حسين سليمان ndash; هيوستن:هناك فرض لا أميل إلى تصديقه وهو، لولا quot;الأناquot; لما كان هناك فن ولا تحضر، فهي حاسة الإبداع المتطلع نحو التفرد والتميز. ولنعد إلى الأيام الأولى، أيام الصيد وملاجئ الكهوف، المكمن البدائي للإنسان حيث التماثل والتناسب مع الرحم...
لا أظن أو أظن، لا أدري بالتحديد ماذا أظن، أو أنني أدري، كل مافي الأمر أن أناي مشتتة. ضعف وتصور مشلول عاجز. المتنبي. ما فائدة القلم والقرطاس والسيف بعد مماته، بعد اضمحلال أناه؟ حين يصارع المرء سكرات الموت سيدرك كم كانت أناه مجحفة ضالة، شيطان صوري يعيش داخله. كتب المتنبي السيف والرمح والقرطاس والقلم، وهو فوق حصانه في البادية التي جابها منذ أكثر من ألف عام. بعد موته، جاء وكتب نصه في المحفوظات المدرسية. فتحتُ كتاب المحفوظات قبل الظهر، أقصد الوقت، قبل الوقت، وكنت أتحضر لحفظ بيت شعري، أي بيت أجده مكتوبا...وما علي إلا حفظه للتسميع. المدرّس سيكون أمامي وأنا في الصف أو اللاصف، يشير بإصبعه نحوي: قم وسمع البيت. المتنبي بعيد وراحل منذ زمن طويل، مابقي من رفات هذا الرجل؟ لا شيء حتى أن طبيعة الموت الطويل في الأرض قد تحولت وأمست طبيعة باطنية لا تأبه للحياة ولا للعالم المشغول بالشعر والحرب. الحصان قفز فجأة وترنح أمامي فوق الرماح. وكانت هناك تلة مرتفعة، قليلة، غابرة منسية. مات. ثم صعد وراء سحابة أخذت معها كل مايملك من مال ونفس وروح وشعر ومفردات. غابت مع الرجل ولم يبق شيء. اسأل كيف القصيدة؟ هل هو البيت نفسه الذي قاله في حياته أم فيه اختلاف قليل جاء عن طريق التشوه وعدم يقين. هناك دمدمة وروح قلقة ولا يمكن إدراك القول. تواصل أرواح، قال الساحر: أظن أنه لرجل كان اسمه المتنبي وهذا هو البيت. فاقرأه على مهل لعلك تدرك معناه.
لولا الأنا لتوقف الفن الذي هو سيكون الكائن الدائم، الحي والميت، في داخله أنا عظمى. ما الفائدة من النص الشعري إن رفعني إلى مستويات روحية عليا؟ سوف ابتهج وأنتشي، لكن أين المتنبي من هذه النشوة؟ هل سيصاب بما أصابني بيته أو قصيدته؟
الذين يبتهجون من قراءة هذا البيت لا يبتهجون إلا لأناهم ونفوسهم. الذين يرفعون من قامة المتنبي الشعرية يرفعون بشكل أو بآخر قاماتهم فقط، ولا يدركون أنه قاصر لا حول له ولا قوة، هو كلمة ترددها الشفاه ولا تمت برباط إلى صاحبها.
لم يكن اسمه المتنبي، كان له اسم آخر، جسد وحياة وحبيبة، وفرسه ورمحه ليس كما تصورتهما.
الكتابة الفنية لا مردود ولا جواب لها. حين تخرج من صاحبها تمسي ُملكا لأحرف الهجاء. ولقصة احرف الهجاء قصة طويلة، جاءت إلينا مستقلة مشتتة تحاول بشكل أو بآخر أن تلتئم وتكمن وتصبح مادة ثقيلة فيها تمايز. مع الزمن اخترعتْ الشعر الجاهلي والأغاني وسيرة بني هلال وألف ليلة وقصائد المتنبي ونصوصا كثيرة وضعتها في تصنيفها الهائل تحت اسم الأدب.
لولا اللغة لعثر الإنسان على المطلق، الوعي والشعور. لكن بمجيء اللغة وانحدارها من مرتفعات منابع الأنهر حيث تتلألأ الغيوم، سراب السماء، أضاعت الأول والأخير... وقد وقفت اللغة في بداياتها على الباب ملايين السنين تريد أن تدخل، لكن البشر حينذاك كانوا مدركين اللعبة التي ستلعبها من كذب وفن وتستر وتشويه وكناية وتشبيه. كانوا يخشون الحروب التي كانت تبدأها اللغة، الابنة العاق.
إن لم يقرأ القارئ فليست مشكلة، ولن يفوته شيء، فقط عليه أن يتذكر همسات الحب وماتفعله عينا الحبيبة من قرع طبول المأساة في التعرف إلى أعماقه ومنخفضاتها. لو بمقدوري أن أركن رأسي فوق حضن الحبيبة وأبقى راكنا وليدا لا أخرج ndash; لقد خرجت من رحم الأم مرة وأريد العودة بوضع رأسي على حضن الحبيبة مرة أخرى، حيث الحرارة والدفء من دون كلمة ولا لغة. واقفة نادمة عند الباب والحب الحقيقي خال من اللغة.
اللغة التي عاملها الكلاسيكيون في نصوصهم معاملة راقية بتنقيتها ومعالجتها وترويضها بينما السرياليون، اندريه بريتون حين اكتشف منجم الذهب حمّل شاحنته ليس بالذهب بل بجبال التراب التي يتعين على القارئ المسكين أن ينقيها ويبحث في ملايين جزيئاتها عن ذرة ذهب صافية. هذا خطؤه، الكسل الرمادي الذي أغفل الروح.
في موقع الحوار المتمدن حيث راح يُنشر من آن إلى آخر قصائد لأدونيس كتب أحد القراء تعليقا على قصيدة أدونيس quot;مرآة لفارس الرفضquot;: ماهذا الهذيان، شكرا للشاعر ولكن بالله عليكم هل فهمتم شيئا؟
quot; 1- حلم بثلاثة أقمار \ يتحطم، والجدران رسوم \ تقطر حبرا، \ والأشجار... 2- كل ينابيع القرى عبأت \ جرارها، \ وانكسرت فوقه، \ وانكسرت فوقه. 3- كان وراء صخرة، \ مدثرا بالرفض \ مظللا بشمس قاسيون \ يغوص، محمولا على سحابة، \ إلى حنايا الأرض \ فارس هذا الزمن المعجون \ بالشمس والكآبةquot;
قرّاءٌ كما الهشيم اليابس ولا مصير سوى بحرقه عن بكرة أبيه.
هذا النوع من القراء يريد الذهب الخالص، أن يتعرف إليه من دون مجهود... أن يتطابق شكل النص مع أي من الأشكال الغافية المسبقة في نفسه، كي يوقظها بالقراءة ويفرح بفرحها. لا يريد أن يخلق في داخله انموذجا مختلفا، هو فرِح بما يملك ولا يريد أن يمد نياطه أبعد. وإن جاء النص مختلفا عن الذي في داخله أشاح بوجهه عنه، سيكون هذيانا أو أرض بور وهو لا يملك القدرة على ترويض وزرع الأرض البور..هذا النوع من القراء سعيد بالمكان الذي يملكه ولا يريد أن يخطو أبعد منه. هو جنس الجدات اللواتي يعلمن لمرة واحدة فقط ورحن يكررن الحكاية مرة تلو الأخرى. سأسمي هذا النوع من القراء بالجدة القارئة.
من الصعب الكتابة للجدات. فما نملكه من تراث يكفي لهن.

[email protected]