حاوره عبدالعزيز جدير من المغرب: عمر وَالقاضي، كاتب من طينة خاصة. يكتب كالسلحفاة، بعد أن يترك النص يختمر في الخاطر، ثم يحوله حروفا وعواطف.. ويظل يعالجه حتى يقطر شعرية. هدوء الكاتب يتحول حرارة في النص واشتعالا. رضع قسوة المكان وعزلته، اشتد عوده قبل الأوان وقوة ملاحظته والذاكرة. يكتب بروحه، ويظل يضمخ كلماته بدم قلبه حتى تستوي رافعات همة الإنسان وفرادته. بين الدار البيضاء، موطن إقامته، وطنجة نشدان حريته والعزلة لتنقيح الذات وبعض النصوص كان لقاءان وهذه النزهة..
-كيف أتيت إلى الكتابة؟
- الكتابة بدأت منذ مرحلة الدراسة الابتدائية، كيف ذلك؟ في هذه المرحلة اكتشفت السينما وخاصة الأفلام العربية والقصص الرومانسية والاجتماعية. كنت أتأثر بمواضيعها وأحداثها. ولكن ذلك يظل يشغلني. ثم أبدأ في كتابتي كأنني أكتب قصة ولكن أساس هذه القصة هي أحداث الفيلم. أعيد كتابة الفيلم بأسلوبي وطريقتي وهكذا أتخلص من تأثير قصة الفيلم. وعندما انتقلت إلى المرحلة الإعدادية، اكتشفت أن هناك قصصا شبيهة بما يحدث في الأفلام يكتبها كتاب من مصر ولبنان وتعرفت على ما كان يكتبه المنفلوطي ووجدت في قصصه التي كتبها أو ترجمها بتصرف، لأنه لم يكن يعرف لغة، أجنبية فيعيد صياغتها بأسلوب مؤثر أعجبنا به في تلك المرحلة وقلما تجد من لم يعجب بأسلوبه. بعد ذلك، بدأت من باب التقليد أريد أن أكتب شيئا مما أقرأه للمنفلوطي. بدأت أكتب بعضا من مخزون ما عشته أو سمعته أو قد أختلقه، المهم أن أقلد الأدب الاسباني. وبدأت أقرأ الشعر الاسباني لشعراء رومانسيين كبار من ناحية أكتب نثرا يقترب من نثر المنفلوطي وفي نفس الوقت أكتب شعرا مرسلا على منوال ما أقرأه من شعر شعراء أسبان، منهم الإخوة ماتشادو ولوركا، الذي لم أكن أفهمه عكس الشعراء الرومانسيين.
ثم جاءت مرحلة التعليم الثانوي وبدأت انفتح على ثقافات أخرى، وكتاب آخرين ومبدعين عرب منهم محفوظ ويوسف إدريس وجبران. هذا الأخير أعدت قراءته إذ كنت قرأته في المرحلة الابتدائية ولم أفهمه عكس المنفلوطي. وبدأت أكتب وكان أول نص نشرته، في أواسط الستينيات، نص شعري ثم أتبعته بقصة قصيرة. بعد ذلك، ولجت مرحلة التعليم الجامعي. وفي هذا المرحلة بدأت أكتب وبدأت أقرأ اسمي في الصحف. نشرت قصصا خلال مرحلة الدراسة الجامعية وشاركت في ندوات وقراءات قصصية خلال تلك المرحلة. أذكر أنني شاركت في قراءة قصصية نظمتها تعاضدية كلية الآداب بظهر المهراز بفاس، وكان معي كتاب وقاصون شاركوا كذلك. وكانت هناك لجنة من الأساتذة حينما استمعت إلى النصوص المقروءة رتبتها حسب جودتها فكان نصي المعنون quot;السيد الخلاصquot;، في الدرجة الأولى بإجماع الأساتذة. هكذا دخلت عالم الكتابة.
- في حياة الكتاب أساتذة لعبوا دورا إلى جانب القراءة أو حفزوا عليها وكانوا سندا في دفع التلاميذ أو الطلبة صوب الكتابة. قد لا يخلو مسارك من هذا السند؟
- بالفعل. لما كنت أدرس في مدينة القصر الكبير خلال المرحلة الثانوية، كان يدرسنا اللغة العربية أستاذ لعب هذا الدور. وكان أديبا ينشر في مجلات ذلك الوقت، بعض النصوص. أذكر أن اسمه بوسلهام المحمدي. وهو شخص تدرج في وظيفة التعليم حتى أصبح نائبا للتربية الوطنية بمدينة ابن سليمان. ثم تقاعد، أطال الله في عمره. وفي المرحلة الجامعية كنت قريبا من أحد أساتذتي هو الشاعر إبراهيم السولامي. الذي أهداني نسخة من ديوانه يوم نشرها وأنا طالب. كان يوجهنا ويحترمنا وقد شجعني على الكتابة. ثم هناك شيئا مهما هو الذي ألح علي كثيرا، وهو الحالة التي كان عليها يعيش عليها البلد. وتأثر كثير من كتاب بما يحدث في العالم من حوادث ومن أصوات تندد بالظلم والاستعمار وتدعو إلى التحرر. أعجبنا بحركات تحررية عالمية إفريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية، وثورة الطلاب في فرنسا.. كل هذه عوامل جعلتني أهتم بالقراءة والكتابة.
- هذا يعني أن الاقتراب من الكتابة كان من بين أهدافه التغيير؟ أي أن للأدب وظيفة..
- كنا نكتب انطلاقا من تأثرنا بما يكتبه كتاب عالميون وعرب وهو الالتزام. كنا نعتقد أن الأدب له وظيفة اجتماعية وسياسية وندعو إلى كتابة ملتزمة. وكنا لا نستسيغ دعوة الفن للفن ولا نقبل ذلك الرأي، لأن الكتابة من أجل الكتابة لا تعطي خبزا ولا تشفي مريضا ولا تعلم أحدا. وقد أنتجنا نصوصا قصصية تدخل ضمن الأدب الملتزم. القصص التي كتبتها خلال مرحلتي الدراسة الثانوية والجامعية كانت نصوصا ملتزمة تدور حول الصراع الطبقي وتبين استغلال أرباب المعامل للعمال واستغلال الإقطاعيين للفلاحين الصغار. هذه النصوص المنتمية للأدب الملتزم ضاعت. وحينما فكرت في نشر مجموعة قصصية نشرت نصوصا كتبت بعد هذه المرحلة. النصوص القديمة ضاعت.. ولم تعد رغبة في نشرها ثم إنها فنيا لم تكن ناضجة.. في تلك المرحلة كان يهمنا المضمون وكنا نضحي بالشكل من دون أن يرف لنا طرف أو لم نكن نعنى به. كان يهمنا إبراز الفكرة. ثم بعد ذلك نظرا للتطورات التي حدثت في نظريات الأدب ووظائف الأدب ووجوب مراعاة الشكل والمضمون وعلاقتهما التي لا تقبل الانفصام.. وانفتاح بصيرتنا على أن الكتابة، بغض النظر عن الموضوع الذي نتناوله، هي صناعة، لذلك حينما فكرت في جمع قصصي للنشر راعيت مدى نضجها الفني. وهذه النصوص القصصية القصيرة تجد عينات منها في مجموعتي القصصية quot;سوء الظنquot;. هذا يعني أني أهملت الكثير من النصوص لم أجمعها لأنها أدت دورا في لحظة معينة أو ضاعت.
-يلاحظ القارئ والمتتبع لكتاباتك أنك بدأت بكتابة القصة القصيرة، لكنك فتحت عهد النشر بعمل روائي أول ثم آخر، وثالث..
-صحيح، النشر في الصحف بدأ بالقصة القصيرة، لكن إصدار كتاب كان في شكل عمل روائي. ثم توالى النشر لقصص قصيرة في الجرائد والمجلات. ثم صدرت رواية ثانية. لقد مزجت بين كتابة القصة القصيرة وكتابة الرواية، وهذا لا يعني أنني لا أكتب شعرا. أكتبه وأحتفظ به وقد أوظفه في عمل روائي أو قصة قصيرة. وقد سبق لي أن نشرت نصوصا شعرية في quot;العلم الثقافيquot;. من النصوص التي وظفت فيها الشعر رواية quot;البرزخquot;، ثم العمل الأخير quot;الجمرة الصدئةquot;.. هناك مقطع شعري مأخوذ من قصيدة طويلة، الفصل الأخير من quot;الجمرةquot;. كتابة الشعر، تعود إلى أشياء تشغلني وأرددها مع نفسي وذاكرتي، وتبدأ القصيدة تتشكل من بيت أو بيتين أو مقطع أو مقطعين ثم في الأخير أدون ما سكن في الذات والذاكرة. يبقى في الذهن حتى اللحظة التي أريد التدوين وكتابة القصيدة حينذاك قد أحذف، قد أضيف وحينما أكون في شبه رضا عن العمل أدونه نهائيا ولا أعود إليه.
-الكتابة أشق من خلع الضرس، والتنقيح.. يلعب دور إعادة تنظيف الفم.. أعلم أنك تكتب النص أكثر من مرة..
-بالفعل، فالعمل يمر بمراحل كتابة أولى وكتابة ثانية وكتابة ثالثة. قد أكتفي وقد لا أكتفي بها. أعود لرابع مرة، ويكون العمل قد اكتمل. كل النصوص كتبت ثلاث مرات. وهناك نصوص أعود إليها أكثر من ذلك. الكاتب ناقد ينقد عمله. يكتب ويضيف إلى عمله عمل الناقد.
-عرف عن ماركيز أنه يرتدي بذلة زرقاء قبل الجلوس إلى آلة الكتابة. قد يخضع كاتب لنداء الكتابة في أي مكان، كما الموت، وينهض إليها آخر وفق طقوس معينة.
-ليست هناك طقوس معينة في الكتابة فيما يخصني. في بداية كتابة نص، رواية أو قصة قصيرة، لا أحدد زمنا للشروع في الكتابة. أكتب في أي مكان: في حافلة، طريق، مقهى.. أسجل بعض الملاحظات لأضمنها النص الذي أكتبه أو أكون بصدد كتابته. فحينما يستوي النص أخصص وقتا لإكماله قد يكون صباحا؛ ولن يكون قبيل بزوغ الشمس أبدا، بعد شروق الشمس دائما. وقد يكون مساء. والمساء لا يعني غروب الشمس. في العشي. ناذرا ما أكتب ليلا، ناذرا ما أسهر لأكتب. ثم إنني أخصص ثمانين في المائة من وقتي للقراءة. أما الكتابة، فلا يتعدى الوقت المخصص لها نسبة عشرين في المائة، المتبقية، في فترات متقطعة، أما القراءة فدائمة ولا أقرأ إلا الإبداع من قصة ورواية.. وقد أقرأ مسرحية إذا سمعت أنها عمل جيد يحتل مكانة واضحة الملامح على صفحة الإبداع العالمي. أما الدراسات النقدية فلا أقرأها.
-عناوين نصوصك، السي عمر، تحيل على لحظات تريث في صياغتها وعلى جهد..
-عناوين الأعمال الإبداعية التي أصدرتها لا أختارها بسهولة. فغالبا، ما أرشّح للعمل القصصي أو الروائي عدة عناوين. ثم قد أبقي على عنوانين أو على، الأكثر، ثلاثة عناوين. وغالبا، ما أستشير الأصدقاء من الكتاب المبدعين والنقاد. وهذا ما حدث في العنوان الأول quot;البرزخquot; وquot;الطائر في العنقquot; وquot;رائحة الزمن الميتquot; وquot;سوء الظنquot; وquot;الجمرة الصدئةquot;.. كلها عناوين من اختيار المبدع الكبير أحمد بوزفور.
-قليلا ما يتحدث كاتب عن آخر، خاصة إذا ربطت بينهما علاقة الصداقة والكتابة والعشرة الطويلة.. السي أحمد بوزفور، أخلص للقصة القصيرة إخلاصه لأصدقائه..
-ترجع علاقتي بأحمد بوزفور، الكاتب، إلى أواسط الستينيات. حيث التقينا في كلية الآداب ظهر المهراز. ومن حسن الصدف قبل تعارفنا، أن جلسنا في طاولة في المدرج. ومنذ ذلك الوقت، بدأت صداقتنا لحد الآن وهي تتجاوز أربعين سنة. الغريب في الأمر أن بعض النقاد والكتاب لا يعرفون أن الكاتب بوزفور قبل أن يلتحق بالكلية كان قد اطلع على التراث العربي بكامله. من جاهليته إلى العصر الحديث. فلا أعتقد أنه استفاد في فترة الدراسة الجامعية من شيء جديد لأن ما كان يدرس لنا سبق لأحمد أن كان على اطلاع عليه. ثم بعد تخرجه، فجأة، نشر قصة قصيرة أحدثت ضجة تساءل الكثيرون من هو كاتب هذا النص؟ لأن النص يعبر عن جدة وحداثة في الكتابة لم تعهدها القصة المغربية ولا العربية. الغريب في الأمر أن الكاتب أحمد بوزفور اعتمد في ذلك على مخزونه من التراث. ومنذ ذلك الوقت، توالت نصوصه الإبداعية اللافتة للنظر، الصادمة للكثيرين. فهو يكتب عن وعي، يتقن صناعة الكتابة القصصية. يختار لنصه الوجهة التي يريدها. بإتقان ومهارة. وقد جنا هذا النوع من الكتابة على كثير من الأدباء الشباب الذين حاولوا تقليده. فبوزفور لا يمكن تقليده في كتابة القصة القصيرة. وقد سبق لي أن أكدت هذه الفكرة، فبوزفور تمثل التراث العربي قديمه وحديثه وحفظ القرآن في صغره وأعاد حفظه، فلذلك يمكن القول كما صرحت بذلك: بوزفور يكتب عن وحي. والمفهوم من الوحي، بعد معاناة وتفكير وأخذ ورد، ثم تستوي القصة عنده. فهو يتقن صنعة تفتيت الجملة، فالجملة الواحدة في قصة من قصصه قد يفتتها ثم يعيد تركيبها، حسب ما يبتغيه من الجملة، عكس ما نجد عند الكثير من الكتاب الذين يقعون ضحية جملهم. بوزفور كاتب استثنائي، وقد صرح لي بذلك كاتب مصري مبدع كذلك، هو سعيد الكفراوي قائلا: quot;لو كان عندنا في مصر كاتب في مستوى أحمد بوزفور لأقمنا الدنيا ولن نقعدها إلى الآنquot;. إن بوزفور كاتب ولا يمكن إضافة نعت آخر. فهو كاتب.
-لبوزفور عبارة مفادها أن البعض يكتب باللغة والبعض الآخر تكتب به اللغة.. نص quot;ذاتquot;، الساكن بين أحضان مجموعة quot;سوء الظنquot;، يمثل استثناء من حيث الكتابة والإيجاز وتفتيت النص حتى ليكتسب شذرية تجعله يصطف ضمن جهود الكتابة الجديدة..
-ذلك بعض هدف الكاتب. أخبرك أن نص quot;ذاتquot; الموجود بالمجموعة quot;سوء الظنquot; كان يقع في خمس عشرة صفحة، في البداية. وعندما أردت نشر المجموعة اقترحت لجنة قراءة المجموعة قبل طبعها لو أعيد النظر في طول هذا النص الأخير. لم يعجب طول النص، الأصلي، quot;مجموعة البحث في القصة القصيرةquot;. أخبرت بذلك وجلست في مقهى في الصباح، ولم أغادر إلا وقد تشكل عندي بديل تلك القصة الطويلة، شيئا ما. فكان هذا النص quot;ذاتquot; الذي لا يتجاوز خمس صفحات. علاقة هذا النص quot;ذاتquot; بالنص القديم الذي كان بعنوان آخر، ربما quot;الحارسquot;، هو اقتسام ذات الروح التي سكنت النص السابق وظلت متجسدة في النص الثاني، مع فارق أساس أن النص الجديد ولد بملامح جديدة وشحنة جديدة، وتقنية جديدة. أذكر أن جل الذين قرأوا المجموعة القصصية quot;سوء الظنquot; أعجبوا بالنص الأخير quot;ذاتquot; منهم بوزفور، وآخرين. أذكر أن صديقا لي هو يوسف حدادي، وهو طبيب، أعطيت له المجموعة في مدينة الناظور، وعند وصوله إلى مدينة فاس هاتفني مبديا إعجابه بالنص quot;ذاتquot;. ويوسف حدادي شاعر، لكن عيبه أنه لم يجمع قصائده في ديوان حتى الآن. أثناء المعرض الدولي للكتاب، قدمت مجموعة البحث في القصة القصيرة مجموعة من الإصدارات، (quot;جزيرة زرقاءquot; لسعيد منتسب، quot;أنين الماءquot; زهرة الرميج، وquot;سوء الظنquot;)، وقد قدمها بوزفور، وركز على قصة quot;ذاتquot;. يومها، سئلت عن سر إعجاب القارئ بهذه القصة، فقلت لأنني كتبتها بطريقة رائجة الآن وهي تقطيع النص واللعب في مسألة التأخير والتقديم، ربما لكي يوهم الكاتب القارئ أنه مجدد، ويكتب بطريقة حداثية لا علاقة لها بالتقنية القديمة. لا أنكر أنني تعمدت في كتابة ذلك النص بتلك الطريقة عكس النصوص الأخرى الموجودة بالمجموعة البرهنة على أنني قد أكتب بجميع الطرق الرائجة أو المتداولة.
-الجسد قد يشكل أذى، وهو موطن اللذة بلا منازع. تقدم قصة quot;ذاتquot; الجسد رهينة الجمال والمتعة وعدم القدرة على المقاومة. الجسد ضعيف ضعف الفراشة أمام انجذابها نحو إغراء النار..
-الجسد، أقوى من القنبلة. تأثير الجسد قد لا تحمد عواقبه. الجسد ذات لا أصل لها، ولا اسم لها. قد تحيي وقد تميت. الجسد، الذات قد يخدر، وقد ينعش. لا أحد ينجو منه. الإنسان، ذكر أو أنثى، ذات. من قبل ومن بعد. أما الباقي من الإنسان فهو مجرد توابل..
-لو تحدثنا عن سبيل تشكل هذا النص....
-كنت في مارتيل، [منطقة سياحية تمتد من مدينة تطوان إلى مدينة سبتة المحتلة] جالسا في وسط حديقة تابعة للمطعم والحانة أشرب قهوة تحت مظلة بقرب بوق [مكبر صوت] تنبعث منه موسيقى هادئة آتية من قاعة الاستقبال. موسيقى أذكر أنها أخذتني، هزتني، حتى أنني لم أعد أتحكم في نفسي، في نفس الآن، مر سرب من الفتيات.. خرجن من إقامة أحد كبار المهربين أو أحد رجال السلطة.. فهم يمتلكون أو يكترون تلك الاقامات.. والشابات يزلن لباسهن في الإقامة ويهبطن مرورا على الحديقة نزولا إلى الشاطئ.. هناك، رأيت جسدا فاتنا. من حسن حظي لم يكمل ما فعلته بي الموسيقى من هزة تفقد الكائن توازنه والحواس.. كانت هزة الجسد أقوى من الموسيقى فأعادني إلى ذاتي. بدأت أتأمل الجسد وهو يبتعد عني شيئا فشيئا. كان جسدا ولا أبهى. جمعت أشيائي وأشلائي وغادرت المكان. لم أنس ذلك الجسد سنين بعد ذلك. أتصور أن تلك الحسناء قد قضت وقتا أمام المرآة تتأمل جسدها، قبل الخروج والنزول إلى الشاطئ أو أن غرفتها لا تحتوي على مرآة. فهي المرآة. لا أعتقد أن من يصادفها في الطريق، لا ينظر إليها. قد يكون هذا الحدث هو مصدر تخليق هذا النص.
-quot;الرجم بالغيبquot;، لم تعمد هذه القصة القصيرة إلى تسمية شخصيتين باسمهما، أسماء الشخصيتين لم يذكرا.. طبعا، نقرأ من النص: quot;ناداه أبوه الذي مات منذ زمان ليسلمه مفاتح الدار. تسلم منه المفاتيح لأنه هو الذي علمه سر المهنة، وأوصاه بعدم التفريط فيهاquot; (ص: 65). ويبدو الأمر أشبه بقضية الشيخ والمريد. ويقول السارد على لسان الأتباع: quot;أنا أهذي جدا. أنت تهتدي جدا. وهو يهدي جدا.quot;
-خلاصة النص أن محمد زفزاف يمكن أن اعتباره أب القصة المغربية، والكثير من الكتاب من بعده حاولوا تقليده وجعله أبا لهم. وبوزفور يعترف بأبوة زفزاف، ولكن بوزفور يبقى هو بوزفور بملامحه وشخصيته المستقلة. وجاء وقت أن اشتهر فيه بوزفور ككاتب للقصة القصيرة. وجاء جيل من الشباب حاولوا تقليده بدون وعي. أعجبوا بما يكتبه بوزفور، وأصروا على كتابة شيء يدعون فيه أنهم متأثرون ببوزفور: فهو quot;أبوهم وأستاذهمquot;، يقولون. إلا أنه في الحقيقة وقع لهم ما وقع للغراب. فلا هو يمشي مشية الحمامة ولا عاد بقادر على مشية الغراب. وهذا ما وقع لبعض الشعراء الشباب حين أعجبوا بما يكتبه أدونيس، فجعلوا منه أبا لهم في السماء والأرض، ناسين أن ما يكتبه أدونيس هو وليد تجربة عميقة ترجع إلى نصف قرن. هكذا، أثناء تقليدهم لأدونيس كتبوا شيئا لا هو بالشعر ولا بالنثر. إذا، فقصة quot;الرجم بالغيبquot;، هي استغاثة وطلب لكي يكف الكتاب الشباب عن تقليد بوزفور. الشخصيات لا أسماء لها، ولكن شخصيتي زفزاف والسي أحمد لا يخطئهما القارئ المتتبع.
***
- روايتك الثالثة quot;رائحة الزمن الميتquot;، راهنت على العودة إلى تيمة سنوات الرصاص حتى كأنها هاجس امتلك مشاعر الكاتب ولم يطفئ ظمأه حبر مئات الصفحات التي سودها.. هل غير الهاجس قاد الكتابة نحو لحم وحيوات ومصائر أناس دفعوا قسما من ضريبة التغيير المعاق أم هناك بعض التحية والامتنان والتضامن؟
- الروايتان السابقتان quot;البرزخquot; وquot;طائر في العنقquot;، تتناولان مرحلة ما يسمى بسنوات الرصاص، ونظرا لهول هذه المرحلة من تاريخنا الحديث أو المعاصر ولتوثيقها كان علي أن أضيف رواية أخرى، تحكي عن جانب من جوانب مأساة المرحلة. ملخص الرواية أن أسرة مكونة من أب وأم لها ابنها الوحيد. الأب، غادر البادية إلى المدينة في مرحلة وانخرط في النضال ضد المستعمر. ثم جاء الاستقلال، ولم يعجبه ما آل إليه الوضع الداخلي. احتج ورفض التسليم بالواقع. لكنه لم يجد أذانا صاغية لرفض هذا الواقع، فاكتفى برفضه مقتنعا بذلك مع نفسه. ولكن، الخسارة كانت مضاعفة. لا هو استفاد من الاستقلال، ولا هو استرجع أرضه التي تركها في البادية، وقد استولى عليها إقطاعي بحماية المخزن. وقمة مأساته ومعاناته حينما اعتقل ابنه الوحيد، ذات صباح باكر. ولم يعرف مكان وجوده، قضى عمرا وهو يبحث عن مكان وجوده دون جدوى. وكلما سمع بمكان في مدينة ما يحتمل وجود ابنه هناك يسافر صحبة زوجته للبحث عنه. وهكذا من مدينة إلى مدينة دون معرفة وجود ابنه. وحدث أن اختفى الأب بدوره، ربما لإصراره على معرفة مكان ابنه. ويمكن ملاحظة أن زوجته أي أم ابنه لكثرة المعاناة لم تتحمل كثرتها فماتت فبقي الأب وحده. إلى أن اختفى. كيف اختفى، من كان وراء اختفائه هذا ليس معروفا. إذا، ضاع الابن وتوفيت أمه حسرة عليه، واختفى الأب. هذا نموذج لأسر كثيرة حدث لها شيء من هذا القبيل، وهناك أسر أخرى عانت مما هو أفظع من ذلك. وهناك أحداث ووقائع ومواقف تتضمنها الرواية. ويجب التنبيه إلى أن شكل الرواية اتخذ شكل موشح، من مطلع ودور وقفل ونهاية. والعنوان الداخلي للرواية، هو موشح من زماننا.
- هناك جهد على مستوى الشكل استرجع بنية قصيدة الموشح، التي تحيل على زمن ولى..
- المطلع، بداية والدور عرض للقضية والقفل هو تعقيد أو فتح. ثم تأتي النهاية. ومضمون الرواية، مغلق لا يمكن توضيح مكان المطلع أو القفل أو الدور. فالمضمون أكبر من أن تحتويه هذه العناصر. الرواية، موشح مؤلم حزين، يرجع إلى فترة طبعت بطابع الحزن. المقصود بالموشح أغنية حزينة، وثيقة عن مرحلة مأساوية من تاريخ البلد.
- الروايات الثلاث توثيق لمرحلة/مآسي كثيرة واحدة تختلف عن الأخرى.
- بالفعل، هي كذلك مع إضافات. quot;البرزخquot; تتناول شخصية رجل التعليم اعتقل من باب المؤسسة، وأخذ إلى لمجهول. ولم يعد إلى أسرته. quot;طائر في العنقquot; تحكي عن مناضل لسبب من الأسباب اضطر إلى الهجرة أو الهروب، وبعد انقضاء مدة أكثر من ثلاثين سنة عاد إلى وطنه وندم على الرجوع وقرر العودة إلى الهجرة لكنه لم يهاجر مرة ثانية لأن الذي كان تتحدث عنه الرواية جن في الأخير نظرا لما لاقاه في وطنه عندما عاد. أما المناضل فقد قرر أن يدخل إلى وطنه. السؤال، كيف يغامر برجوعه وقد رأى مصير الذي عاد من قبله؟ مهما كانت الظروف المناضل الحقيقي يجب أن يعود إلى بلده. رغم الجنون الذي قد يكون في انتظاره... الرواية الثالثة تحكي أسرة مناضلة ضحت بأرضها في البادية من أجل الدفاع عن الوطن خاب أملها في الاستقلال، ثم كانت الطامة الكبرى في فقدان ابنها الوحيد.
- هذه العناية بالوطن، بالبعد السياسي.. في نصوصك تعكس الخيبة، الإحساس بعدم فعالية النخبة التي لم تجد سبيلا لتقدم البلاد، تطوره..
- بالفعل، النخبة لم تقم بدورها. فكل الأحداث التي عرفتها البلاد وساهم فيها العمال والفلاحون البسطاء يمكن أن يكون الباعث على اندلاعها ما يكتب في الصحف والجرائد أو تصريحات بعض السياسيين أو النقابيين. لكن، في العمق عندما تتحرك هذه الفئات من العمال والحرفيين لا تجد غطاء يحميها فتحدث المأساة: تتشرد عائلات، ويتخلى عن هذه العائلات.. بل في مرحلة السبعينيات معظم الشبان الذين كانوا طلبة بالجامعات أو تلاميذ في الثانويات أو موظفين صغار، الذين اعتنقوا الماركسية كوسيلة لتخليص المواطن من الظلم والاستغلال، حينما واجهوا الواقع تخلى عنهم السياسيون بعدما كان جل هؤلاء الشباب ينتمون إلى تلك التنظيمات السياسية. تخلوا عنهم وتبرءوا منهم بدعوى أنهم قد نصحوا هؤلاء وأن ما يفكر فيه هؤلاء واتخذوه من مواقف لم يكن باتفاق مع التنظيمات السياسية والنقابية ولا كان برضائها.
- روايتك الأخيرة تبرز أن استقلال البلد لم يكن لحظة حققت للمواطنين الفرح المنتظر.. والآمال العريضة..
- لم يكن لحظة فرح. المغرب عاش منذ استقلاله مراحل جعلت المهتم بوطنه يعيش سلسلة احباطات.
- في نص quot;البندولquot; يسأل بِّيـبِّـي بالحانة السارد عن أغنى بلد في العالم فيرد هذا quot;أمريكاquot;، ثم quot;ألمانياquot;، وأخيرا quot;اليابانquot;.. فيؤكد بيـبي أنه quot;المغربquot;. ويضيف: quot;ألا ترى موظفيه يتركون في الحانة كل ليلة ما يفوق مرتبهم الشهري؟quot; فكيف يمضي بقية أيام الشهر ومن أين يملأ الثقوب التي تحدثها تلك الليلة ونظيراتها؟.. ونص quot;البندولquot; بني على حادثة وقعت بالفعل. في مكان على الحدود بين بني أنصار ومليلية المحتلة لامرأة رفض الأسبان السماح بدخولها إلى مدينتها. وبدا لي أن الجميع يتحمل مسئولية ما وقع ليس فقط للمواطنة المغربية ولكن في ضياع المدينة. النص يطرح قضية الإرهاب: هل يمكن اعتبار من يدافع عن مدينته، بالتجائه إلى العنف مضطرا، إرهابيا؟ فالبطل في البندول سيجد نفسه في الصباح في مفوضية الشرطة بدعوى أنه طعن شرطيا اسبانيا. المشكل، هل من يدافع عن مدينته واعتمد العنف مضطرا يعتبر إرهابيا؟ تنتهي القصة، الفصل هكذا: quot;قلت في نفسي: لماذا الندم؟ سأقرأ ما حدث في الجرائد مثل بقية خلق الله [...] نشرت جرائد الصباح بعناوين غليظة: quot;مختلة العقل تطعن شرطيا في مركز الحدودquot; ألم أقل تطورت الأمور؟!quot; (ص: 116). هل لا بد أن ننعت بهذه العبارة من أهينت في مدينتها فدافعت عن نفسها ومدينتها؟ المختل عقليا لا يدافع عن نفسه ومدينته. هل يملك هذا الوعي؟ الدفاع عن الوطن من شيم المناضل الأبي. كل ما في النص واقعي مر بالتخييل، لم يبق جافا. هو الواقع وقد صهره الخيال. وقد كتب النص بشاعرية تبعدها عن الواقعية الجافة.
- شخصية الجد.. في السيرة الذاتية quot;الجمرة الصدئةquot; مثير للانتباه بصرامتها وعنفها..
- كان إقطاعيا، عرف بحزمه وصرامته ويحكي عنه الناس أن لم يظلم أحدا. لم يتساهل في أي موقف من المواقف. فكل من ارتكب مخالفة يجب أن يتخذ منه موقف بغض النظر أن يكون هذا قريبا منه أو بعيدا منه. وهذه العينة من الأشخاص هي السائدة في تلك المرحلة..
- إلياذة الرحيل، في quot;الجمرة الصدئةquot; فصل يعكس التنقل المستمر في المكان، كما يعكس طابع المنطقة وقد يكون وراء ما يميز الشخصيات من طعم الحصار. ثم إن الروايات الثلاث روايات يحكمها الحصار.. الذي يميز المنطقة..
- الحصار كان قديما سائدا إلا أنه مع الخروج من منطقة معزولة ضيقة إلى منطقة أكثر رحابة مثل مدينة يبقى الحصار مستمرا. وبنمو الكائن مع الزمن يكتشف أن الحصار يمكن أن يكون شاملا. يحتوي، يشمل البلد كله. فما أتعس الكائن الذي عانى حصارا في قريته ورحل ليجده في المدينة، ولما طاف في البلد وجد الحصار في انتظاره. فموضوعة الحرية هي الأساس في كل الأعمال التي كتبتها. التوق إلى الخروج من الحصار. ولا يمكن التخلص من الحصار إلا بتحقيق الحرية.
- قد يكون الاستقرار الذي لم ينعم به السارد وهو طفل يشكل الجذور التي نمت معها قضية الحصار..
- الطفل كان صغير السن، حينما حل بالمدينة تحرر. كيف تحرر؟ وجد أشياء لم تكن في قريته.. أول ما لفت انتباهه هو البحر. ومع الوقت، استأنس به وانتبه إلى شساعته، ومداه في الأفق كما أن له عمقا لا يمكن معرفة ما يكمن فيه. فالطفل عندما يصبح يافعا وشابا يظل البحر متمثلا أمامه. ويبحث عن سبل معرفة كنه البحر. لكنه في النهاية لا يصل إلى مبتغاه. معنى هذا أن الإحساس بالعجز يظل معه طوال فترات حياته. يظل يبحث عن كيفية التخلص من ذلك العجز.
- في الطفولة، الإنسان لا يعرف ما يجري حوله لأنه لو كان يعرف ما يجري حوله لما سمي بطفل. فيمضي الوقت ومع نموه يعرف أشياء كثيرة مرت به عندما كان طفلا. فالطفل، يكون باستطاعته وهو طفل، نقل ما يحدث حوله أما طرح التساؤل ماذا وكيف وقع.. ذلك يقتضي أن تمر به السنين وبفعل نموه العقلي والمعرفي يمكن أن يجد الجواب عن تلك الأسئلة. فالطفل، كائن هو في مرحلة التلقي. هذا التلقي لا يخرج عن الأمر بالنهي بالفعل وترك ما يسود في الطفولة. على الأقل، في البلدان المتخلفة. طرح السؤال في مجتمع تقليدي متخلف من قبيل المستحيلات. أذكر أننا ونحن في مرحلة الطفولة حينما نسأل معلمنا يتخذ منا موقفا ويأمرنا أن لا نسأل إلا عندما يطلب منا هو ذلك. فالطفل الصغير في نص quot;المديرانquot; كان يدرس ويتعلم في مدرسة لها مسئولان. واحد اسباني والآخر مغربي. كيف يستطيع بحكم سنه أن يعرف أن الاسباني يمثل المستعمر، والمغربي يمثل السكان الأهالي؟ سنه لا يسمح بالوصول إلى هذه الحقيقة. وكل ما يستطيع أن يقوله هو أن يسرد ما كان يقال له. لكن الطفل بحكم سنه: ما يهمه هو أي المسئولين أكثر فائدة وأنفع؟ وأحسن تعاملا إنسانيا؟ فقد كان المسئول الاسباني هو الراجح في هذا الميدان بغض النظر عما كان يمثله بالنسبة للكبير.
- جذور إنسانية الأجنبي وشراسة المواطن المسئول المغربي قد تعود إلى هذه الفترة، وتبدو واضحة الملامح من خلال وقائع الفصل المعنون quot;بالمديرانquot;؟
- بالنسبة للطفل عندما يكبر سيكتشف أن الأجنبي أكثر فائدة من المسئول الأهلي من هنا نجد أن الكثيرين ممن عاشوا في تلك المرحلة يتأسفون على رحيل الأجنبي. ليس هذا إهمالا أو خيانة لوطنه إنما هي حقيقة عاشوها في الواقع. أذكر أنه في مدينتي الصغيرة، الكثير من اليهود عندما رحلوا إلى إسرائيل لم يسيئوا إلى المواطنين المغاربة الذين كانوا يشتغلون عندهم في المغرب. فالكثير من المواطنين تسلموا منهم بعض ممتلكاتهم. هذا واقع. وليس معناه أننا لا ندافع عن حق الفلسطينيين في تأسيس وطنهم وأن فلسطين هي أرضهم وهم أصحابها الشرعيون إنما واقعة تصرف بعض اليهود، وقد كان شيئا حقيقيا، لا مانع من ذكره.
التعليقات