غادة أسعد من الناصرة: هذه ليست المرة الأولى التي يلتقي فيها فنانون عربًا ويهوديًا في معرضٍ فني في مدينة تل أبيب، لكنّ المثير في الموضوع أن يتناول المشاركون في هذا العمل quot;رواية النكبة الفلسطينيةquot; كاملةً، وسط أكبر المدن الإسرائيلية وأكثرها ازدحامًا بالزوار، وفي شارع الميناء (هنجار 26)، حيث أقيم المعرض في الثالث والعشرين من تموز في مجمع تجاري، يحاذيه مطعم شهير في المنطقة، وفي زوايا مختلفة من المكان وداخل صالة العرض، تتناثر كلمات عربية وتحتها مرادفتها باللغة العبرية، الأمر الذي أثار استهجان رواد المكان.
المعرض الذي حمل عنوان quot;كما يجب- Comme Il fautquot;، هو ثمرة عمل جمعيتي quot;ذاكراتquot; وquot;فرهسياquot; الإسرائيليتين التقدميتين، حيث عُرضت مجموعة من صور الأرشيف الصهيوني، إضافة الى نصوص ومواد تتناول النكبة الفلسطينية، ومفردات متميزة على شكل قاموس عربي عبري زيّن زوايا عدة داخل المكان وخارجه.
وخلف هذا المعرض الهام والجريء في عرض المأساة الفلسطينية على الآخر اليهودي، وقفت مجموعة من الناشطين الفنيين التقت بهم مراسلة موقع quot;إيلافquot;، وهم: منار زعبي، أوسنات بار أور، عوفر كهانا ونورما موسي، وتحدث المشاركون عن المعرض وأهمية إقامته في كبرى المدن الإسرائيلية، وتطرقوا إلى أهم قضية تشغل بال الفلسطينيين في العالم، إنها quot;النكبة الفلسطينيةquot; التي عاشها وما زال يعيشها أبناء هذه التراب ضحايا التهجير الفلسطيني...
بداية كان اللقاء مع الفنانة منار زعبي (منسقة المشروع) التي تناولت محتويات المعرض فقالت: quot;يدور الحديث عن ثلاثة أجزاء في المعرض، الأول صور جمعتها الفنانة ارئيلا ازولاي في كتاب باسم quot;عنف مؤسسquot;، وهي صور أخذت من الأرشيف الصهيوني التقطت بين الأعوامل 1947 و1950، وتحت هذه الصور هنالك شروحات بالعربية والعبرية.
أما الجزء الثاني الذي تناوله المعرض فهو قاموس عربي ndash; عبري، صممه فنانون من جمعية quot;فرهسياquot;، حيث تمّ رش المكان بالكلمات العربية ومرادفاتها باللغة العبرية.
أما الجزء الثالث فهو غرفة للمعلومات حول النكبة، فيها مجموع من النصوص والمواد التي انتجتها جمعية ذاكرات الاسرائيلية التي تدعو للعودة وحق اللاجئين الفلسطينيين في أرضهم، كما أنّ هناك تفاصيل للقرى والمدن الفلسطينية التي تمّ تهجيرها.
وفي الغرفة التي جمعت أعدادًا كبيرة من مجلة quot;ذاكراتquot;، التقيت نورما موسي (لقب اول في الفنون، وطالبة دكتورة، وموثقة)، طلبت منها شرحًا عن اسهامها في المعرض فقالت: quot;مهمتي هي في توثيق الذاكرة الفلسطينية، وعملي هذا يتصل مع فنانين، ومعًا ننسق تفاصيل المعرض.
وتزيد نورما في المعلومات فتقول: quot;بدأتُ العمل في جمعية quot;ذاكراتquot; في العام 2002، وأثناء عملي تكشف لدي حقائق مؤلمة لم ألمسها من قبل، فقد اكتشفت أنّ النكبة الفلسطينية بدأت في العام 1948 وما قبل لكنها مستمرة حتى اليوم...quot;.
نورما تؤكد بأنّ الجمهور الاسرائيلي أصبح يهتم لسماع رواية النكبة الفلسطينية، وخيرُ دليل على ذلك، أنّ هناك جهات اعلامية أصبحت تتوجه لها لتكتب عن quot;قانون النكبةquot;، وتعتقد نورما انّ الحديث عن quot;قانون النكبةquot;، أتى كرد فعل للحديث المستمر عن النكبة الفلسطينية وعن حق العودة للاجئين، وعندما لم يعد يحتمل بعض الزعماء في الكنيست اتساع رقعة الذين يريدون معرفة المزيد عن حيثيات النكبة، صارَ لا بدّ من إخماد نيران الماضي...
بينما ترى نورما أنه لا يمكن اسكات الوجع الفلسطيني الذي أفرزته تدعيات النكبة، والأمر كما تراه لا يتعلق فقط بالعرب بل هي مسألة ترتبط بالفلسطيني والاسرائيلي معًا، الفلسطيني المفعول به، والاسرائيلي الذي قام بفعلته، وعليه أن يتحمل مسؤوليته وأن يشعر بالآخر، وما اقترفته يده من خطأ تاريخي جسيم لا يمكن تخطيه بدون الاعتراف بوقوعه...
نورما تقترب بحديثها مني أكثر فتقول ردًا على أسئلتي: quot;لم يكن اتجاهي لمعرفة المزيد عن نكبة الشعب الفلسطيني، سببه دراستي لمجال الفنون، بل أتى من المجموعات الارشادية التي كنتُ أقيمها، ولطالما التقيت بمجموعات فلسطينية واسرائيلية وكان يصل الفلسطينيون كما وصل اليهود الى نقطة الحديث عن العام 48، فتتوتر الأجواء، وأدخل أنا ايضًا في هذه المشاعر بين قلقٍ وخوفٍ وتحسُب، ما يعني بالنسبة لي أنّ هناك شيء مبهمًا يجب التطرق اليه، من هنا بدأت اهتم بالمعرفة وتكشف أمام الحقيقة بصورة تدريجيةquot;.
أما عن عملها في جمعية quot;ذاكراتquot; فتقول نورما: أنه منحها الكثير من الأمل، رغم ضآلة الأمل في التغيير، لكن في quot;ذاخراتquot; النظرة مختلفة، العلاقات بين الفلسطيني والاسرائيلي تصبح متاحة، والحياة المشتركة يمكن ان تكون، في حال تمّ الاعتراف بالنكبة وبحق عودة اللاجئين الى ديارهمquot;
سألتها عن امكانية إحلال سلام عادل فردّت نورما: quot;لا يمكن ان يتحقق سلام بدون ان يتحمل الاسرائيليون مسؤوليتهم عن افعالهم التي جرت في العام 1948، بدون ذلك لا يمكن الإشارة الى سلام حقيقي، بل هو مجموعة من التسهيلات، غير المبنية على حياة مشتركة وعلى صدق النوايا، ومؤلمٌ حقًا أن نكبة الشعب الفلسطيني ومعاناته لا تتوقف، ولا أسهل من تحمل الآخر لمسؤوليته ليفتح صفحة من الواقع الجديدquot;.
والتقيت بالناشطة اوسنات بار اور(فنانة ومصورة وموثقة) فحدثتني عن ارتباطها العميق بهذا المعرض الفني قائلة: quot;أقيم المعرض في قلب تل أبيب، ليخاطب الجمهور الاسرائيلي، وعبر بأدواتنا أردنا أن نفتح اعين المشاهدين، كي يتخذوا أدوات اخرى، يتدارسونها، بعيدًا عن دور وزارة المعارف الإسرائيلية ووسائل الاعلام العبريةquot;.
تضيف بار اور: quot;نحن لا نتحدث فقط عن واقع النكبة والاحتلال، نحن نفضح مجتمعًا قام على أساس الاحتلال والاقصاء والتهجير، ومارس نفس الاسلوب في التعامل مع فئات المتجمع، ولعلّ التعامل مع المرأة، ومع العمال الأجانب، والبسطاء، هو خيرُ دليل على أنّ السيطرة التي تأتي بالاحتلال، سوف تجعلك قاسيًا بحق ابنائك والمحيطين بك ايضًا... ثم إنني اتسائل كيف يمكن لمجتمع يتعامل مع عدوه بهذا العنف، كيف يمكن لأبنائنا أن يربوا؟!! إنهم سيتشبعون من الظلم والقسوة والعنف الممارسquot;.
وتدخّل عوفر كهانا -الناشط في جمعية فرهيسيا ومشارك في التحضير للمعرض، فبادرته بالسؤال: متى بدأت الاهتمام برواية النكبة؟!
قال: quot;اهتمامي بدأ من جيل صغير، بين 16-17 عامًا، حيثُ بدأت تثيرنا المجالات الاجتماعية والسياسية، منذ حرب لبنان 1982، وكلما سمعت اكثر زادت اسئلتي، وزاد حافزي لمعرفة المزيد، فكل ما يحيط بنا من احتلال وتوترات في المنطقة وحروب وعنف يجعلني أفتح عيني باندهاش، وبدأت أستكشف بنفسي الحقائق حتى وصلت الى الجذور، الى العام 48، لكن الأمر كان قاسيًا جدًا، فقد حاول كثيرون من الاسرائيليين صمّ آذانهم عن سماع رواية النكبة، ثم جاءت علاقتي بجمعية quot;ذاكراتquot;، وquot;فرهيسياquot;، لتنقلب مفاهيمي القديمة، شعرت بأن خداعًا تاريخيًا رافقني منذ المراحل الاولى في تعليمي الابتدائي وحتى سنواتٍ قريبة ماضية...
واكتشفت ان وزارة المعارف عندنا تنقل واقعًا ورواية تاريخية موجهة ونابعة من الوجود الصهيوني صاحب الأرض والملكية، تذكرت كيف كنت اتطلع الى الأشياء في مدينة اشكلون حيث ولدت، كنا ورفاقي بصورة يومية نمضي وقتًا طويلاً عند الشاطئ وفي المكان معلمًا نسميه quot;الشيخquot;، فنلتقي هناك ونغني ونرقص ونقفز من اعلى نقطة الى البحر، وحين عدتُ قبل سنة الى المدينة، حيث تسكن عائلتي، رأيتُ جميع معالم القرية quot;المجدلquot;، كما كانت تسمى قبل التهجير، البنايات والمسجد، كل ما في المكان يشير الى كونه عربي الملامح، وتسائلت بيني وبين نفسي كيف لم أعر هذا المنظر اهتمامًا من قبل، رغم بروز المعالم... quot;.
سألتُ المشرفين على المعرض: quot;هل هناك مناسبة خاصة لإقامة المعرض؟!quot;
فأجابتني اوسنات: quot;نعم هناك مناسبات عديدة، فعندما يهدمون البيوت الفلسطينية فهي مناسبة لهذا المعرض، وعندما يمنعون إحياء نكبة الشعب الفلسطيني في المدارس، لا بدّ عندما من إقامة معرضنا، وحين يتعرضون للفلسطينيين في الضفة والقطاع يوميًا، تكون مناسبة...، لا تخلو المناسبات المؤلمة في تاريخ الفلسطينيين، ولا تخلو احتفالات الحكومة بعنفها الممارس يوميًاquot;.
وتابعت اوسنات: quot;أشعر أنّ علي أن أعمل بصورة مكثفة، من أجل التأكيد على رسالتي، وما دام الوزراء في الكنيست قلقون من النكبة، ويسعون لفرض قوانين لمنع إحياء الذكرى، معنى ذلك أنّ عملنا في جمعيتي quot;ذاكراتquot; وquot;فيرهسياquot; تلفت الأنظار، وهذا ما يقلقهم ويثير ازعاجهم، ويجبرهم على محاربة مسارناquot;.
quot;بل إنّ ما يثيرهم يحفزنا ويشجعنا على المواصلة، إذ أنّ هناك آذان تسمع هذا الوجع، وفي كلّ مرّة ينكشف الألم يزيد التحريض ضد الحديث عن النكبة، لا يريدون أن يسمعوا أو يروا، لكنهم لن يستطيعوا منع الفلسطيني من تحديد مشاعره، وفي كل مرةٍ يستغلون العواطف ليثيرون مشاعر الفلسطينيين في البلاد، فيشحنون الأجواء، كما فعلوا عند دخول مارزل الى مدينة ام الفحم، أو الى رهط في النقب، فهم يوفرون أجواء عنف ليقولوا أنّ العربي quot;عنيفquot; ولا مكان له في البلاد، ليجدوا ذريعة لنفيه والقيام بترانسفير جماعي، لذلك يزيلون اللافتات التي تشير الى العربية ويمنعنون احياء النكبة والتضييق على العربي، كي يسهل ترحيله...quot;
بينما يقاطعها عوفر فيقول: quot;أتفهم الغضب العربي، لكنني اعتقد انه يجب تقديم ورود لمارزل كي لا نمرّر لعبتهم في إثارة الفلسطينيquot;.
تقول اوسنات: quot;انا شخصيًا لا ألعب لعبتهم، بل أصم أذني عن سماع ما تردده وسائل الاعلام العبرية، لا انصت الى نشرات أخبارهم، فالاسلوب الذي تتبعه الصحافة العبرية يستفز المستمع، يتحدثون بلسان السلطة، ولكي تكون صادق مع نفسك في هذه البلاد، يجب الاعتماد على فهمك وعلى انسانيتك وأخلاقك بدل ان تستمع لادعاءات المعلقين السياسيين والصحافيين، الذين يقلبون الوقائع ويحرّفون الحقائق... ونحن نعرف أنّ أحد أسباب نجاح السياسة الاسرائيلية هو استغلال وسائل الاعلام العبرية في التحضير، فيصبح الاعلاميون ليس فقط شركاء، بل هم الناطقون الرسميون بلسان الحكومة، ويشاركهم في ذلك وزارة المعارف حيث يستنسخون السياسة الصهيونية على افضل وجه للأسفquot;...
سألت اوسنات ما الذي يمنحه لك الفن فقالت: quot;الفن يمنحنا حرية الحديث، الابداع، النقد، التفكير، وهذا الأمر غير موجود في مجالات اخرى، الفن يعطينا حرية غير محدودة، إذ ننظر الى الواقع ونبدأ بخلق واقعٍ جديد، وهذا ما يفعله ايضًا جمع المواد والأرشفة، حيث نبني واقعًا جديدًا أكثر صدقاً وأنا كمصورة أسعد بما أقوم به إذ انظر الى الواقع وآتي ببدائل فنحن أكثر من منح الحرية ليعتمد على الخيال في فرض واقع أكثر شفافية وإنسانيةquot;.
تستوقفني منار زعبي بكلماتها: quot;إنّ هذا المعرض ليس معرضًا فنيًا بقدر ما هو مصدرًا للثقافة البصرية، فهو يتعامل مع المعلومات والصور ومع أمثلة، إنه مصدر غني بالمعلومات وليس بالمفهوم الكلاسيكي لمعنى الفن واللوحات والرسومات، إنه برنامج تربوي، تتناقله العين عبر الصحيفة أو العمل الغرافي أو الصورة الفوتوغرافية، أو قاموس الكلمات المتناثر في زوايا المعرض، وفي هذا العمل مخزون وافٍ للكلمات، بل للحقائق، وله معنىً كبيى واحتكاك بالقانون والسلطة، وأمام هذا الواقع لا يدهشنا أن يطلع صاحب المطعم المجاور أن نزيل الكلمات العربية... لا لشيء إلا لأنها تستفزهم بوجود الآخر (العربي) في المكانquot;.
وينهي عوفر اللقاء بالحديث عن القاموس: quot;لقد اخترنا الكلمات بصورة جماعية، أضفنا كلمات وألغينا بعضها، واخترنا المفردات التي ترتبط بالمكان، وتتواصل معه، وحاولنا دون قصدٍ مسبق أن نختار كلمات تتشابه في اللغتين العربية والعبرية، فاكتشفنا انّ هناك الكثير من المفردات المشابهة، لم نأتِ بكلمات من الفضاء بل هي من واقعنا المُعاش، تحدثنا عن الفقر والعضة والأكل، فلكل كلمة معناها الخاص وهي تمثل الفرد وتمثل الآخر ايضًا، فهل اليهودي يأكل والعربي ليس كذلك؟! كما تناولنا النكبة والسلب وهو موقف سياسي، وكلمات اخرى يهذي بها كلٌ منِا ولسان حاله يقول أنا أفكر وأتخيل...، ولو لم يكن للكلمات وقعها لما وصلتنا رسالة بمحو الكلمات المتناثرة في البناية المجاورة للمعرض...quot;