ذات مساء كنت بالبراري اقلب صفحات الخلاء باحثا عن مهجع القلم رفقة سنونو وزوج حمام ظلّ في أثري كظلي،، مشيت كثيرا أطبع خطواتي على رقع من تراب خربشها الجدب كأن لم يمسسها حبر السماء منذ قرون.. كأن الطير لم يحلق هنا،، كأن الزهر لم ينبت ولم يقبله نسيم يبثه بوح الشذا.كنت على شفا التجابه مع اللاشيء في خواء مفتوح تذرعه الإعاقة.. كان المشهد بقراءة أخرى أقل انغماسا بسوادها محبرا لصالح فكرة بيضاء وربما حالمة.. هنا يتأجج الانطلاق وينسل التحرر من جائحة المثبطات القابعة وراء كل الرهانات الفادحة هناك،، حيث الأسر الانفعالي والفكري ينصب للشرود فخاخه بثغور الانفلات ويطوب باسم الركود كل الأجنحة كمنشآت ساكنة.. في معالنة فجة مع الغائب المحظور quot; الهواء النظيف والخيارات الحرة quot;,,, لعلي كقلة أو ككثرة ممن يشيئون في الطبيعة معاناتهم ويؤنسنون حتى الجمادات والعجموات.. لكنني في الآن ذاته كنت في المقلب الآخر من ضفاف الاستغراق أتحسس الاعتمال يتسرب رويدا رويدا ذائبا باللاحسي المغمور سابحا بي ضد التيار من دون طوق نجاة وسط دوامة سجال تستعدي كلماتي, بعد أن هوى بإسقاطاته الحادة على مرآة الخاطر المهشمة.. وبخضات قوية ربما كان لبعضها صداه الارتدادي المجدي والمثير...
بعد حين تعبت فأويت إلى سفح فسيح أنظر إلى الأفق الممدود وهو يرسب غباره تحت هالة الضياء.. تدلى إلهام المكان فاعتصرت للحمام بكفي من عناقيد الصيف حروف حكاية.. جلبتها سحابة يتيمة حطت على كتف الوهاد تمسح لظى الهجير عن وجه المغيب.. بعد أن تركتها الريح بهذا القفر وحيدة تستعطي النسيم هباته الشحيحة....
في مسارب متربة خاضتها سيقان اليرابيع كمنطات لمشاويرها الليلية العامرة بالرقص والغزل..ثمة الكثير مما لا يستنفر الرصد على جانبيها..فعلى تلك الحواف الشائكة يغرز الظلام أنيابه فاغرا فاه ليبتلع مجال الرؤية ويقضم تمدد الزمن،، فالعدم يتراص وراء العدم ولا شيء غيره.. هنا تبدو المسارب كخيوط بيضاء استعارت من شعاع القمر بعض بياضه فنسجت مغازل المجيء لمشّاء الليل تميمة أمان تحرس خطاه..
عند عتبات الهضاب تناهى من هاتف عابر طرف جواب لسؤال تشظى استفهامه وفاح بالذهن سواه،، عن أعشاب ذكية داستها حوافر الغباء!،، عن أصنام للثغاء نصبت بالوادي الأصم وفوق القمم مشاجب للعويل!،، وعن قطرات الندى في أهداب الظباء من صيرها جمرات عطش؟...
في الفضاء دسّت أبراج النجوم في مدارات الحظوظ يقين التلال بغوث المحال.. quot; كلمة سر quot;.. نُحتت من صوان الشعاب تقول :.. quot; سيأتي السيل العرم ليكنس القحط السيار في جُب الغبار quot; سخر بالجوار شبح ريان بن راعي السنام،، وتعلق صبيان السراب بقهقهة طويلة أطلقها بوجه أبناء العذاب شيخ الدلاء المهيب.....
ناديت في الأغصان أوراق الشجر فلم ترد إلا خشخشة الذبول،،,, عاودت أنصت.. فأنست في الصمت رشات خرير.....
غير بعيد تصاعدت دوامة غبار وورق..طقس رياضة يعتري جنيّات الفصول كلما تنادت لتتبارى بميدان الطبيعة,, عقب ذلك هدوء مباغت تسربت من سلطانه نسمة مناوئة لعسس الصمت الغريب.. ثم طفق الخريف يخلع جلباب الرياح،،, يراود بواكير الشتاء أن تجنح بقافلة السحاب نحو مرآة الغدير كي تمشّط الشمس خيوط الصباح تحت المطر وفي حضرة عواء الذئاب....هكذا قالت أساطير السلف quot; لا مطر مع الحر إلا ويتلوه خراب,, سلوا أكداس السنابل وعراجين البلح quot;....
بميدان المسيل تلاقت جرار بني الصبر وطوابير شداد الحبال،،, فدقت المطر أجراسها رعد وبرق.. نكس من نكس ونكص من نكص بين مفقود وشريد وفارق من غرق ببحر الرمال عطشه مخلفا جرة تنوح بها الريح..,,...
إلا هو رفض وأبى!!! تمرد خيط البلل الرفيع كالبطل،، التحف زبد الخطر دكّ عثرات الحصى وشقّ دربه بين عيدان الجداول...طوفان هدير...
قطرة وراء قطرة على حواف الأمام صارت فلول اليباس وراء،، تلقمها أنياب الجروف غثاء يجر غثاء..... فجأة فاح عبق التراب وتناثرت على سفح الصخر حبات مطر ثقيلة تناثر رذاذها.. قطرات تتفجر منها قطرات..
كان السنونو على كتفي يغط في ريش عميق احتضن رأسه بريش صدره ونام،، أما زوج الحمام فقد انتفخ ككرتين من ريش تدحرجتا في صمت إلى كفي وكفي.. حتى هبطت تلك الحمامة البيضاء بجواري وألقت سلامها على كاهل الهشيم quot; سنبلة خضراءquot;
لازلت ألوذ بتلك البقاع وأمضي فيها ليالي مبعثرة من زمن لا يجتمع لي من دقات ساعته إلا لسعات العقارب المسمومة الخبر أو المؤلمة الأنباء.. هنا كم كان لي من ذكرى وكم أغوتني البرية بسحرها وهمسها الخافت يجذبني من ضجيج الشوارع المأزومة وزحام المدينة الفاشلة.. هنا كم من سفح ومنحدر وكثيب استقبل سهري عنده بلا ميعاد وكم راودتني الشعاب عن سرها المكنون كسيل يجوبها ليلا باحثا عن أحاجي الماء وأساطير السراب ليروي حلوله العطشى لألغاز الليل اللذيذة..
كان صدري منتفخا بفرحة مكتومة وكانت على وجهي ابتسامة بحجم قوس قزح... لملمت همسي إلى فيض نفسي ساكتا كصوفي على صهوة الجذب.. أحرث بالباطن سرا تعويذة السبات.. أحتسي أخر الليل بفنجان الصباح كثمل اترعه القمر صفاء من زق تفضل وانحنى يسقي بالشعاع المواجيد نشواه...
نظرت بوجهي وقلت له quot; صدقني مثل هذا الفرح الباطني يكفيك وفمي لتضحك سنة كاملة فافرح ولا تذكرني بمطلع السنة المقبلة.. عاد وجهي ليتخدر مقبلا رأسي راضيا ومتشبثا به بعد أن انفرجت أساريره.. بسكون تهادت أجفان الوهن مغشيا عليها في حضرة النعاس البري.. ظلت أشواك الكوابيس رابضة ترمقني ولم تقترب.. بعد أن اقترفها الملل والبلل طارت إلى ظهر جذع قديم،، ثم تمددت هناك بين قش الحضيض كهواجس نافقة. منتظرة مرور السيل أو بائس تعس سيتوسدها ذات مساء.....


شاعر وكاتب ليبي