صالح كاظم من برلين: رغم كون هذا الفلم قد عرض للمرة الأولى في العام 2007 ورشح ممثله الرئيسي ريشار جنكنس لجائزة الأوسكار غير انه لم يدخل دور السينما في العديد من بلدان أوربا، بما فيها المانيا إلا في هذا العام، أي بعد مرور ما يزيد على ثلاث سنوات على إنتاجه. ربما كان سبب هذا التأخير يكمن في كونه من ضمن أفلام quot;السينما المستقلةquot; البعيدة عن هيمنة هوليوود، أو في كون مخرجه لم يكن في حينها قد بلغ مستوى من الشهرة يجعل أفلامه quot;صالحةquot; للعرض في دور السينما المعروفة، أو في كون الفلم يعالج، وبطريقة مباشرة، موضوعا يشكل عقدة للضمير الأوربي والأمريكي، بشكل خاص بعد 11.09، وهو موضوع الهجرة quot;العربيةquot; الى الغرب. مخرج الفلم هو توماس مكارثي الذي تعرف عليه المشاهدون كممثل لأدوار ثانوية في فلم quot;الماموتquot; وفلم quot;ليلة سعيدة وحظ سعيدquot; وغيرها، ولاحقا كمخرج في فلم quot;ستاشيون أيجنتquot; الذي مثل فيه الدور الرئيسي الممثل quot;القزمquot; بيتر دنكلاغه، وكان هذا الفلم قد فاجأ النقاد والجمهور من خلال معالجته لموضوع غير اعتيادي من منظور عادي جدا، فبطل الفلم لا يشكل ظاهرة استثنائية، ولا يمتلك مزايا خاصة تميزه عن أمثاله من الأقزام، بل هو إنسان في منتهى الاعتيادية، يعاني من الوحدة بسبب بنيته الجسدية، غير انه يرث محطة للقطارات في ضواحي نيو جيرسي، فيقرر الإقامة في هذه المحطة والانصراف الى عشقه للقاطرات القديمة دون أن يتعرض لمضايقات الآخرين وتحرشاتهم. بهذا الفلم، الذي وضعه في صف مبدعي مدرسة نيويورك (جيم جامروش..الخ) لم يعد توماس مكارثي رقما منسيا في هوليود، بل اصبح موهبة مؤهلة لدخول سوق السينما من أوسع أبوابها، خاصة بعد أن حصل فلمه على جائزة quot;أفضل سيناريوquot; في مهرجان سندانس 2003، وهو مهرجان خاص للسينما الأمريكية البديلة، عرفت من خلاله العديد من الأفلام المستقلة من ضمنها quot;طرق جانبيةquot; و quot;سلامدوغ مليونيرquot;. غير أن هذا النجاح لم يدفع بمكارثي للعمل في اتجاه الترويج لموهبته السينمائية، بل واصل عمله كمخرج وكاتب مسرحي، وهي المهنة التي كان ومازال يمارسها في حياته اليومية، إضافة الى كتابته لسيناريوهات بعض الأفلام الناجحة. ويبدو أن هذه الفترة كانت حاسمة في التحضير لفلمه اللاحق quot;الزائرquot; الذي يعالج، بأدوات quot;السينما المستقلةquot; التي تتميز ببساطتها وميزانيتها المحدودة، موضوعا يعتبر شاغلا أساسيا للمجتمع الأمريكي، ألا وهو quot;كيف نتصرف تجاه الآخر، وبالذات تجاه العربي quot;المسلمquot; الذي قام بعض أبناء جلدته بأخطر هجوم على المجتمع الأمريكي المعاصر؟quot;. أن معالجة موضوع على هذا المستوى من التعقيد والتشابك يتطلب مستوى عاليا من الحرفية ورهافة الحس لكونه يمس جوهر بنية المجتمعات المعاصرة القائمة على التنوع العرقي والديني والفكري، وينطبق هذا بشكل خاص على المجتمع الأمريكي المعاصر، وبشكل أكثر وضوحا على سكان مدينة نيويورك. من هنا فقد أثار قيام مخرج ينتمي لـ quot;السينما المستقلةquot; بإمكانياتها التقنية المحدودة الكثير من الأسئلة التي تتعلق بالقيمة الفنية والتعبيرية للفلم وقدرته على الإلمام بموضوع متشعب كهذا. رغم هذه المآخذ لم يتراجع مكارثي عن تنفيذ فكرته من خلال سيناريو هادئ ومتماسك، يعيدنا أحيانا الى السحر العاطفي الذي كان يحيط بأفلام الخمسينات، بعيدا عن عناصر الإثارة المباشرة، وذلك من خلال تعرضه لكيانات بشرية عادية، مشرحا العلاقات بين هذه الكيانات وإشكالاتها العاطفية والإنسانية، دون الإسراف في الجانب العاطفي.
الشخصية الرئيسية في الفلم هي البروفيسور في الاقتصاد المشرف على الشيخوخة فالتر فيل (يؤدي الدور ريشارد جنكينس الذي عرف من خلال العديد من الأدوار الثانوية في عدد كبير من الأفلام) الذي قرر بعد موت زوجته أن يبتعد قدر المستطاع عن الحياة العامة من خلال الانتقال للسكن في بيته الريفي في كونيكتيكات، متخليا قدر المستطاع عن ممارسة عمله الجامعي

وبعيدا عن العلاقات الإجتماعية. إلا انه، ومن خلال دعوة الى مؤتمر يعقد في نيويورك، يضطر للسفر الى هناك، غير انه، حالما يلج شقته يفاجأ بوجود عائلة أجنبية صغيرة تقيم فيها، تتكون من السوري طارق (يؤدي دوره هاز سليمان) والسينيغالية زينب (تؤدي الدور داناي غوريا). خلفية هذه المفاجأة هي أن العائلة السورية السينيغالية كانت قد استأجرت هذه الشقة من سمسار أستغل عدم وجود البروفيسور في نيويورك وجهل الأجانب لغرض الربح المادي. بعد جولة من النقاش الحاد يوافق البروفيسور على أن يسمح لعائلة خالد بأن تقيم مؤقتا في غرفة الضيوف حتى تجد سكنا آخر. أثناء ذلك تتوطد العلاقة بين طارق الذي يعمل كعازف طبلة أفريقية في الشوارع والبارات والبروفيسور، ويبدأ الأخير بتجاوز عزلته ليتعلم عزف الطبلة.
العلاقة بين البروفيسور تتطور بهدوء عن طريق الموسيقى، التي هي لغة عالمية لا تعترف بالحدود، ومن خلال تعرفه على هذا السحر ينجرف البروفيسور خطوة بعد أخرى الى أجواء المهاجرين والغرباء، فنجده يقف وسط مجموعة من البشر من مختلف البلدان، في سنترال بارك، منغمرا معهم في عزف الموسيقى.
غير أن البروفيسور يجهل أن خالد يقيم بشكل غير مشروع في الولايات المتحدة، مما يؤدي الى اعتقاله من قبل quot;دائرة الهجرةquot; التي سرعان ما تبدأ بالإجراءات البيروقراطية الضرورية لترحيله عن الولايات المتحدة. بمواجهة هذه الأوضاع يجد البروفيسور نفسه مضطرا لمواجهة ماكنة الهجرة البيروقراطية التي ازدادت ضراوة بعد أحداث 11 أيلول، فيلجأ الى تكليف محام للدفاع عن خالد، واضعا نفسه في مواجهة العنصرية والتمييز، بالتعاون مع والدة خالد (الممثلة الفلسطينية هيام عباس) التي تأتي الى أمريكا لمساعدة ولدها، فتتكون بينهما علاقة حميمة، تمنح الفلم شيئا من الدفء العاطفي. ويتعرض الفلم بشكل هادئ وبقليل من الإنفعال للمظاهر المرضية التي مازالت بصماتها واضحة على تكوين الإنسان الأمريكي في علاقته بالآخر (العربي، المسلم)، دون أن يسقط في التعميمات، بل يتابع من بعيد التوجهات العاطفية لشخصياته. ولقد ساهمت هيام عباس، إضافة الى ريشارد جنكنس في إغناء الفلم بطاقة إبداعية كبيرة ترسخ موقعها العالمي الذي أكتسبته من خلال أدوارها في quot;الفراشة وغطاء الغوصquot; و quot;العروس السوريةquot; وquot;الفردوس الآنquot;.
ويعتمد الفلم أسلوبا شاعريا في التعامل مع شخصياته من خلال التركيز على المراقبة الحسية الدقيقة لسلوكها وإبراز المخفي عن طريق إبراز ماهو مألوف ويومي وإستشفاف دواخله.