل سريعا الى القناعة التي تجعله ان لا يسأل بتاتا، بل ان لا يسأل احدا، يسأل عن ماذا؟ كل شيء واضح للعيان فهذه التغيرات التي تبدو على ملامح كل الاماكن تحمل في جنباتها اجوبة لكل الاسئلة. وفي تطلع وجيز شعر بقطيعة كبيرة بينه وبين هذا الحي الذي قضى فيه سنوات عديدة من عمره بحيث ان تلك التغيرات لم تدع له مجالا ليربط نفسه قيد شعرة بمكان ولو صغير في هذا الحي.
بعد سنوات عديدة من الفراق عندما عاد الى الحي و نظر الى زاوية الزقاق لاول مرة، شعر بشيء ناقص في مشهد الزقاق، بداية لم يكتشف ذلك الخلل ثم تذكر العمود المائل الذي قد أزيل ووضع مكانه عمود جديد، هذا المشهد قد محى ذكريات عديدة في داخله، انه لايزال يتذكر جيدا كيف ان الابن السكير لجارهم العم سمايل قد صدم بسيارته ذاك العمود في ليلة ماطرة، اما هو فقد عرف بالحادث صباحا عند ذهابه للمدرسة، لأنه كان نائما اثناء وقوع الحادثة، ولو نظر أحدهم الى السيارة كان ليستغرب الامر كيف لم يصب بسوء هذا الشخص الذي كان موجودا في هذه السيارة. كان يبدد استغرابه حول الحادث وبقاء ابن العم سمايل على قيد الحياة بجملة لوالدته (اكيد ان اجله لم يحن بعد!) لذلك كلما رأى العمود المائل تذكر ابن العم سمايل وكلما رأى الابن تذكر العمود المائل. فأزالة العمود المائل يغيّب الحادث تماما وربما لم يعد أهل الحي يتذكرون الحادث.
كان بيت العم سمايل يحدث لهم اشياء غريبة وكان أهل الحي في كثير من الاحيان يسردون حوادث وحكايات بيت العم سمايل وكان يتذكر بعضا منها، لكنه لم يكن يتذكر تفاصيلها ولم يكن يستطيع ان يربط خيوط تلك الحوادث والحكايات العجيبة لذلك البيت ببعضها.
في احدى الامسيات كان أحد ابناء العم سمايل وكان اكبر من الابن الآخر الذي اصطدم بالعمود-ولا يتذكر اين تشاجر مع احد الفتية، وكانوا يقولون بأنه قد أطلق على الفتى سبع رصاصات وفي الحال وصلت الشرطة وقبضوا عليه وبعد مدة شاع خبر في الزقاق بأنه حكم عليه بالسجن مدة عشرين عاما وكانوا يقولون بأن الرصاصات الست الاولى لم تصب من الولد اماكن حساسة ولولا الرصاصة السابعة لربما لم يمت، الرصاصة السابعة اصابت قلبه.
عندما كان يمشي على الشارع ويعبره بسهولة من جانب الى اخر كان يحس بغربة كبيرة، لأنه في الماضي لم يكن هناك غير بضعة أمتار امام عتبات البيوت وكان يجري في وسط الزقاق ترعة، لذلك عندما كان يريد ان يعبر الى الجانب الاخر كان عليه ان يستدير ثم يعود الى زاوية الزقاق وأن يعبر فوق الجسر الصغير الى الجهة المقابلة. ان تبليط الزقاق كان يجعل غبار الصيف و وحل الشتاء في ذاكرته شاحبا، فأثناء مشيته على أسفلت الزقاق تذكر التراب الناعم الذي كان له منظر مثير في ليلة ربيعية أو صيفية، لم يعد يتذكر جيدا، كان برفقة بعض من أصدقائه يلعبون في الزقاق الذي يقع خلف زقاقهم، فجأة ارتفع صياح وصراخ من زقاقهم فهرع الى هناك، رأى النار تشتعل في بيت العم سمايل وكان أهل الحي يملاءون الدلاء والصحون والطسوت من تراب الزقاق ويرشون به النار وفي مدة قصيرة تمكنوا من السيطرة على النار وأخمادها رغم ان حجم النار التي اشتعلت في باحة بيت العم سمايل كان كبيرا. وكانوا يقولون بأنه قد احترق صفيحتين من البنزين، وكانت إحداها صارت مثقوبة وسال منها البنزين دون ان يعرفوا بالامر وكان احد ابنائهم- ذلك الولد الذي صدم العمود- قد اشعل سيكارة في الباحة ورمى بعود الثقاب المشتعل، فأضُرم النار في البنزين المسال على المساحة الاسمنتية للباحة، فأحترقت الصفيحتين ايضا وكان الغريب في الامر رغم ان مساحة النار كانت كبيرة الا انه لم يحترق سوى خرطوم ماء ملفوف وملقاة جنب الصفيحتين هكذا كان بيت العم سمايل يروون الحادث.
انه وبعد مرور سنوات عديدة على احداث الحي، يفكر في تلك الايام ويجمع حكايات بيت العم سمايل معا، لانه في مرحلة طفولته كان يسمع تلك الحكايات كشذرات ولم يكن يهتم بها آنذاك كثيرا. والان عندما يتطلع في سيماء الزقاق يحس بأن جميع ذكرياته قد شحبت تماما مع تجديد الحي وأصبحت بقايا متهدمة، رغم انه كان يدقق النظر في وجوه الاشخاص الذين يمرون من هناك أو يخرجون من أبواب بيوتهم، لكنه لم يكن بمقدوره وباي شكل من الاشكال ان يجد الشبه بين وجوههم ووجوه من رآهم في طفولته من الذين كانوا يقطنون هذا الحي.
وبنظرة سريعة تصوّر بأنه حتى لو عثر على احدهم وعرفه، فلم يكن يعتقد بأنه يستطيع ان يصنع رابطا بين الحاضر ومرحلة الطفولة، وبعد تفكير وصل الى قناعة ما بأنه مع مرور الزمن ستفقد جميع المشاهد والاحداث الانية أرضيتها لتكون طبيعية مرة اخرى وكذلك اللقاء بعد فراق طويل لن تعود طبيعية ابدا كما كانت في الماضي لأن مجموعة من الحوادث والموضوعات غير المعلنة والتى حدثت اثناء القطيعة تصنع فجوة بحيث ان ملأها يحتاج الى وقت طويل. ربما تسعد هذه التجديدات والتغيرات التي طرأت على الزقاق كثيرا من الناس، لكن هذه التغيرات هي التي التهمت اكثر ذكريات هذا الزقاق، لم يعد أحد يسأل عن سبب ميلان العمود، من ذا يعرف بأنه كان هناك جسر للعبور في هذا الزقاق؟ ولا احد يسأل عن هذا الخط الذي صنعه الوحل على حيطان بيوت الزقاق والذي رسمه الفيضان، هذا التجديد يقتل الاسئلة ويضيّع بدايات خيوط الحكايات في داخله. فزاوية الزقاق لم تعد لها سيماء ذلك الصباح الباكر عندما اجتمع اهل الحي عندها بسبب وجود جثة مرمية هناك، انه وبعد مرور سنوات عديدة كلما كان ينظر الى زاوية الزقاق تلك، كان يرى بصورة خاطفة خيال الجثة في ذاك الصباح.
وكان الزمن في نهايات شهر نيسان، لم يعد يتذكر كم كانت الساعة، خرج من البيت صباحا ليذهب الى المدرسة، فرؤية مجموعة من الناس متحلقين بشكل دائري جذبه الى حيث كانوا، مع انه حدّق في الجثة لمدة خمس دقائق فقط، الا ان المشهد ثبت في ذهنه لسنين طوال، وكلما كان يتحدث عن الامر يقول (الجثة كانت لشاب، يلبس قميصا ابيض وسروالا اسود وكانت حذاءه سوداء وجواربه بيضاء و فردة حذاء قدمه اليسرى ملقاة بالقرب منه، وكان رأسه قد التف جهة اليمين ووضع يده اليمنى على قلبه، جزء من قميصه يبدو سابحا بدمه، كانوا يقولون بأنه تم قتله بالسكين، بعد ذلك أتت سيارة الشرطة واخذوا الجثة معهم) وبحسب ما كان الناس يتداولونه وحسب تحقيقات الشرطة أتفقت جميع الآراء على ان الشاب قد قتل في مكان آخر والقوا بجثته هناك، بعدئذ ظهرت حكايات وآراء عديدة حول اسباب وكيفية قتل هذا الشاب بين اهل الحي وحتى بعد مرور عدة اشهر كانت تُسمع ارآء جديدة حول الحادث. ولكنها كانت مجرد ارآء ولم يعرف قط لماذا قتل هذا الشاب. بعض الناس كانوا يقولون بأن الذين قتلوا الشاب ارادوا ان يلقوا به في الترعة لكنهم خافوا ان يراهم أحد ما فاستعجلوا الامر فألقوا بالجثة في زاوية الزقاق، وكان احدهم يقول يبدو السكر على ملامحه وبعضهم يقول انه قتل بسبب امراة ما. ولايزال يتذكر ان والدته اثناء الحادث تقول (لو لم يكن للشاب اعداء، لما قتلوه) وكان هذا الحادث هو السبب الذي جعل والده ان يقرر ترك الحي بعد مدة.
في بداية عودته كان يتصور بأن رؤية احد اصدقاء طفولته ربما تسعده جدا وتجعله ان يربط الحاضر بالماضي بشكل وثيق ولكن بعد ان امضى وقتا قصيرا في الزقاق وصل الى الاعتقاد بأنه لن يستطيع ان يعيد هذه العلاقة مرة اخرى. لأن المدة التي تقع بين حاضره وذلك الزمن قد قطعت جميع خيوط هذه العلاقة، ربما بأمكانه أن يستعيد مع احد أصدقائه بعضاً من ذكريات الطفولة لكنهم لن يقدروا على اطالة هذا التواصل، اذ لم يكن بمقدور المكان بعث ذكرياته فكيف يستطيع الناس ان يصلوا الى هذه النتيجة؟ صحيح ان رؤيته لهذه الامكنة قد جعلت بعضاً من ذكريات طفولته تمر بخاطره وليست باستطاعة التغيرات ان تمحو بعضاً من الصور القاتمة من ذاكرته، لكن تبقى الصور تمر في الذاكرة دون أن تمد جسرا لربط روحي بهذه الامكنة. أثناء هذه التخيلات فجأة تذكر ما كان يرويها له والده من حكايات عن قريتهم، كان والده قد ترك قريتهم وهو لم يولد بعد ومنذ ذلك الحين لم يجد الوالد ما يجعله يزور قريتهم، وهو لم يعرف عنها سوى ما كان والده يرويه له عنها، كان والده يتحدث عن جمال و روعة قريتهم ويجد بأن اجمل سنوات عمره هي السنوات التي قضاها هناك وكلما كان يسأل والده لماذا لم يزر قريته بعد ان تركها ولو لمرة واحدة كان والده يجيبه عن سؤاله هذا بقوله (القرية كانت رائعة في عهدنا، لكن الآن قد حدثت تغيرات كثيرة على طبيعتها و على ناسها) يومئذ لم يكن يفهم ما كان والده يقصد به من حديثه هذا الا ان عودته الى حيهم القديم جعلته يفهم ما كان يعنيه والده بعدم عودته الى قريتهم، والان اذا سئل هو الاخر عن سبب عدم عودته الى حيهم لن يكون لديه ما يقوله الا ما كان والده سيجيب به.
اثناء تجواله في أزقة حيهم لم يكن يعلم بالضبط لماذا يتذكر فجأة كل الحوادث التي كان والده يرويها له عن قريتهم، في كثير من الاحيان ولأجل التسلية كان والده يروي عن احدى عائلات قريتهم وكانت تدعى بيت (العم حسن) كان والده يضحك كثيرا أثناء حديثه عنهم. رغم ان حياة بيت العم حسن مليئة بالضحك والسخرية الا ان الاحداث التي كانت تقع لهم حينذاك لم تكن تنظر اليها هكذا.
كان والده يحكي لهم الكثير عن بيت العم حسن الا انه يتذكر نتفاً منها فقط، وكان يروي مرارا عن أحد ابناء العم حسن الذي اصطدم بجراره الزراعي الحائط الخلفي لطاحونة القرية وهدمه، ورغم انه وبعد مرور بضعة ايام قد اصلحوا الحائط لكن اهل القرية اطلقوا على الطاحونة اسم (الطاحونة المتهدمة) واذ سئل احد ما عن سبب هذه التسمية كان عليهم ان يسردوا الحادث.
في بعض الاحيان قد تتخذ الاحداث الدرامية شكلا كوميديا اثناء سردها ويعود سبب ذلك الى المدة التي مرت على وقوع الحادث، ولأن رواية الاحداث كلها معا وبعد انقضاء الزمن تجعل تلك الاحداث تبدو مضحكة، لذلك كان والده يتحدث عن هذا الحادث ضاحكا وهو يقول (في احد الايام كان احد ابناء العم حسن -وكان اكبر من الابن الذي صدم حائط الطاحونة بجراره الزراعي- يتشاجر مع احد ابناء قريتهم الذي زاحمه في الدور على سقي مزروعاتهم، فما كان منه الا وضربه برفش على رأسه فقتله في الحال وهرب ومنذ ذلك الوقت لا احد يدري اين ذهب ولا حتى بيت العم حسن). رغم ان والده يحكي في كثير من الاحيان عما رآه في طفولته من مأسي وبؤس وجوع ولكنه في كل الاحوال يفضل هذا الماضي وفي نهاية كل حديث عن الماضي كان يقول (كيف كان الحال، وكيف اصبح!) كان والده يحس بفرق كبير بين طبائع ومعيشة الناس في مرحلة طفولته عنها في مرحلة كهولته وفي كل مرة كان يروي حادثا كدليل على روح التعاون لدى الناس في ذلك العهد ويقول (في احدى الليالي كان احد ابناء العم حسن-هذا الذي صدم حائط الطاحونة بجراره الزراعي- يدخل الحظيرة لامر ما وهو يحمل فانوسا وعند خروجه كان قد نسى الفانوس هناك فاندلع حريق في الحظيرة، وبعد مدة وجيزة اجتمع اهل القرية واخمدوا الحريق في مدة قصيرة وكانوا يقولون فلربما اوقعت بهيمة ما الفانوس على كومة التبن الموضوعة في احدى زوايا الحظيرة، قفزت البهائم مع اندلاع النار ونفذت بجلدها ولم يحترق شيئا سوى قطعة حبل).
ما كان يقصده والده في روايته لهذا الحدث هو تكاتف اهل القرية في مدة قصيرة لذا كان كلما يتحدث عن الحياة الآسرة لقريتهم وكرد لاي سؤال كان يقول (لولا مقتل هذه المرأة التي القوا بجثتها قرب بيتنا لما غادرنا القرية واتينا للمدينة) وكان يروي الحادثة بقوله انه في احدى مساءات شهر تموز وفي الوقت الذي يعود فيه اهل القرية من اعمالهم الزراعية نحو القرية وعلى مفترق الطريق الذي يقسم بيوت القرية الى قسمين، لمحوا جثة امرأة ورغم ان اباه لم يجرؤ على التحديق طويلا في الجثة كان يقول (ولا تزال صورة هذه المرأة ماثلة في ذهني) ولم يتعرف أحد من اهالي القرية على تلك المرأة لذلك دفنوا جثتها في اليوم التالي ولم يعثروا على قريب لها حتى بعد مرور وقت طويل، ودون ان يعرف احدهم هذه المرأة قبلا او لديه معلومات عنها، فقد نسجوا حولها حكايات كثيرة، وكان والده يقول (سببت لنا هذه الحادثة هما كبيرا ولم نستطع ان نبقى في هذه القرية بعد ذلك، لاننا نتخيل منظر جثتها على الدوام..)
من روايته لهذه الحادثة كان يحس بالتأثير الكبير لمنظر جثة هذه المرأة على ابيه، لذلك كلما روى هذه الحادثة يصف الجثة بدقة (كانت الجثة لأمرأة ناضجة، كانت تبدو كأنها هيأت نفسها للاعمال الزراعية حيث كانت تلبس قميصا اسود وسروالا ابيض وكانت حذائها بيضاء وجواربها سوداء وقد وقعت فردة حذائها اليمنى بالقرب منها وقد القيت بالجثة على ظهرها والتف رأسها جهة اليسار وقد وضعت يدها اليسرى على قلبها ولم تكن هناك اي دم على جثتها، أحمرت عنقها فقط وكانت تبدو وكأنها قد خنقت).
لم يكن ليقتنع ابدا بأن الشارع المبلط للحي الان أجمل من الزقاق الذي كان مليئا بالحفر والذي كان مرتعا لالعاب طفولته، والعصفورة التي تحط الان على الاسيجة المزينة بنثارات الاسمنت لن تكون أجمل من العصفورة التي كانت تحط على حافة سطح البنايات الطينية انذاك.
بنظرة خاطفة شعر تماما بأن ذكرياته قد طمرت تحت الشارع المبلط والبيوت العالية الجميلة، كان يرى عودته هذه كعودة شخص يقف امام حي متهدم، لم يكن يرى اي فرق بين البناء والهدم. اذ كان الهدم يجلب معه وأد الرؤى والذكريات، فالبناء في كثير من الاحيان تصل الى النتيجة ذاتها! لا يمكن للركض فوق جسر صغيرو مهتز ان يعطينا الاحساس ذاته عندما نركض فوق شارع مبلط و من المستحيل ان تكون ضوضاء السيارات المارة فوق الشارع المبلط أحلى من صوت خرير مياه الترعة.
بعد تمعن قصير أعاد الى ذهنه بعض الرؤى لكي يكسر هذا الاندهاش الذي يدفعه للتساؤل ولكن يسأل من؟ ربما لأنه لا يعرف معظم الذين سكنوا هذا الحي في الوقت الحاضر اما الذين بقوا فيه لم يعد لديه اية روابط تربطه بهم. لذلك وصل سريعا الى القناعة التي تجعله ان لا يسأل بتاتا، بل ان لا يسأل احدا، يسأل عن ماذا؟ كل شيء واضح للعيان فهذه التغيرات التي تبدو على ملامح كل الاماكن تحمل في جنباتها اجوبة لكل الاسئلة. وفي تطلع وجيز شعر بقطيعة كبيرة بينه وبين هذا الحي الذي قضى فيه سنوات عديدة من عمره بحيث ان تلك التغيرات لم تدع له مجالا ليربط نفسه قيد شعرة بمكان ولو صغير في هذا الحي.
بعد سنوات عديدة من الفراق عندما عاد الى الحي و نظر الى زاوية الزقاق لاول مرة، شعر بشيء ناقص في مشهد الزقاق، بداية لم يكتشف ذلك الخلل ثم تذكر العمود المائل الذي قد أزيل ووضع مكانه عمود جديد، هذا المشهد قد محى ذكريات عديدة في داخله، انه لايزال يتذكر جيدا كيف ان الابن السكير لجارهم العم سمايل قد صدم بسيارته ذاك العمود في ليلة ماطرة، اما هو فقد عرف بالحادث صباحا عند ذهابه للمدرسة، لأنه كان نائما اثناء وقوع الحادثة، ولو نظر أحدهم الى السيارة كان ليستغرب الامر كيف لم يصب بسوء هذا الشخص الذي كان موجودا في هذه السيارة. كان يبدد استغرابه حول الحادث وبقاء ابن العم سمايل على قيد الحياة بجملة لوالدته (اكيد ان اجله لم يحن بعد!) لذلك كلما رأى العمود المائل تذكر ابن العم سمايل وكلما رأى الابن تذكر العمود المائل. فأزالة العمود المائل يغيّب الحادث تماما وربما لم يعد أهل الحي يتذكرون الحادث.
كان بيت العم سمايل يحدث لهم اشياء غريبة وكان أهل الحي في كثير من الاحيان يسردون حوادث وحكايات بيت العم سمايل وكان يتذكر بعضا منها، لكنه لم يكن يتذكر تفاصيلها ولم يكن يستطيع ان يربط خيوط تلك الحوادث والحكايات العجيبة لذلك البيت ببعضها.
في احدى الامسيات كان أحد ابناء العم سمايل وكان اكبر من الابن الآخر الذي اصطدم بالعمود-ولا يتذكر اين تشاجر مع احد الفتية، وكانوا يقولون بأنه قد أطلق على الفتى سبع رصاصات وفي الحال وصلت الشرطة وقبضوا عليه وبعد مدة شاع خبر في الزقاق بأنه حكم عليه بالسجن مدة عشرين عاما وكانوا يقولون بأن الرصاصات الست الاولى لم تصب من الولد اماكن حساسة ولولا الرصاصة السابعة لربما لم يمت، الرصاصة السابعة اصابت قلبه.
عندما كان يمشي على الشارع ويعبره بسهولة من جانب الى اخر كان يحس بغربة كبيرة، لأنه في الماضي لم يكن هناك غير بضعة أمتار امام عتبات البيوت وكان يجري في وسط الزقاق ترعة، لذلك عندما كان يريد ان يعبر الى الجانب الاخر كان عليه ان يستدير ثم يعود الى زاوية الزقاق وأن يعبر فوق الجسر الصغير الى الجهة المقابلة. ان تبليط الزقاق كان يجعل غبار الصيف و وحل الشتاء في ذاكرته شاحبا، فأثناء مشيته على أسفلت الزقاق تذكر التراب الناعم الذي كان له منظر مثير في ليلة ربيعية أو صيفية، لم يعد يتذكر جيدا، كان برفقة بعض من أصدقائه يلعبون في الزقاق الذي يقع خلف زقاقهم، فجأة ارتفع صياح وصراخ من زقاقهم فهرع الى هناك، رأى النار تشتعل في بيت العم سمايل وكان أهل الحي يملاءون الدلاء والصحون والطسوت من تراب الزقاق ويرشون به النار وفي مدة قصيرة تمكنوا من السيطرة على النار وأخمادها رغم ان حجم النار التي اشتعلت في باحة بيت العم سمايل كان كبيرا. وكانوا يقولون بأنه قد احترق صفيحتين من البنزين، وكانت إحداها صارت مثقوبة وسال منها البنزين دون ان يعرفوا بالامر وكان احد ابنائهم- ذلك الولد الذي صدم العمود- قد اشعل سيكارة في الباحة ورمى بعود الثقاب المشتعل، فأضُرم النار في البنزين المسال على المساحة الاسمنتية للباحة، فأحترقت الصفيحتين ايضا وكان الغريب في الامر رغم ان مساحة النار كانت كبيرة الا انه لم يحترق سوى خرطوم ماء ملفوف وملقاة جنب الصفيحتين هكذا كان بيت العم سمايل يروون الحادث.
انه وبعد مرور سنوات عديدة على احداث الحي، يفكر في تلك الايام ويجمع حكايات بيت العم سمايل معا، لانه في مرحلة طفولته كان يسمع تلك الحكايات كشذرات ولم يكن يهتم بها آنذاك كثيرا. والان عندما يتطلع في سيماء الزقاق يحس بأن جميع ذكرياته قد شحبت تماما مع تجديد الحي وأصبحت بقايا متهدمة، رغم انه كان يدقق النظر في وجوه الاشخاص الذين يمرون من هناك أو يخرجون من أبواب بيوتهم، لكنه لم يكن بمقدوره وباي شكل من الاشكال ان يجد الشبه بين وجوههم ووجوه من رآهم في طفولته من الذين كانوا يقطنون هذا الحي.
وبنظرة سريعة تصوّر بأنه حتى لو عثر على احدهم وعرفه، فلم يكن يعتقد بأنه يستطيع ان يصنع رابطا بين الحاضر ومرحلة الطفولة، وبعد تفكير وصل الى قناعة ما بأنه مع مرور الزمن ستفقد جميع المشاهد والاحداث الانية أرضيتها لتكون طبيعية مرة اخرى وكذلك اللقاء بعد فراق طويل لن تعود طبيعية ابدا كما كانت في الماضي لأن مجموعة من الحوادث والموضوعات غير المعلنة والتى حدثت اثناء القطيعة تصنع فجوة بحيث ان ملأها يحتاج الى وقت طويل. ربما تسعد هذه التجديدات والتغيرات التي طرأت على الزقاق كثيرا من الناس، لكن هذه التغيرات هي التي التهمت اكثر ذكريات هذا الزقاق، لم يعد أحد يسأل عن سبب ميلان العمود، من ذا يعرف بأنه كان هناك جسر للعبور في هذا الزقاق؟ ولا احد يسأل عن هذا الخط الذي صنعه الوحل على حيطان بيوت الزقاق والذي رسمه الفيضان، هذا التجديد يقتل الاسئلة ويضيّع بدايات خيوط الحكايات في داخله. فزاوية الزقاق لم تعد لها سيماء ذلك الصباح الباكر عندما اجتمع اهل الحي عندها بسبب وجود جثة مرمية هناك، انه وبعد مرور سنوات عديدة كلما كان ينظر الى زاوية الزقاق تلك، كان يرى بصورة خاطفة خيال الجثة في ذاك الصباح.
وكان الزمن في نهايات شهر نيسان، لم يعد يتذكر كم كانت الساعة، خرج من البيت صباحا ليذهب الى المدرسة، فرؤية مجموعة من الناس متحلقين بشكل دائري جذبه الى حيث كانوا، مع انه حدّق في الجثة لمدة خمس دقائق فقط، الا ان المشهد ثبت في ذهنه لسنين طوال، وكلما كان يتحدث عن الامر يقول (الجثة كانت لشاب، يلبس قميصا ابيض وسروالا اسود وكانت حذاءه سوداء وجواربه بيضاء و فردة حذاء قدمه اليسرى ملقاة بالقرب منه، وكان رأسه قد التف جهة اليمين ووضع يده اليمنى على قلبه، جزء من قميصه يبدو سابحا بدمه، كانوا يقولون بأنه تم قتله بالسكين، بعد ذلك أتت سيارة الشرطة واخذوا الجثة معهم) وبحسب ما كان الناس يتداولونه وحسب تحقيقات الشرطة أتفقت جميع الآراء على ان الشاب قد قتل في مكان آخر والقوا بجثته هناك، بعدئذ ظهرت حكايات وآراء عديدة حول اسباب وكيفية قتل هذا الشاب بين اهل الحي وحتى بعد مرور عدة اشهر كانت تُسمع ارآء جديدة حول الحادث. ولكنها كانت مجرد ارآء ولم يعرف قط لماذا قتل هذا الشاب. بعض الناس كانوا يقولون بأن الذين قتلوا الشاب ارادوا ان يلقوا به في الترعة لكنهم خافوا ان يراهم أحد ما فاستعجلوا الامر فألقوا بالجثة في زاوية الزقاق، وكان احدهم يقول يبدو السكر على ملامحه وبعضهم يقول انه قتل بسبب امراة ما. ولايزال يتذكر ان والدته اثناء الحادث تقول (لو لم يكن للشاب اعداء، لما قتلوه) وكان هذا الحادث هو السبب الذي جعل والده ان يقرر ترك الحي بعد مدة.
في بداية عودته كان يتصور بأن رؤية احد اصدقاء طفولته ربما تسعده جدا وتجعله ان يربط الحاضر بالماضي بشكل وثيق ولكن بعد ان امضى وقتا قصيرا في الزقاق وصل الى الاعتقاد بأنه لن يستطيع ان يعيد هذه العلاقة مرة اخرى. لأن المدة التي تقع بين حاضره وذلك الزمن قد قطعت جميع خيوط هذه العلاقة، ربما بأمكانه أن يستعيد مع احد أصدقائه بعضاً من ذكريات الطفولة لكنهم لن يقدروا على اطالة هذا التواصل، اذ لم يكن بمقدور المكان بعث ذكرياته فكيف يستطيع الناس ان يصلوا الى هذه النتيجة؟ صحيح ان رؤيته لهذه الامكنة قد جعلت بعضاً من ذكريات طفولته تمر بخاطره وليست باستطاعة التغيرات ان تمحو بعضاً من الصور القاتمة من ذاكرته، لكن تبقى الصور تمر في الذاكرة دون أن تمد جسرا لربط روحي بهذه الامكنة. أثناء هذه التخيلات فجأة تذكر ما كان يرويها له والده من حكايات عن قريتهم، كان والده قد ترك قريتهم وهو لم يولد بعد ومنذ ذلك الحين لم يجد الوالد ما يجعله يزور قريتهم، وهو لم يعرف عنها سوى ما كان والده يرويه له عنها، كان والده يتحدث عن جمال و روعة قريتهم ويجد بأن اجمل سنوات عمره هي السنوات التي قضاها هناك وكلما كان يسأل والده لماذا لم يزر قريته بعد ان تركها ولو لمرة واحدة كان والده يجيبه عن سؤاله هذا بقوله (القرية كانت رائعة في عهدنا، لكن الآن قد حدثت تغيرات كثيرة على طبيعتها و على ناسها) يومئذ لم يكن يفهم ما كان والده يقصد به من حديثه هذا الا ان عودته الى حيهم القديم جعلته يفهم ما كان يعنيه والده بعدم عودته الى قريتهم، والان اذا سئل هو الاخر عن سبب عدم عودته الى حيهم لن يكون لديه ما يقوله الا ما كان والده سيجيب به.
اثناء تجواله في أزقة حيهم لم يكن يعلم بالضبط لماذا يتذكر فجأة كل الحوادث التي كان والده يرويها له عن قريتهم، في كثير من الاحيان ولأجل التسلية كان والده يروي عن احدى عائلات قريتهم وكانت تدعى بيت (العم حسن) كان والده يضحك كثيرا أثناء حديثه عنهم. رغم ان حياة بيت العم حسن مليئة بالضحك والسخرية الا ان الاحداث التي كانت تقع لهم حينذاك لم تكن تنظر اليها هكذا.
كان والده يحكي لهم الكثير عن بيت العم حسن الا انه يتذكر نتفاً منها فقط، وكان يروي مرارا عن أحد ابناء العم حسن الذي اصطدم بجراره الزراعي الحائط الخلفي لطاحونة القرية وهدمه، ورغم انه وبعد مرور بضعة ايام قد اصلحوا الحائط لكن اهل القرية اطلقوا على الطاحونة اسم (الطاحونة المتهدمة) واذ سئل احد ما عن سبب هذه التسمية كان عليهم ان يسردوا الحادث.
في بعض الاحيان قد تتخذ الاحداث الدرامية شكلا كوميديا اثناء سردها ويعود سبب ذلك الى المدة التي مرت على وقوع الحادث، ولأن رواية الاحداث كلها معا وبعد انقضاء الزمن تجعل تلك الاحداث تبدو مضحكة، لذلك كان والده يتحدث عن هذا الحادث ضاحكا وهو يقول (في احد الايام كان احد ابناء العم حسن -وكان اكبر من الابن الذي صدم حائط الطاحونة بجراره الزراعي- يتشاجر مع احد ابناء قريتهم الذي زاحمه في الدور على سقي مزروعاتهم، فما كان منه الا وضربه برفش على رأسه فقتله في الحال وهرب ومنذ ذلك الوقت لا احد يدري اين ذهب ولا حتى بيت العم حسن). رغم ان والده يحكي في كثير من الاحيان عما رآه في طفولته من مأسي وبؤس وجوع ولكنه في كل الاحوال يفضل هذا الماضي وفي نهاية كل حديث عن الماضي كان يقول (كيف كان الحال، وكيف اصبح!) كان والده يحس بفرق كبير بين طبائع ومعيشة الناس في مرحلة طفولته عنها في مرحلة كهولته وفي كل مرة كان يروي حادثا كدليل على روح التعاون لدى الناس في ذلك العهد ويقول (في احدى الليالي كان احد ابناء العم حسن-هذا الذي صدم حائط الطاحونة بجراره الزراعي- يدخل الحظيرة لامر ما وهو يحمل فانوسا وعند خروجه كان قد نسى الفانوس هناك فاندلع حريق في الحظيرة، وبعد مدة وجيزة اجتمع اهل القرية واخمدوا الحريق في مدة قصيرة وكانوا يقولون فلربما اوقعت بهيمة ما الفانوس على كومة التبن الموضوعة في احدى زوايا الحظيرة، قفزت البهائم مع اندلاع النار ونفذت بجلدها ولم يحترق شيئا سوى قطعة حبل).
ما كان يقصده والده في روايته لهذا الحدث هو تكاتف اهل القرية في مدة قصيرة لذا كان كلما يتحدث عن الحياة الآسرة لقريتهم وكرد لاي سؤال كان يقول (لولا مقتل هذه المرأة التي القوا بجثتها قرب بيتنا لما غادرنا القرية واتينا للمدينة) وكان يروي الحادثة بقوله انه في احدى مساءات شهر تموز وفي الوقت الذي يعود فيه اهل القرية من اعمالهم الزراعية نحو القرية وعلى مفترق الطريق الذي يقسم بيوت القرية الى قسمين، لمحوا جثة امرأة ورغم ان اباه لم يجرؤ على التحديق طويلا في الجثة كان يقول (ولا تزال صورة هذه المرأة ماثلة في ذهني) ولم يتعرف أحد من اهالي القرية على تلك المرأة لذلك دفنوا جثتها في اليوم التالي ولم يعثروا على قريب لها حتى بعد مرور وقت طويل، ودون ان يعرف احدهم هذه المرأة قبلا او لديه معلومات عنها، فقد نسجوا حولها حكايات كثيرة، وكان والده يقول (سببت لنا هذه الحادثة هما كبيرا ولم نستطع ان نبقى في هذه القرية بعد ذلك، لاننا نتخيل منظر جثتها على الدوام..)
من روايته لهذه الحادثة كان يحس بالتأثير الكبير لمنظر جثة هذه المرأة على ابيه، لذلك كلما روى هذه الحادثة يصف الجثة بدقة (كانت الجثة لأمرأة ناضجة، كانت تبدو كأنها هيأت نفسها للاعمال الزراعية حيث كانت تلبس قميصا اسود وسروالا ابيض وكانت حذائها بيضاء وجواربها سوداء وقد وقعت فردة حذائها اليمنى بالقرب منها وقد القيت بالجثة على ظهرها والتف رأسها جهة اليسار وقد وضعت يدها اليسرى على قلبها ولم تكن هناك اي دم على جثتها، أحمرت عنقها فقط وكانت تبدو وكأنها قد خنقت).
*كاتب من كردستان العراق
التعليقات