كنا نجلس معا متجاورين على مقعد خشبي طويل في المخفر. كانت عقارب الساعة الجدارية المتربة متوقفة على الساعة الثامنة. لم يكن يهمني أن أعرف في إذا كانت قد توقفت في مكانها دون حراك في نهار يوم ما أو مسائه. قبل يوم أو اسبوع أو سنة.
كانت الريح العاصفة في الخارج تهز المصباح، فينتقل مع كل هزة، الضوء والظلام في نفس اللحظة من جهة إلى أخرى أمام مدخل المخفر الذي كان يبدو شبه معتم في مشهد أشبه بما نراه في بعض الأفلام البوليسية.
كان الرجل الذي يقاسمني الجلوس على المقعد الخشبي المصبوغ بلون أخضر غامق يدخن بشراهة وشرود.وكانت عيناه المرهقتان تكشفان للناظر إليهما بسهولة عن مدى معاناة الرجل من ارق طويل الأمد. ويبدو أنه ضاق ذرعا بخلو المخفر وصمته ومن صوت الريح الذي بدأ ينذر بأنها ستتحول إلى عاصفة في هذا الليل الذي تحاصر سماءه سحب داكنة.
وجدته يخاطبني موجها نحوي عينيه التعبتين بعد أن القى نظرة على ساعته اليدوية، كان يبدو أن سئم تماما من الانتظار :
ـ ثلاث ساعات ونحن ننتظر دون جدوى.. أليس غريبا أن يكون المخفر خاليا من أي مسؤول أو حتى من شرطي؟!
أنه لأمر غريب حقا، لايكاد يصدق. فالمخفر هو آخر مكان في مايمكن للمرء أن يتصوره في المدينة خاليا وخاويا تماما.
كنت أظنه سيكتفي بهذه العبارة لكنني ألفيته يواصل حديثه المتذمر قائلا:
ـ غير معقول على الإطلاق.. مخفر بلا ضابط ولاشرطة ولاقيود!.. لقد حضرت إلى هنا دون أن يستدعيني أحد، لكي اعترف بجريمتي.. أصبح لي وقت طويل وأنا انتظر ولم يخطر ببالي قط بأنني سأرى المخفر وكأنه مهجور.. دون أن أجد من سيلقي القبض عليّ.
ترى هل أخطأنا المكان؟ أيعقل أن يكون هذا المخفر الذي اعتاد شرطي بدين مبروم الشارب أن يقف أمامه وكأنه ماركة مسجلة باسم المخفر، متطلعا إلى جميع المارة بلا تمييز بعينين تتفطران بالشك والريبة. المخفر الذي تعرف المدينة قسوة ضابطه المسؤول الذي اعتاد أن يستقبل المراجعين بعبارته المعهودة : ها..أفندي؟
وجدتني أقول له دون مقدمات:
ـ كن على ثقة يا أخي بأننا في مخفر المدينة. ألم تقرأ القطعة المثبتة في المدخل؟
نظر إليه نظرة تتفطر منها خيبة أمل واضحة قبل أن يتابع قائلا:
ـ مخفر خال..أي كوميدية هذه يا الهي!
قلت له محاولا أن أهدئ من خيبة أمله :
ـ صحيح لا احد هنا..لا شرطي، لاضابط، لا أحد على الإطلاق.. لكن لماذا أنت هنا؟
قال بهدوء وهو يشعل سيكارته:
ـ لقد ارتكبت جريمة في حلمي ليلة أمس. قتلت رجلا!
اجتاحتني رعدة خفيفة وأنا أسمع اعترافه بالجريمة للمرة الثانية.
ـ إذن قتلت أحدهم في حلمك ليلة أمس!
تطلع إلى الضوء القوي المنبعث المعلق في سقف صالة الانتظار، ثم نظر إليّ قائلا:
ـ أجل.. أطلقت عليه النار مرتين.. قبل أن يسقط صريعا على الفور أمامي..
ـ ارتكبت ليلة أمس جريمة قتل!
نظر اليّ بحنق ظاهر وقال بصوت غاضب :
ـ إنني أعيد لك نفس الشيء.. الا تصغ إلى ما أقوله!
وجدتني أقول له ببطء:
ـ غريب ما اسمعه منك.. لقد حاول أحدهم أن يقتلني في حلمي ليلة أمس!
بدا عليه الاهتمام ولمعت عيناه ببريق غريب.
ـ هل جرت المحاولة في الحلم؟
ـ اجل الا إنني لم أر وجهه.. كل ما أعرفه أنه أطلق عليّ عيارين ناريين.
ظهرت عليه علائم الانشراح وهو يسألني بهدوء :
ـ لكنك لم تمت..أليس كذلك؟
ـ ربما أكون قد مت.. لم انتبه إلى ذلك. لقد حضرت للمخفر للإبلاغ عن تلك المحاولة الأثيمة.
قال لي مستغربا وهو يجول بعينيه في صالة المخفر :
ـ إذن لقد أتيت لتقديم شكوى، ثم أردف بأسف ظاهر، لقد ظننتك متهما.
أكدت له بقوة منعا لأي التباس في ذهنه :
ـ كلا بل أنا مجني عليه.. جئت لتقديم شكوى.
بدا عليه أنه لم يسمع عبارتي الأخيرة لأنني سمعته يقول ثانية:
ـ يعني انك لم تمت!
فجأة أصابني سخط شديد لتكراره هذه العبارة أكثر من مرة، قلت في وجهه بما يشبه الصراخ :
ـ لا أعلم يا أخي.. لربما أكون قد مت , كما قلت لك جرى كل ذلك في الحلم. كانت الغرفة شبه معتمة. كما إنني لم أصادف حتى الآن إنسانا يعلم بموته باستثناء ماحدث في آخر لحظة للجريمة.
قال لي بانفعال ظاهر :
ـ صحيح.. فالإنسان لا يعلم بموته. بل يجب أن يقول له ذلك أحدهم.
وجدتني أعانده بقوة:
ـ كلا.. لن يقول له ذلك أحد.. أليس كذلك؟ لن يقول أحد للقتيل ( لقد مُتّ) بل يقولون عنه ( لقد مات).
نهض من المقعد الخشبي الطويل وبدأ يذرع الصالة الخالية الا من كلينا.
ـ أود أن أقول لك بأنك قد مُتّ ليلة أمس.
نظرت إليه باستغراب وريبة :
ـ وكيف علمت بذلك؟
زفر بعمق، رفع عينيه متأملا وجهي للحظات بدت لي طويلة:
ـ لأنني أنا الذي قتلتك في الحلم ليلة أمس. أطلقت عليك عيارين ناريين، وعندما اقتربت منك وجدتك قد فارقت الحياة.
ـ إذن أنت من أطلق النار عليّ وقتلني في الحلم!.
وضع يده على كتفي وكأنه يواسيني :
ـ لقد جئت للمخفر لأسلم نفسي للعدالة.
كل ماأراه واسمعه تشبه قصة غرائبية لاتحدث الا في فيلم بوليسي غير معهود. كنت أحوم في وسط بحيرة من الحيرة والذهول. تمتمت بحيرة:
ـ غريب حقا.. أنت حضرت للإبلاغ عن جريمة اقترفتها..وأنا حضرت لتقديم شكوى ضد القاتل
لكنه من الغريب أن يكون المخفر خاليا تماما من الشرطة.. فليس ثمة من سيلقي القبض عليّ أو يستمع إلى شكواي!
بدا عليه وكأنه يتخبط في لجة محيط من الندم :
ـ صدقني كلما تحدثت عما حدث تزداد حدة التوتر عندي، ويستولي عليّ القلق والحزن على روحي.. سامحني.. أنا آسف فقد كنت مخمورا في الحلم في ليلة أمس المشؤومة. ليت يدي قد شُلت قبل أن تمتد إلى المسدس.
نهضت من المقعد ووقفت قبالته ناظرا إلى عينيه بتحد:
ـ لماذا قتلتني؟
قال لي وهو ينظر إليّ بعينين محمرتين من الأرق والندم :
ـ بسبب ميسون!.. سمعت بأنها قد كانت معك في تلك الليلة. لقد ذهبت إلى حيث هي، أخرجتها من الفراش. كانت لا تكاد تقوى للوقوف على قدميها من النعاس. بعد أن صفعتها عدة مرات، اعترفت بأنها قضت الليلة معك.
قلت له باستغراب :
ـ وماعلاقتك بميسون؟
ـ أعبدها.. لقد وصفت لي بيتك في الحي الذي تسكن فيه، وقد دخلته من الحديقة الخلفية؟
قلت له وأنا استعيد رؤية الكابوس مرة أخرى :
ـ أجل سمعت صوت الباب وهو يفتح.. لكنني لم أرك.
بدا وكأنه يعيش في عالم آخر :
ـ لقد كنت مع ميسون.. أليس كذلك؟
وضعت يدي على كتفه، وقلت له بصدق:
ـ صدقني كانت مجرد نزوة لليلة واحدة. كنت مصمما بعدها على عدم رؤيتها.. انها هي التي دفعتني إلى تلك النزوة التي دفعت حياتي ثمنا لها.
كان يبدو وكأنه هو الآخر يريد أن يتحرر من خطاياه وكأنني القس الذي اختاره ليعترف له:
ـ ميسون دمرت حياتي.. منذ خمسة أعوام وأنا أعيش في مستنقع لا أتمكن الفكاك منه؟
شعرت بالشفقة على قاتلي. كان يبدو مسلوب الإرادة، يبدو وكأن خيال ميسون يرافقه في حله وترحاله.
ـ أتحبها إلى هذا الحد؟
واصل اعترافه في حضوري :
ـ لقد قتلتك بسببها. آه لكم أنا نادم يا إلهي! ليتني قتلها بدلا منك!
وجدتني أتعاطف معه. كان يبدو مسلوب الإرادة والعقل.
ـ الأمر لا يستحق كل ذلك.. حاول أن تتحرر منها.. اصغ إليّ جيدا لقد قررت العفو عنك. سامحتك ولن أتقدم بالشكوى ضدك، وهاأنذا عائد إلى بيتي.
تشبث بي وكأنه يخشى البقاء وحيدا في المخفر :
ـ أرجوك لاتتركني هنا وحيدا..!
قلت له والحيرة تحيطني من كل جانب:
ـ كيف لي أن أتأكد بأننا الآن نعيش في الواقع وليس في الحلم؟
ازدادت حدة معاناته :
ـ صدقني لا أعلم. راسي يكاد ينفجر.
ـ لكن ميسون حقيقة..
قال بلهفة مصادقا على كلامي بكل جوارحه:
ـ أجل انها حقيقة.. ميسون الحقيقة الوحيدة في حياتي.
قلت له بمودة وصدق وانأ امسكه من ذراعه :
ـ هيا بنا نخرج. لا شرطة هنا ولاميسون.. لا احد هنا على الإطلاق.
خرجنا من المخفر بهدوء. كان الفجر على وشك أن يأتي بالنهار.
ـ انها جريمة ارتكبت في الحلم.
ـ تبدو وكأنها لم تُرتكب..
ـ لا عليك هيا بنا..
ثمة رجال ينطلقون في ضوء الفجر الذي لم ينبلج بعد كأشباح ربما للعمل في مكان بعيد في المدينة.
النهار يهبط من خلف القلعة على كركوك بهدوء. ألتفت إلى الخلف فأرى شرطيا بدينا على باب المخفر الذي تقف أمامه سيارة شرطة تبدو لي وكأنها ميتة.
بعد قليل ستصحو المدينة، سينطلق من ينطلق للعمل، وسيفتح بعضهم محلاتهم في انتظار زبائنهم. سينهض القتلة لارتكاب جرائم جديدة، واللصوص ليزدادوا ثراء بأموال الآخرين، وسينطلق العشاق للقاءات سرية تستباح فيها القٌبل والشهوات، وسيودع البعض من يحبونهم إلى القبور وسط الدموع ليظلوا فيها إلى الأبد. وقد تنفجر سيارات مفخخة لتحصد ضحايا، سيبشر أئمة الجوامع القتلة بنيران الجحيم وسيصفون الضحايا بالشهداء وبحياة خالدة لا تنتهي في جنات تجري من تحتها الأنهار. وسيعد زعماء الأحزاب خطبا رنانة، كاذبة عن الأمن والآمان والعدل والعدالة وحرية الرأي والمعتقد، وسيتجه المؤمنون صوب الجامع، , وآخرون صوب الحانات وأماكن الدعارة. وكل حزب بما لديهم فرحون.
أشرقت الشمس وأضاءت شوارع كركوك، بدت ملامح الوجوه التي جهد ظلام الليل في إخفائها واضحة. كان قاتلي يسير إلى جانبي بهدوء. كان أطول قامة مني. التقط الهاتف بعد رنينه في جيبه وهو يهتف بلهفة عاشق ولهان:
ـ انها ميسون!

3/6/ 2009
جنيف