ايلاف: ضمن سلسلة دراسات سياسية، صدر عن quot;المركز الثقافي العربي السويسريquot; في زيورخ، كتاب (نقد العقل التدميري) للباحث العراقي الدكتور رسول محمد رسول. يقع الكتاب في ستين صفحة من القطع الكبير، ويضم مقدمة وأربعة دراسات هي: إرهاب أم تدمير.. ما هو العقل التدميري؟ وصناعة الشخص التدميري، وعقائد العنف الديني وفداحة العقل التدميري، وحاجتنا إلى العقل المدني.
يدرس مؤلِّف الكتاب منظومة من المفاهيم الفكرية والفلسفية والتداولية الخاصة بهكذا حقل معرفي، أي حقل العقل التدميري الذي غالبا ما يستدعي التعامل معه جملة من المفاهيم كالعقل الإرهابي، والفكر الإرهابي، والخطاب الإرهابي، وغيرها.
ويميل الدكتور رسول إلى وضع كل هذه المفاهيم في بوتقة مفهوم واحد ذلك هو مفهوم quot;العقل التدميريquot; الذي يعرفه بأنه: quot;قدرة ذهنية سلبية تنشدُ تفكيك بنية الأفكار، وتهديم ثمار العُمران، وتمزيق كينونة الإنسان، وخلخلة أنظمة وسياقات وعلاقات الموجودات، وإحالة كل ذلك إلى هشيم مقطَّع الأوصال، مُبعثر الأشلاء، بل هو عقلٌ ينقضُّ حتى على موجوديَّة المهشَّم ذاتها بغية تفكيكها على نحو مُضاعف، وإحالتها إلى متناهيات بدائية بالية معطَّلة عن أي نشاط وفاعليةquot; (ص 14).
وبإزاء ذلك، يفرق المؤلِّف بين quot;عقل بشري سام يُفكِّرُ في الوجود بمنطق تعميري وإصلاحي وجمالي وأخلاقي؛ منطق يحتفي بالإنسان، وينظر إليه على أنه كينونة إنسانية بالدرجة الأصل، وفي المرتبة الأساس، وبين عقل بشري منحط يُفكِّرُ في الوجود بمنطق مدنَّس وفاسد وتخريبي وتهديمي وإظلامي غير أخلاقي؛ منطق اختزالي يكنُّ الكره المبيَّت والمبرمج للإنسان، وينظر إليه على نحو جهويٍّ ليتغافل عن الكينونة الإنسانية التي هي أصل الإنسان الجميل وجذوته الحقَّة وميسمه المجتمعيquot; (ص 15).
إنَّ جماعات العنف المسلح؛ الجماعات الدينية وغير الدينية، هي التي تعمل اليوم بالعقل التدميري في تحقيق مآربها. ولذلك يدرس الباحث صناعة الشخص التدميري الذي تروِّج لنموذجه هذه الجماعات، وتعمل على ترسيخه وفق برامج عملية مخصوصة لهذا الغرض.
يستند دعاة العقل التدميري إلى جملة من العقائد المؤدلجة كالتأويل غير المنضبط للعقيدة الإسلامية، والتكفير، والطائفية، والنزعة الهدمية ـ الإهلاكية، والنزعة الراديكالية المتطرفة، والنزعة الدموية، والكره المزدوج؛ كره الذات وكره الغير.
وفي هذا المجال، ألقى المؤلف الأضواء على تجربتي quot;طالبانquot; في أفغانستان، وquot;تنظيم القاعدة في بلاد الرافدينquot; كأنموذجين على إنزال العقل التدميري منزلة تطبيقية أو عملية.
ويتوجه الباحث بالنقد إلى خطاب هذا العقل التدميري مقارنة بخطاب العقل الإصلاحي الذي يمثل الدين الإسلامي الحنيف أنموذجه الحي عبر التاريخ. لكنه يؤكد على أن quot;العقل التدميري أمسى ظاهرة ملموسة في حياة مجتمعاتنا المعاصرة بسبب دُعاة هذا العقل وعمّاله وعصاباته المنتشرة في المدن والقرى والأرياف ككتائب تعمل تحت ضوء الشمس بوضوح أو خلايا نائمة كقنابل معدَّة للانفلاق في أية لحظة متاحة أمسى خطاب هذه الجماعات يعمل ضد الملة، وضد الأمة، وضد الجماعة، وضد الطائفة، وضد الفرد، وضد المؤسسة، وضد الدولة. إنه خطاب ينفي الأحزاب المجتمعية، والمنظَّمات الأهلية، والكيانات العرقية والثقافية والدينية المسالمة، ويطرح مأمولات حُلمية عتيقة غير ممكنة التطبيق في مجتمعات حرقت مراحل تاريخية وصيرورات فكرية وثقافية متعاقبة تجاوزت تلك المأمولات. quot; (ص 47 ـ 48). ودعا المفكرين والفلاسفة والمثقفين والفقهاء والسياسيين وغيرهم من النُّخب المجتمعية قائلاً: quot; لعلَّ المطلوب منّا كمفكِّرين ومثقَّفين ونُخب عُلمائية وفُقهائية وتقانية ومهنية عسكرية أو مدنية، هو أن نكرِّس ونؤصِّل معطيات مفاهيم عدَّة، مثل: quot;العقل التحديثيquot; وquot;العقل التعميريquot; quot;العقل العمرانيquot;، وquot;العقل التمدينيquot;، وquot;العقل المدنيquot;، وquot;العقل الإصلاحي المثمرquot;، وغير ذلك من المفاهيم التي ترفع من شأن الإنسان والحياة الآمنة كقيمة نادرة الوجود في وعي أجيالنا المعاصرة، ونؤصلها في دراساتنا الثقافية والفكرية والفلسفية والعلمية والدينية والمجتمعية، وندعو لها في داخل جامعاتنا ومعاهدنا ومدارس تعليمنا الأوليّ والثانوي والمتقدِّم وخارج أسوارها على نحو مستفيض حتى لو تطلَّب ذلك عملاً مؤسساتياً واسعاً، محلياً وعربياً ودولياً، فذلك بالتأكيد أنجع وأجدىquot; (ص 49).
ومن هنا، بحث في حاجة البشرية إلى ما أسماه بـ quot;العقل المدنيquot; الذي يعرفه بأنه: quot;قدرة الإنسان الذِّهنية التي تتعامل مع الإنسان والطبيعة والمجتمع والتاريخ والمستقبل وفق رؤية تنفتح على الوجود وتتفاعل معه بوصفه نسقاً مدنياً لا يمكن تجاهل خصائصه اليومية وحراك تحوُّلاته الذاتية والوجودية والكونيةquot; (ص 51). وهو عقل يتقاطع مع العقل العسكري أو الحربي أو التدميري الدموي الذي صارت بصماته جلية في حياة المجتمعات العربية والإسلامية.
يقدم المؤلِّف جملة من خصائص العقل المدني؛ فهو عقل تعميري ـ بنائي، ونهضوي، وتواصلي، واعتدالي، وإصلاحي.