حامد بن عقيل: يبدو ألا شيء يتغير في عالمنا العربي، أو كأن المتأمل الياباني الكبير: باشو ماتسوو كان يصفنا وهو يردد: quot;سَنة أخرى مضت/ و أنا لا أزال أَلْبس/ قبعةً من قشّ وصندلاً من قشٍّquot;. فمنذ مستهل رواية quot;تقاطعquot; الصادرة حديثاً للروائي صلاح القرشي سندرك أننا نقف أمام نصٍ يحفر عميقاً في حقيقة ميل متراكم لدى الإنسان العربي نحو الصراع، هذا الهم الذي سيتكاثف على طول النص حين يرد بعدة أشكال متباينة لكنها تصب في وعي الشخصية الرئيسة للنص ممثلة في شخصية الراوي. فالرواية تنطلق بوضع القارئ على عتبة وحيدة جاءت في هيئة اقتباس ينقله الكاتب عن مقدمة ابن خلدون توضح سرّ عدم خضوع العرب إلا لأثر عظيم من الدين موضحاً أن سبب انقيادهم للدين دون سواه عائدٌ لخلق التوحش الذي فيهم مما يجعلهم quot;أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسةquot; (ص5). هذه العتبة التي تساهم كثيراً في بناء التوقعات لما سيليها من صفحات الرواية لا تلبث أن تتكشف تباعاً حين نجد أن quot;الانتقامquot; يشكّل هدفاً رئيساً، وربما كان الهدف الوحيد، لكل صراعاتنا، مع غياب كامل لأي منظومة ثقافية أو اجتماعية متعارف عليها كي تنظم هذا الصراع وتوجهه أو تجعل منه سبباً للثراء المعرفي لا عاملاً من عوامل التناحر والخراب.
حول تأويل النص:
مفردة الانتقام هي الدال الرئيس للنص بوصفها تشكل حقلاً دلالياً متكاملاً يبني الرواية بشكل رأسي، فالرواية تدور حول شخصية quot;كاتبquot; يسرد أحداث روايته بأسلوب المنلوج الداخلي حين يتعلق الأمر بحكايته الشخصية، وبأسلوب الراوي العليم حين يتحدث عن quot;فرحانquot; الملقب بالعُصّ، كما يتحول إلى توثيق أحداث تاريخية حين يروي حكاية الشاعر الأموي quot;الكُميت بن زيدquot;. إن البناء الرأسي للرواية مدلول لعنوانها quot;تقاطعquot; الذي سنكتشف من خلال القراءة أن نقطته الرئيسة ما هي إلا الكاتب، فالكاتب/ المثقف يتوسط بين الكميت بن زيد/ الشخصية التاريخية الأعلى بوصفه شاعراً ومثقفاً وبين الشخصية الآنية الأدنى التي يتقاطع معها في حارته أي فرحان العص: quot;حياة الرجل الذي يحترمه أغلب أهل الحي تتقاطع مع حياة الشاب الذي يتحدث الجميع عنه بالسوء ولا يحبون التطرق لسيرتهquot; (ص108). وهو تقاطع يوظفه الكاتب في سبيل الكشف عن عدة مستويات للصراع؛ إن على مستوى وعي وثقافة ومواقف الشخصيتين الأخريين قياساً إلى قناعاته ومواقفه هو، وإن على مستوى وعي الكاتب بأن الزمن منذ الكميت بن زيد وحتى فرحان العصّ لم يغير طبيعة الأعراب الذين وسمهم ابن خلدون بالغلظة والأنفة وخشونة الخُلق مما جعل صراعهم يستهدف السيادة بهدف الانتقام من خصومهم.
بدأتْ حكاية الكاتب مع هذا التقاطع منذ أن تحوّل عن كتابة quot;روايةquot; حول حياة الكميت بن زيد إلى استهداف فرحان العص بالكتابة، لكن هذا التحول لا يمنع الكميت من الحضور ليصنع المفارقة، فهو مقابل هام للكشف عن أبعاد شخصيتي الكاتب وفرحان، كما أن فرحان مقابل مهمته الكشف عن أبعاد شخصيتي الكاتب والكميت. بينما يبقى الكاتب مجرد نقطة سلبية يتقاطع فيها التاريخي/ الكميت مع الآني/ فرحان، كما يتقاطع فيها المثقف الثائر/ الكميت مع الجاهل/ فرحان، وفي أي من هذين التقاطعين يجد الكاتب نفسه يعيد مساءلة قناعاته ومواقفه من طبيعة الصراع الثقافي أو الاجتماعي الذي لا بد له من الخوض فيه لإثبات ذاته لكنه لا يفعل، مكتفياً بإسقاط قناعاته على الشخصيتين الأخريين اللتين تشكلان لأفكاره حول الصراع وما ينتج عنه من انتقام تفريغاً مناسباً وأقل خطراً من أن يخوض صراعاً فعلياً، فطبيعة صراع الظالم والمظلوم في جميع السياقات العربية طبيعة مدمرة: quot;سرعان ما يتحول المظلوم إلى ظالمquot; (ص9)، وquot;ماذا لو عاش الكميت بن زيد حتى سقوط دولة بني أمية؟، هل كان سيجد فرقاً بين ظلم أبي العباس السفاح وظلم هشام بن عبدالملك؟quot; (ص35).
قراءة الشخصيات الثلاث:
الكاتب:
quot;وحدها تلك الحادثة الغريبة هي ما جعلني أهتم بالعصّ وحكايتهquot; (ص7)، هكذا يعلن الكاتب تحوله منذ السطر الأول عن كتابة رواية حول الكميت إلى رصد فرحان العص وكتابة رواية عن حياته، وسر هذا التحول هو اكتشاف الكاتب للتقاطع بينه وبين العص من خلال ما فعله العص ليلة زواج quot;منصور الدباquot; من quot;حنانquot;. فحنان حبيبة الاثنين: quot;لا شك أنني أحبها مثل العص تماماً، ولا شك أننا رغم الفارق الكبير في الثقافة والمكانة نشعر بذات العاطفة البائسة والضعيفة نشعر بذلك الحب الصامت والسخيف والغبيquot; (ص8)، لنكتشف الفروق، فالكاتب مثقف بينما العص لم يفلح في إكمال دراسته الثانوية، كما أن الكاتب يمتلك المكانة الاجتماعية بينما يحتقر المجتمع العص ويصفه بالفاشل. أما ما يشتركان فيه فإنه لا يعدو الحب الصامت، فأي منهما لم يبادر إلا في حدود ضيقة ليفوز بحنان، وعندما ذهبت حنان بقي الكاتب عاجزاً بينما فعل العص ما عجز عنه الكاتب؛ ضرب منصور بعصا المزمار في ليلة عرسه!: quot;ما فعله فرحان العُص أطربني، رغم أنه لا يتفق مع ما أعلنه دائماً من مبادئ ضد العنف والانتقامquot; (ص10)، فالصراع الصامت الذي فاز به منصور الدبا دون أن يدري عنه شيئاً جعل quot;الانتقامquot; يوحّد الكاتب والعص: quot;ما فعله العص في ليلة العرس يصلح ليكون مدخلاً لكتابة رواية عن الرجلquot; (ص9) تاركاً بذلك مشروعاً كتابياً كان قد شرع فيه: quot;توقفتُ في منتصف العمل.. شعرتُ ببؤس الكتابة، وبؤس الموضوع.. وزئبيقة حكاية الظالم والمظلومquot; (ص9).
إلا أن الكاتب يكشف لنا سر اختياره للكميت دون سواه ليكون موضوعاً لروايته التي لم تتم، فهو: quot;الشاعر المتمرد على بني أميةquot; (ص9)، لنتعرف على طول الرواية أن العصّ لم يكن سوى الوجه الآخر للكميت فيما يتعلق بالثورة أو التمرد/ الفعل، فالشخصية التاريخية/ الكميت تمرد على بني أمية بفعل الخروج عليهم بينما تمرد العص على مجتمعه بفعل الانتقام من منصور الدبا، وهما فعلان يختلفان سبباً ونتيجة لكنهما فعلان يعريان سلبية quot;الكاتبquot; إذ نجده كلما أبحر في سرد قصتيهما كلما اكتشف سلبيته فهو عاجز تماماً بعد موت أمه: quot;بالنسبة لي كانت أماً وأباً ولهذا أبدو بدونها وكأني أحمل عمر الكهل وتعبه ومرضه وهشاشة الطفل ومخاوفه وضعفهquot; (ص74)، وهو سلبي فيما يتعلق بالمواقف الثقافية التي يتوقع أن مجتمعه يطالبه بها كمثقف: quot;هل تنسى أنك خفت من التوقيع على ورقة تطلب فيها إطلاق سراح أحد النشطاء في الإنترنت؟quot; (ص85)، وهو تائه لا يدري ما يريد: quot;مصيبتي أنني لا أعرف ما أريدquot; (ص20)، حتى إن تشفيه ورغبته في الانتقام من منصور الدبا لم يحققها بنفسه ولكنها جاءت على يد شخص آخر: quot;العُص فعل ما يقدر عليه، أما أنا فكل الكتب التي قرأتُ لم تقدم لي أي ضوء لأرى من خلاله ما أريدquot; (ص23)، وهو، على الرغم من اعتراف المجتمع به كمثقف ورغم مكانته الاجتماعية، لم ينجُ من إدانة مجتمعه له: quot;الكتب خربت مخك، ليست أمي من قالها لي فقطquot; (ص37)، و: quot;quot;تركنا الروايات لكquot; (ص106). فهذه الآراء متآزرة لأن ثقافته لم تقدم له شيئاً يُذكر على صعيد الواقع، بل جعلته مكتئباً مما صيره منذوراً للخسارة وليس للكسب إذ غادرته زوجته حاملة طفليها: quot;قالت لي إن أباها سألها عندما حدثته عن تصرفاتي. قال لها: هل يشرب؟. فردتْ غاضبة: ليته يشرب، من يسكر يفق، أما هذا فلا يفوق أبداquot; (ص21).
الكميت بن زيد:
يرد عن محمد العيساوي الجمحي قوله: quot;الكميت أول من أدخل الجدل المنطقي في الشعر العربي فهو مجدد بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وشعره ليس عاطفياً كبقية الشعراء، بل إن شعره شعر مذهبي، ذهني عقليquot; (ويكيبيديا). فهو بهذا وجهة مناسبة للكاتب كي يبدأ في نسج رواية تاريخية حوله لأن الكميت دال هام على الثورة والتمرد، ودال هام على خروج ديوان العرب من العاطفية والشفوية إلى الجدل والمنطق. لكن هذه الرواية التي لم تُكتب تتسرب في quot;تقاطعquot; ليكون الكميت ضداً للعص، فالأول تاريخي بينما الثاني آني، كما أن الأول شاعر ذهني ومثقف بينما الآخر لا ينمتلك من الثقافة إلا النزر القليل جداً كما أنه لم يتخذ أي موقف تجاه أي قضية في حياته سوى ضربه لمنصور الدبا ليلة زواجه.
إلا أن العص والكميت يشتركان في quot;الفعلquot;، فالكميت ثارlsquo; نُصرةً لآل البيت، على بني أمية ثم عاد إليهم، وهي العودة التي مرر من خلالها الكاتب قناعة راسخة لديه بتكراره مراراً لأحد أبيات الكميت داخل الرواية: quot;فالآن صرتُ إلى أمية، والأمور إلى مصائرquot;، فعودة الكميت كانت مجرد وسيلة ليحفظ بها حياته المهددة: quot;قالوا إنه عاد بلسانه ولم يعد بقلبهquot; (ص9)، وبرغم هذه العودة إلا أنه مات مقتولاً: quot;قتل في الكوفة في خلافة مروان بن محمد سنة (126 هـ)، وكان السبب في ذلك أنه مدح يوسف بن عمر، بعد عزل خالد القسري عن العراق. وكان الجند على رأس يوسف متعصبين لخالد، فوضعوا نعال سيوفهم في بطن الكميت، فُوْجِؤُوهُ بها، وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره؟ فلم يزل ينزف الدم حتى مات. وروي عن المستهل بن الكميت أنه قال: حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه، ثم أفاق ففتح عينه ثم قال: (اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد)، ثلاثاً. (ويكيبيديا). فقناعة الكاتب تم تمريرها من خلال تعليقه على النهايات المؤلمة التي ينتهي إليها من يبادر بالفعل: quot;quot;فرحان لم يختر هذه النهاية كما أن الكميت بن زيد لم يختر نهايته الممتلئة بالمفارقة فهو لم يُصلب ولم يمت وحيداً في السجنquot; (ص118)، فالمصير المؤلم للكميت تحديداً لأنه يمثل: quot;علاقة الأديب بالسلطة وحاجته غالباً للخنوع والاستسلام أو المداورة أو التقيةquot; (ص47)، لهذا الكميت يأتي لتبرير خنوع quot;الكاتبquot; وسلبيته: quot;تباً لهذه القضايا التي يحتاج الإنسان أن يضحي بنفسه من أجلهاquot; (86)، لذا من الطبيعي أن ترسخ في وعيه قناعته السلبية كمثقف: quot;من قال أنني أريد أن أكون بطلاً..؟quot; (ص86).
فرحان العُصّ:
quot;العصquot; هو لقب فرحان. وهو ما لا يتوافق كدلالة جسدية/ هزيل الجسم مع جرأة هذا الشخص الذي يصفه تاجر المخدرات أبو هند بأنه رجل شجاع وجريء: quot;فرحان ما هو مثل الورعان اللي مع أول كف يخرون ويكتّوا المكحلة كلهاquot; (ص76)، وهذه السمة تحديداً هي التي جذبت الكاتب إلى الكتابة عنه، ففرحان فاعلٌ مقابل الكاتب السلبي: quot;لو أن فرحان العُص يمتلك ثقافتك ورؤيتك للحياة، ربما كان أقدم على ما تخشى أن تفعلهquot; (ص86)، مع أن فعله انتقامي ولا يخرج عن دائرة الفعل الشخصي المحدود الأثر: quot;ما هي النتيجة؟. لا شيء، بعض الغرز في جبين العريس، غرز حرمته من الزفة مع العروس لكنه لم تحرمه من أخذها بعد العرسquot; (ص10). لكن هذا الفعل الانتقامي الشخصي يبرره جهل فرحان وعدم امتلاكه رؤية للحياة، عكس الكاتب الذي يمتلك الرؤية لكنه لا يفعل شيئاً.
إن أبرز دلالات تشكيل شخصية فرحان تتكون قبل ولادته حين توفي والده: quot;كان خبر الوفاة الذي سبق الولادة بثلاثة أشهر ونصف تقريباً.. هو ما جعل الكثير من الأقارب والجيران ينظرون إلى المولود الجديد باعتباره وجه الشؤمquot; (ص32)، كما أنه فشل في الحصول على الشهادة الثانوية لأنه يرى أن أخاه جابر قد فشل في تربيته، هذا الفشل الذي يمرره فرحان من خلال تعليقه على فشل أخيه أيضاً في تربية ابنه الدحمي: quot;ها هو يفشل مرة أخرى في تربية ولده كما فشل قبلها في تربية أخيهquot; (ص42)، لهذا يستمر في التشفي والانتقام حتى من أخيه: quot;لا يعرف فرحان لماذا شعر بفرح خفي وشرير وهو يلاحظ قلق جابر وخوفه ويلمح الحيرة والحزن والتعاسة في عينيهquot; (ص42). كما أنه لا يعاني الرفض الاجتماعي فقط: quot;لست سوى داشر وفاشل وعاطل، يحذر الجميع أولادهم من الحديث معك ومماشاتكquot; (ص15) و: quot;العمدة مرة قال له: يا ولدي على الأقل البس مثل الناسquot; (ص52)، بل يصل الأمر إلى أن أقرب الناس إليه وهي أمه حين ترى فيه، كما شعر، موضوعاً للحزن: quot;نصيبي من ولادتك الترمل، ونصيبي من بقية حياتك هموماً لا تنقطعquot; (ص90)، لذا من الطبيعي أن يرفض كل هذا النفي الاجتماعي من خلال التمرد ولو كان هذا التمرد مدمراً لمن هم حوله فيتحول إلى تاجر مخدرات: quot;الحضور في مجتمع أبي هند وشلته يأتي بالنسبة له في مقابل الغياب والتهميش والتجاهل بل والاحتقار أيضاً في مجتمع الحارة والبيتquot; (ص67)، أو أن يجد في quot;سحرquot; التي تخدم السكارى والحشاشين في استراحة أبي هند موضوعاً للحب، فقط لأنها أول امرأة عرفها واعترفت به: quot;فرحان الذي لم ير امرأة في حياته سوى أمه وأختيه.. كان يشعر بسعادة كبيرة وهو بجانب سحرquot; (ص76). إذن، فرحان لم يكن له خيار في أسباب تكريس فشله، فإن كان قد انحرف في البدء إلا أنه لن يستطيع العودة لأنه يحيا وسط مجتمع لا يغفر: quot;quot;لو كان فرحان يجيد استخدام التشبيهات لتخيل نفسه مثل قطار لا يمكن له أن يغادر قضبانه إلا ليتحطمquot; (ص64) فأصبح مجرد تفكيره في السعادة يشكل كابوساً: quot;quot;لا يشعر فرحان بالتعاسة إلا عندما يفكر في السعادةquot; (ص102).
دوال الأسماء:
كنية quot;الكاتبquot; هي quot;أبو رعدquot;، هذه الكنية التي قد تشكل حقلاً دلالياً لدراسة الأسماء ومدلولاتها ومن تمَّ تأويلها، فهو سلبي لكنه يرغب في أن يتخذ موقفاً علنياً لولا معرفته بسوء نهايات من يفعلون ذلك: quot;الحياة تجبرك على التنازل، وقليل هم الذين يتخلوا عن حياتهم مقابل مبادئهم، هل يمكنني أن أذهب إلى السجن مثلاً لكي أزيد من فرص تحقق الديمقرطية أو العدالة أو حقوق الإنسان؟quot; (ص85). كما أن الأمر يصل إلى حدّ أن تكون أحلامه خوفاً: quot;ما هي تهمتي؟. فيما تستمر أصابع الرجل تضغط على رقبتي وهو يطلب مني الاعتراف بالحقيقة. أصحو فجأة من النومquot; (ص73). لهذا فهو يحاول الكتابة عن ثائرين، ويسمي ابنه الأكبر باسم quot;رعدquot; دلالة في رغبة كامنة قوامها quot;الصوتquot; الذي صار يطلقه بأشكال تفريغ نفسي واعٍ أحياناً وغير واعٍ في أحايين كثيرة، بينما يفضح عجزه القريبين منه حتى زوجته: quot;ما صلحت نفسك وبيتك وتبغى تصلح الكون..!quot; (ص48).
أيضاً، اسم quot;فرحانquot; يأتي في سياق اجتماعي يرى في الفرح دالاً دينياً هاماً: [ذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] (القصص 76) مع أن المراد بذلك الفرح الذي يصاحبه الكبر والبغي على الناس والعدوان والبطر، إلا أنه يبقى دافعاً قوياً للتعامل مع كل من يحمل هذا الاسم على أنه منذور للنبذ والإقصاء، كما أنه الاسم، عند فصله عن الإسقاط القرآني، يشكل عبء التزام مولود بنمط محدد ضمن توقعات مجتمع محافظ، وهو التزام يشكل عقبة أمام حامليه لأنهم لم يختاروا عناء حمله والالتزام به، فضلاً عن كونه أداة سلطة اجتماعية هادمة حين يتناقض فعل حامله مع مدلولات الاسم!.
هذه الإشارة السريعة إلى الأسماء في رواية quot;تقاطعquot; تقترح إمكانية قراءة العمل ضمن الحقول الدلالية للأسماء الخاصة بالأماكن والشخصيات وحتى العنوان الرئيس للرواية.
الانتقام/ صيرورة عربية:
إذن، كل ما يرد في رواية quot;تقاطعquot; يتآزر في إيضاح النتيجة الحتمية لكل صراع عربي، فالانتقام هو ما جعل نهاية الكميت نهاية مأساوية: quot;هجاء بني أمية لا يأتي سوى بالمطاردة والسجونquot; (ص48)، وهو الذي وهب أبا العباس السفاح اسمه: quot;لرغبته الهائلة في الانتقامquot; (ص94)، وهي مسلمة تاريخية عربية: quot;المنهج يتطلب أن يكون التاريخ ناصع البياض في أذهان الطلاب المساكين، كل الخلفاء عظماء ورائعون وعادلونquot; (ص94). والانتقام سمة صراع الطوائف: quot;ألم يحول المتطرفون الشيعة إعدام الديكتاتور إلى مجرد عملية انتقامية لا تختلف عما يفعله رجال القاعدة بالمختطفين المساكينquot; (ص35). ومع كل هذا الحقل الدلالي الوافر حول مفردة الانتقام فإن صلاح القرشي لا يقدم شخوص روايته بمعزل عن دوافعهم، سواء المعلنة كانتقام العص من منصور الدبا بسبب حنان، أو الخفية: quot;شعرت لحظتها أنني لا أضرب شخصاً محدداً هو منصور الدبا، بل شعرتُ أنني ألعن أبو الحظ وقلة البختquot; (ص96)، فهو يناضل ضد القهر بعد أن فقد سر اعتراف حارته به، فهم لا يعترفون به إلا في حلبة المزمار: quot;في تلك اللحظات يعرفه الجميع.. بل إن العمدة نفسه لا يخجل من دعوته للنزول إلى حلبة المزمارquot; (ص67) و: quot;يمكن لو كنت سكران ما كنت ضربته، أنا كنت مقهور ومغلوب، تعرف يعني إيه مغلوب..quot; (ص60). هذه الفكرة التي أعادت الكاتب إلى وعيه بالقهر، فهو يحيل فكرة القهر إلى بُعدها الثقافي الذي يحزن لرؤية ديكتاتور تحول من غالب إلى خانع يشعر بالهزيمة والقهر: quot;لا أنسى المنظر البشع لإعدام تشاوتشسكو وزوجته، وقتل صدام حسينquot; (ص61)، لذا فإن الرغبة الكامنة تجعل من الكاتب شريكاً للعص: quot;لا يقصد منصور لشخصه لكن فشله الشخصي وهزيمته تجسدت في وجه ذلك المسكين. ربما كان هذا حالي مع زوجتي، أنا لا أكرهها شخصياً، لكنني أشعر في وجودها أنني مقيدquot; (ص96). وبسبب ذلك، ولأن الكميت عاد إلى بني أمية بلسانه وليس بقلبه لينجو من انتقامهم فإنه يوضح سبب الهزيمة التي تطال المثقف حين تصبح حياته على المحك: quot;العشرات من المانديلات ماتوا في السجون والمعتقلات دون أن ينتبه لهم أحدquot; (ص85). ومن هنا فإن ما يقرره صلاح القرشي في بداية الرواية على لسان quot;الكاتبquot; حول الانتقام: quot;وصلت إلى قناعة راسخة أن الانتقام هو العامل الأكبر والأهم في حركة التاريخquot; (ص9)، هو ما يصل إليه في نهايتها: quot;فرحان لم يختر هذه النهاية كما أن الكميت بن زيد لم يختر نهايته الممتلئة بالمفارقة فهو لم يُصلب ولم يمت وحيداً في السجنquot; (ص118)، فنهاية الرغبة في التغيير وإعلان المواقف ستوجه ضده رغبة السلطة في الانتقام: quot;أمام الانتقام تسقط العدالة وحقوق الإنسانquot; (ص35) فالديمقراطية كذبة كبرى وحقوق الإنسان هراء: quot;quot;تباً لهذه القضايا التي يحتاج الإنسان أن يضحي بنفسه من أجلهاquot; (86).
إن رواية quot;تقاطعquot; تستحق وقفة نقدية مطولة، فهذه القراءة النقدية العاجلة لا تقدم الكثير مما تزخر به الرواية من استعداد للانفتاح تحت ضغط التأويل، فهي كتابة رأسية تمتد من الآني إلى التاريخي أو العكس، لتتقاطع في شخصية quot;كاتبquot; ترعبه اللحظات الفاصلة: quot;هنالك لحظات فاصلة بين أن تكون صاحب شرعية، حاكماً جديداً، بطلاً يدخل التاريخ كزعيم ومجدد، قائداً لثورة عظيمة، وبين أن تكون مجرد خارج على النظام والقانون.. متمرداً.. مخرباً.. زعيماً لعصابة، مفسداً في الأرض، عميلاً حقيراً (ص93)، وهو ذات الرعب من عدم فهمه للحدود الفاصلة بين الثنائيات في الذهنية العربية، كالفرق بين الإدانة والبراءة من الذنب، وبين الانتصار والهزيمة، وبين الرغبة في الانتقام والرغبة في تحقيق العدالة، وبين المناضل والعميل، وبين الإنسان الناجح في وسطه الاجتماعي والفاشل المنبوذ. هذا الحفر الذي ينتهي إلى الإقرار بعادية نهاياتنا المؤلمة والبائسة في الوطن العربي الكبير: quot;النهاية كانت عادية ومتوقعة وبسيطة لسبب بسيط جداً هو أننا لم نخترهاquot; (ص120)، فهي نهايات مأساوية كالسجن أو الموت لنماذج كفرحان العص أو الكميت بن زيد، أو أكثر مرارة وغبناً ككآبة المثقف العربي السلبي لهول ما يراه ويعيشه فيصاب بالاكتئاب أو الجنون: quot;مصائر الأمور تعني أن هنالك فرقاً هائلاً بين ما تؤمن به وتريده وبين ما تحياه وتراهquot; (ص48)، لذا فمن الطبيعي أن يكرر القرشي على طول نص الرواية البيت الشعري الذي أعلن به كميت المنطق هزيمته التاريخية: quot; فالآن صرتُ إلى أمية، والأمور إلى مصائرquot;، فليس أمام المثقف إلا أن يحلم بالتغيير فقط دون أن يعلنه كموقف إلا من خلال الفن، ذلك التسريب الذي لن يكون إلا للاستشفاء لا أكثر، فمن يجلسون على كراسي الحكم في عالمنا العربي منذ بني أمية إلى اليوم لا يجيدون القراءة إجادتهم للانتقام باسم العدالة: quot;شمت الكميت بالرجل المخلوع والمعزول، كان صوته أعلى من المطلوب، ربما لأنه يعاني من ضعف السمع.. وكان ثمة رجالٌ غاضبون أو متضررون من ذلك القرار فانهالوا على الكميت ضرباً حتى أدموه ولم يطل به الأمر إلا ساعات ليموتquot; (ص118). نعم، فنحن الأمة التي في كل عام، ومنذ بني أمية حتى اليوم، لا تزال تلبس قبعة من قش وصندلاً من قش!.