تحتاج الكلمات أدناه إلى رابط شعري. ليس تواضعا زائفا أو حقيقيا أن أقول هذا. التمييز بين المزيف والأصيل بات أقل وضوحا. و أكاد أجزم أن المزيف سينتصر على الأصيل إن لم يكن قد فعل. ليست هناك حدود للتزييف. الشيء الوحيد القادر على وضع الحدود أمام التزييف هو قلة الإمكانيات. وحتى تلك الآية التي مفادها أن لا تبديل لخلق الله ليس بمستطاعها الوقوف أمام الزحف الهائل لرغبات الناس في منح أجسامهم ُلوكاً آخر.
إن التجميل، الذي هو شكل من أشكال التزييف، المرغوب فيه باطراد ما عاد حلم النخبة فقط بل صار حلم الجزء النخبوي في ذات كل واحد منا أيضا. هذا الجزء، يمكن القول، يوجد عند الكاتب، الفقيه،القارئ، المتسول و ربة البيت. و النص،أي نص سواء كان من كلمات أو من لحم و عظم (سيكون مقززا إن كان مليئا بالشحم)، يحتاج إلى عمليات تجميل مستمرة. بمعنى آخر يحتاج ndash; النص-- إلى الابتعاد به عن حلته الأولي.
و للحقيقة العارية فالنص لا يحتاج شيئا. إن الذي يحتاج إلى التجميل هو الكاتب. فعبر إزالة هذه الكلمة وتعويضها بتلك، و تغيير هذه الجملة و وضع جملة أخرى مكانها يحاول الكاتب أن يعطي انطباعا آخر عنه. و باعتباره عريسا متمرسا و مجربا لن يتردد القارئ، الذي هو أنا، أنت و هو لحظة في التخلص من أي نص ضحل، مديفورمي برميه في أقرب مرحاض عمومي. ومن غير المنتظر أن تنتابه نوبة الندم اللعينة ما دام أن الوقت لن يمنحه نفسه ليعيد النظر في فعله. يستوعب الكاتب هذا جيدا لذلك تراه حريصا على التجميل .
بإمكان هذا الوقت،للإضافة، أن يطالب بإعادة المحاكمة إن اقتصر رد فعل القارئ في عملية الرمي ولم يتعداه إلى فعل الحرق. الوقت، يمكن القول، يوجد دائما في صف القارئ . هناك،أزليا،كاتب واحد لنص أو نصوص ما في حين يوجد ما لا يحصى من القراء لنفس النص أو النصوص. زمن الكاتب محدود بينما زمن القارئ ممتد. الأول يقتات من نسغ كاتب ما أثناء مرحلة الكتابة: أي المرحلة التي تكون فيها العلاقة بين الأصابع واللوحة ( القلم و الورقة) مباشرة و ملموسة . بإمكاننا إضافة، أيضا، مرحلة تشكل الكتابة ما دام أن أي نص لا يولد من عدم.
أما زمن الثاني، القارئ، فيقتات من نسغ قراء متعددين ومتنوعين في الزمان والمكان. و ليس جديدا القول أن الكاتب بدوره يمثل قارئا متعددا لنصه. لذا أعتقد أن أرقى ما يتمناه الكاتب هو أن لا يقتل. و إذا كان الرمي و الحرق قتلا رمزيا فبإمكاننا تصور القشعريرة التي ستصيب جلد الكاتب إن علم أن نصوصه رميت أو أحرقت.. لا أتصور كاتبا لا يتمنى أن تحتضن نصوصه و تقرأ على نطاق واسع. القارئ عريس الكاتب الأبدي. لأجله يتجمل الكاتب. و كلما استطاع الكاتب إتقان التزييف، التجميل، كلما ضمن استحسان القارئ.
ليس مضرا بالصحة، صحة النص و صحة كل هذه المخلوقات التي يهبها فعلُ التخيل روحا وحياة، القول بأنني تركت أناملي تتحرك على لوحة المفاتيح من دون أن تتدخل أناي( العليا و السفلى). تركت الحرية لهذه الأنا كي تعانق اللحظة. و اللحظة،التي هي، حسبما يخيل لي، بمثابة الحورية المشتهاة، نادرا ما تجود و ترحم؛ و إن فعلت و طلبتك فاستجب لها على عجل وبوثوق الأنبياء.
أحضرت، استجابة لغواية اللحظة، فقط كأسا خالية من الاتزان المكشوف و انسحبت خلف لوحة المفاتيح. أمامي البياض و عن يميني الكأس المباركة وعن يساري طيف حورية قُدّت من شهوة و ورائي الحائط الذي طَوّسَهُ (شذبه) أبي.. ذلك الحائط الذي اتكأ عليه الأب لبناء عش أسرته بعيدا عن أبيه- جدي- العاشق للنساء و اللشين والنفحة البلدية و معاشرة اليهود الذين كان دوارنا مسكنا لهم.
فوجئت لاندفاع وتزاحم الكلمات على باب أطراف أصابعي. تجرني الكلمات المندهشة، كالأطفال، من أصابعي كي أكتبها. أتمنع قليلا. أقوم. أقعد. أمسح الغرفة بعيني. أنقر على اللوحة. لا أحد يسمع النقر غير هذه الكأس الرائعة الموقدة لنار الكتابة. وعند تبخر الكأس الأخيرة في جوفي الملتهب كان هذا النص أمامي. ليس نصا حقيقيا ككل النصوص الجميلة التي يكتبها المتألقون. كما أنه ليس نصا زائفا كنصوص المزيفين المتملقين الباحثين عن كؤوس نبيذ مجانية في مهرجان . إنه نص مخنفش. فْشيشْكْل. مْديفورْمي. يشبهني و أشبهه. وجه الشبه بيننا هو تأتأته.. عَيَّه. تلعثمه. ليس فيه رابط. فوضى فحسب و رغبة عارمة في الانكتاب.. في التعري أما هذا البياض الممتد. إنه شَبيه نص شعري غير مصنف. نص فنْدَق.
المرجو، أيها الخياط اللغوي الماهر، أن تجد ذلك الرابط. كن متجردا من أي إحساس بالرأفة أو حسن التصرف. ليكن ديدنك و شعارك : البقاء للأقوى والأجمل . حاول أن تبتعد كثيرا عن البحث في كل الروابط المقدسة. إنها عديمة الفائدة و مدمّرة، على الأقل كما يبدو لي. أنت تعلم، ولا غرو، أنه حين نترك لها الباب مفتوحا أثناء قراءتنا لنصوص نُجلُّ أصحابها تعمينا عن رؤية الندوب المثيرة للغثيان.
انتظر قليلا. يبدو أنني أقترب كثيرا من البياض الذي يعمي. الأفضل لك و لي أن لا تفعل شيئا. الأفضل أن لا تأخذ ما كتبت على محمل الجد. اقرأ النص و ارميه في أقرب مرحاض عمومي. دع أعصابك هادئة للمصائب القادمة.. حتما إنها قادمة على صهوة الدين و العرق و النفط المقدس..
و لك النوم الهادئ في حضن مجنونة رجلاها في السماء ويديها في الأرض لا هي شرقية ولا غربية ولا جنوبية ولا شمالية. مجنونة و بَسّ.
مع تحياتي.

لا تهتم
لا تفتح مسامك للنسيم الآتي من جنوبهم.
لا تهتم إن أعلنوا التوبة وقالوا
سنمحو بالماء جنابتنا
لا يمحو الماء جنابة الروح.

لا تهتم
لا تمسح بمقلتيك جلدهم اللماع.
جَرّتَهم، تعرف، بلا قاع
ما كانوا ساعة أصحاب أبيك.
الوسخ اللاصق بأحذيتهم يفضحهم.

لا تهتم
هُمْ عبيد للرب بإرادة أجدادهم
في المسجد في بار جنتهم وقعوا صحيفة بيع روحهم.
كلهم فانون
و يبقى وجهك ذو الجلال والإكرام.

لا تهتم
إن دعوك للصلاة في مسجدهم
لا تأبه لدعائهم.
سيخرجون قبل انتهاء الآية الأخيرة من سورة المسد
كي يشنقوا الصبح إذا تنفس و تمدد.

لا تهتم
لن يعبئوا بصياح ديك زوجة جارك المؤذن،
بما قال الولد لأبيه:
هل تباع الروح يا أبى
و أين؟

لا تهتم
لا تستحم في أنهارهم
إن دعوك للشرب في حاناتهم فك عقدة لسانك و ارفض
خفيفا مر على مكتبة الموكار
خذ لك من الرفوف ما شئت من نبيذ ورحيق معبأين في ديوان.

اهتم
بتزيين روحك فقط. النبيذ لك و للقصيدة الرحيق
لا تنس أن تختار الأنضج من عنب دالية السوبرماركت
لا تناقش كالتجار الثمن
ليس للكأس التي تذيب جليد دماغك ثمن و للروح ثمنها عند الرب.

اهتم
بذاكرتك، شذب عليقها كي يؤلف التوت بينك وبين أم حنين
بعد الكأس السابعة ستحل ضيفا على حائط أبيك.
رائحة الشاي والمانتا تعمان المكان، ثوران يجران المحراث، سرب نحل يحط الرحال في بطن َخرّوبَة و البياض الذي أمامك يأبى التَعطّر.َ

لا تهتم
سر خفيفا ولا تنسى أن تملأ قربتك من وادي الطفولة.
عرج على جنان الجار
و اقطف تفاحا بلديا اقطف تينا اقطف عنبا
و لا تبعد عينيك عن فاكهة سلطانة .

اهتم
بالشرب من ماء النبع
ارتوي لعل اللغة تينع في حديقتك
لعل سلطانة تلتفت إلى الجزء الأسود من شعرك
لعل النص يجد طريقه إلى الطابعة.

لا تهتم
لا تهدي عينيك لنظاراتهم
عيناك لك
حدق بهما في ظلمة نفسك ..في الباب الموارب لجسد سلطانة
حدق في الحوريات الصاعدات من النار والأودية والقصص.

اهتم
بتلطيف شواظك المرسل على التفاح النابت في أجسادهن الناعمة.
للحوريات الجميلات دخل في الاحتباس الحراري بداخلك،
الحوريات النحيفات عاشقات النبع المتجدد القادرات على إرباك الأنبياء و إنزال المطر
الحوريات المقبلات المدبرات بأمر إله لا تخيفه الغواية سيهمن بك و تهم بهن.

لا تهتم
لا تهتم إن حاصروك بوثوقيتهم النتنة
لا تهتم بخطاباتهم الحمراء
بقدرتهم على تبييض الليل
زائلون هم زائلون و حتما سيمرون إلى حتفهم ليبقى وجهك ذو الجلال و الإكرام.

اليوم أحد ولا أحد هذا اليوم تسلل إلى قلبي
لا أحد غيري اهتم بحايط أبي
لا أحد شم رائحة المانتا والشاي
لا أحد حتى قال:
غبار تافه نجس ما تكتب.

المغرب

. ماي 2008