د. حسين الانصاري ndash; مالمو: منذ ان اهتدى الانسان للعيش مع الاخرين مغادرا حياة العزلة والتوحش ليقترب من عوالم المكان مكتشفا خباياه واسراره ومتفاعلا معه، من هنا يكون قد وضع الاساس الاول لنشوء فكرة المدينة ndash; الحضارة- التي استوعبت فعالياته الانسانية عبر مر العصور واصبحت صورة لكفاحه المزمن والمستمر ومقياسا لرقيه وتقدمه، وكانت الاسطورة في نظر الباحثين هي البوابة نحو المعرفة والوسيلة التي اعتمدها الانسان القديم لتجاوز مرحلة السحر والغيبيات التي كبلت افكاره زمنا طويلا.
العلاقة بين الملحمة والمدينة
لقد شكلت الاسطورة نظاما فكريا وادبيا وفنيا متكاملا فتح الافاق واسعة امام تطور المفاهيم الاساسية للحياة من خلال وعي وفكر وفلسفة الانسان وهو يواصل رحلة المغامرة والاكتشاف عبر وسائله التعبيرية المتنوعة، وسرعان ما ظهرت الدراما على اكتاف الاساطير التي اشتملت على متغيرات النسيج الاجتماعي حيث ساهمت في تفسير الاشكاليات وبحثت عن حلول للاسئلة المقلقة، وهذ كله جعل نشاطات المجتمع المديني تسير قدما نحو التنامي والابداع، وهكذا لعبت الدراما دورا بارزا ولايزال في الممارسةالثقافية والاجتماعية التي احتضنها فضاء المدينة والذي انفتح واسعا امام فاعلية النشاط المسرحي انطلاقا من امكانياته التعبيرية وقدراته الاتصالية مع الجمهور.
وقد انتجت ارض الرافدين العديد من الاساطير التي عرفت اس البناء الحضاري الذي مهد لقيام ارقى الانظمة الاجتماعية انذاك منها اسطورة ndash;اينانا- 2750 فبل الميلاد ثم جاءت اسطورة ndash;أدابا- وبعدها كانت ndash;الخليقة البابلية- ثم تلتها ndash;جلجامش-سنة 2500 قبل الميلاد، هذه الملحمة تعتبر من اشهر الملاحم البابلية واطولها على حد قول الباحث فاضل عبد الواحد، فهي تسبق ملحمتي الالياذة والادويسة لليوناني هوميروس بثمانية قرون.
تكشف الملحمة العلاقة الوثيقة للمدينة ndash;اوروك- والبطل ndash;جلجامش- الذي يرد اسمه في ثبت ملوك سومر كملك لمدينة اور من الاسرة التي حكمت بعد الطوفان، يذكر الباحث فراس السواح بأن العبقرية الادبية الاكادية قامت بجمع حكايات جلجامش السومرية وحبكتها في نسيج رائع مع اضافات من ابتكار الكتاب الاكاديين الذين خرجوا علينا بملحمة متكاملة هي درة الادب القديم.
الملحمة وقوة الرمز
ان الملاحم وما تتوفر عليه من قوة ديناميكية متحركة ولكونها مصدرا رمزيا انسانيا تجعلها تتواصل منعصر لاخر ومن جيل الى جيل وهذا مانجده في ملحمة جلجامش التي تحمل خصوصية ثقافة كونية انثربولوجية لها قدرة اختراق التأريخ والحضارات، انها ذاكرة جماعية تمثل رؤية الكون عبر نظام ادبي وفني مشحون بالرموز والدلالات التي تحمل المخيال الجمعي، فهذه الملحمة التي تعد اقدم نص تراجيدي في العالم شغلت اهتمام الباحثين والكتاب والمفكرين والفنانيين العرب والغربيين لسمو افكارها الفلسفية التي تتعرض للاسئلة الجوهرية عن الحياة والوجود والتطور والوعي بالحاضر والمستقبل، انها تتعرض عبر لوحاتها الى صراع الانسان ومحاولته بلوغ المستحيل من خلال كيفية التشبث بالبقاء، لكن هذا المنال ورغم مايقدم ازاءه من تضحيات وركوب المخاطر والصعاب يظل عصيا على التحقق وسرعان مايتلاشى ويصبح مجرد وهم، لكن جلجامش الذي يفشل في اقتطاف نبتة الخلود يستبدله بخلود من نوع اخر هو ذلك الذي يجسده فعل الخير والبناء والانجاز الذي ينفع الاخرين وهو ماقام به البطل جلجامش وفاءا لمدينته واهلها وهو فعل الحياة والاكتشاف الحقيقي للبقاء.
الى جانب ملحمة جلجامش ظهرت نصوصا اخرى مثل ndash; رثاء اور، نزول عشتار للعالم السفلي، موت البطل مردوخ وغيرها وقد مثلت هذه النصوص امام الجمهور البابلي في الاعياد والمناسبات اما ملحمة جلجامش فقد اقتصر التمثيل فيها على الاجزاء التي تتوفر على الصراع والفعل الدرامي اما الاجزاء السردية فقد كانت تقرأ فقط كما يشير الى ذلك الباحث عادل منصورفي معرض حديثه عن الملحمة ndash;مرحلة الحضارات الاولى.
جلجامش مسرحيا
نتيجة لما تحظى به هذه الملحمة من قيمة تأريخية كبرى وبما تحمله من قيم وافكار كونية مازالت تشغل بال الانسان وتسعى للاجابة عن اسئلة الحياة الجوهرية، فأنها ماتزال مادة غنية للباحثين والكتاب والشعراء والموسيقين والمسرحيين، ففي مجال المسرح قدمت الملحمة من قبل فرق عالمية وعربية وفي العراق موطنها الاصل تم تناول هذا العمل عديد المرات فقد قدمها الفنان الراحل عوني كرومي تحت عنوان رثاء اور، واخرجها الفنان سامي عبد الحميد ثلاث مرات لاكاديمية الفنون الجميلة وللفرقة القومية العراقية كما اخرجها تحت عنوان الليالي السومرية هذا النص كان من اعداد القاصة العراقية لطفية الدليمي وهي قراءة مغايرة للمحلمة، كما اخرجها الفنان عقيل مهدي تحت عنوان كلكامش صبيا لكلية الفنون ببغداد، وقدمها الفنان مقداد مسلم وفق اسلوب المسرح الوثائقي، اما الفنان سعدي يونس كعرض مونودرامي ببغداد في منتصف الثمانينات ولا يزال يواصل اهتمامه بهذا العمل ويقدمه بمعالجات مختلفة ليبقى عرضا معاصرا يصلح لكل الازمنة وهذا ما تتميز به الاعمال الابداعية الخالدة. لقد فكر الفنان سعدي يونس بحري وهو يجوب بجلجامشه المسرحي مسارح وصالات العالم ان تكون مستلزمات العرض خفيفة الوزن بليغة التعبير ولهذا جاءت استعانته بالاقنعة المجوفة والات موسيقية متنوعة منها الهوائية او الايقاعية تلك التي استخدمها للتعبير عن مواقف شتى اما الزي فقد اعطاه لمسة عربية معاصرة الى جانب استخدام بعض القطع الديكورية التي يمكن ان يجدها في اي مكان يحل فيه ليمنحها لمسات من شأنها ان تكون ضمن اطار الجو العام للعرض ثلاث ساعات فقط تفصلنا عن موعد العرض، وعلينا ان نهىء المسرح من ناحية المنظر والاضاءة ومتطلبات الصوت عملنا بجهد متواصل الى جانب الفنان سعدي يونس بحري ضيف هذه الامسية ونجمها، ولبحري تجربة تمتد طويلا مع المسرح الذي درسه في باريس وعاد بعدها الى العراق ليعمل استاذا في اكاديمية الفنون الجميلة وهومؤسس مسرح الشارع في العراق وله فيه تجارب عدة فقد سبق ان قدم اعمالا عديدة منها الاستعراض الكبير، يوميات مجنون، دون جوان، حكابة الفلاح عبد المطيع، الف ليلة وليلة، وغيرها، اما عرض كلكامش فقد بدأه منذ عام 1985 ومايزال يشهد هذا العرض ترحالا وحضورا وتواصلا، ويسعى الفنانن يحري بوصفه معد النص وممثل ادواره وكذلك الاخراج ان يخضع هذا العمل بأ ستمرارالى تغييرات واضافات تجديدية تمنحه المزيد من الاصالة والمعاصرة في كل مرة، لاسيما وان نص الملحمة يختزن بالمعاني الفلسفية والتأريخية لحياة الانسان وصراعه مع الاخر ومع قوى الطبيعة المعلنة منها والمضمرة الجدارية السومرية ارتكزت ضمن منظور العرض كخلفية للاحداث، والافنعة الاربعة عشر وضعت بشكل متسلسل على الجزء الخلفي للديكور ليسهل استخدامها من قبل الممثل الذي سيلعب كل هذه الادوار، اما الالات الموسيقية من دفوف وطبول وصنوج ونايات و اكسسوارات اخرى فقد احتواها الجانب الايسر للخشبة، اصبح الان كل شىء على مايرام، الممثل يتهىء خلف المسرح، والجمهور بدأ الحضور الى صالة مسرح الكتيسة العالمية في مدينة مالمو السويدية حيث مكان العرض.
كلكامش يطل حاملا الشموع
اطفئت انوار الصالة وابتدأ العرض وسط عتمة الظلام ثمة ضوء يرى من بعيد، يظهر الرواي ليعلن لاهل اوروك نبأ جديد لمليكهم القوي وصاحب السطوة العابث بأقدارهم، يلخص الرواي وصف جلجامش بقوله :
بعد ان خلق جلجامش واحسن الاله الاله العظيم خلقه، حباه (شمش) السماوي بالحسن وخصه (ادد) بالبطولة، جعل الالهة العظام صورة جلجامش تامة كاملة، كان طوله احد عشر ذراعا وعرض صدره تسعة اشبار، ثلثاه أله وثلثه الاخر بشر، هيئة جسمه مخيفة كالثورالوحشي، وفتك سلاحه لايضاهيه ويصده شىء، وعلى ضربات الطبل تستيقظ رعيته، لازم ابطال اوروك حجراتهم ناقمين مكفهرين، لم يترك جلجامش ابنا طليفا لابيه و لم تنقطع مظالمه عن الناس ليل نهار
أهذا جلجامش راعي (أوروك) المسورة ؟
اهو راعينا القوي، الكامل الجمال والحكمة، لم يترك جلجامش عذراء طليقة لامها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل.
تتوالى احداث العرض عبر لوحات توزعت بثلاث مراحل من حياة البطل هي مرحلة الوجود او الخلق ثم العلاقة مع الالهة،واكتشاف الصداقة المرحلة الثانية هي الصراع مع الانداد والمغامرات والاعمال المرحلة الثالثة البحث عن اسرار الخلود والعودة الى المدينة واهلهايركز عرض المسرحية على مرحلة الصراع بين جلجامش والبطل الند انكيدو الذي يصبح صديقا لجلجامش بعد تحدي ونزال متكافىء القوتين، يتفق الصديقان على التأزر ومواجهة الصعاب، يسقر ذلك عن قتل خمبابا الوحش قي غابة الارز ثم يقتلان الثور السماوي الذي ترسله عششتار ( الهة الحب والحرب) لمعاقبة جلجامش كونه رفض حبها، بعدها يمرض انكيدو ويختطفه الموت، هنا يرتعب جلجامش من هول فقد صديقه انكيدو الذي يبكيه ويخشى ان يؤول مصيره مثله لذا يقرر ان يسعى للبحث عن الخلود فيبدأ رحلته الشاقة وصولا الى (اتونابشتم ( الرجل الذي خلدته الالهة لانقاذ البشرية من الموت خلال فترة الطوفان، ويستطيع كلكامش بلوغ هدفه ويقابل اوتونابشتم الذي يدله على شجرة الخلود، فيقطفه ويعود، لكن امله يخيب حين ينام بعد تعب شديد فتأتي الافعى لتختطف النبات وتمضي.
يفقد كلكامش امله فيعود الى اوروك ليعمل ويبني ويساعد اهلها ويبني اسوارها عند ذاك يكون هذا سبيلا للخلود الابدي. ربما اصبحت احداث هذه الملحمة التأريخية معروفة للجميع ولكن بما تحتويه من كنوز فكرية ورموز متعددة جعلها اكثر تجددا رغم تقادم العصور كونها تعرض مشاكل الانسان المتجددة على مر الزمن وكيف ينبغي عليه ان يبحث دائما عن حلول لتلك المشاكل.
براعة الاداء
ان تجسيد اربعة عشر شخصية عبر سير احداث هذا العرض بلوحاته المختلفة للمواقف الدرامية والعلاقات الانسانية وانتقالاته الزمكانية ليشكل صعوبة بالغة امام اداء الممثل ولكن ما شاهدنا هنا من اداء للفنان بحري عكس لنا طاقة متميزة وتجسيد منسجم مع تصاعد احداث العرض وتغير ايقاعاته فقد نجح الفنان في الانتقال من شخصية الى اخرى بأنسيابية واضحة دون ان يشعر المتلقي بأن هناك ثمة قطع او توقف لمجرى الحدث وجاء استخدام الاقنعة التي كانت تجسد شخوص العرض متقنة الصنع وتحمل تعبيراتها دلالات اقتربت من ابعاد الشخوص واهدافها ضمن سياق الجو العام للحدث وهنا لابد ان نثني على براعة مصممة اقنعة ورسوم العرض كاترين بارتوش.
لقد اثبت الفنان بحري في هذا العرض قدرته الفائقة في كممثل بارع في خلق التعبير المناسب والانتقال من موقف لاخر ومن شخصية لاخرى بأنسيابية وسهولة تجعل المتلقي يتعاطف ويعيش تصاعد الحدث الدرامي ومتغيراته الزمكانية لاسيما في هذا العرض الذي يتوفر على انتفالات عديدة وشخصيات متنوعة الرجالية مثل جلجامش، انكيدو، الراعي، خمبابا، اوتونابشتم، او النسائية مثل الام، المرأة الغانية، صاحبة الحانة وغيرها
لقد تعاطف جمهور الحضور مع اداء الفنان وقابله بالثناء وجرى في ختام العرض حوارا مفتوحا بين الفنان والجمهور دار حول هذا العرض وسيرة الفنان وانجازاته الفنية ورؤاه الفكرية والابداعية. ومن الجدير بالذكر ان الجمعية الاسكندنافية للتبادل الثقافي والجمعية العراقية الثقافية في جنوب السويد كانا وراء حضور هذا النشاط المسرحي المتميز في مدية مالمو.
التعليقات