ترجمة وتقديم سعيد الباز: كتاب إيروستراتوسEROSTRATUS من بين المؤلّفات النثرية للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا صاحب السيرة المثيرة. كتاب عثر عليه مرقونا باللغة الإنجليزية في حقيبته الذائعة الصيت والتي أودع فيها أغلب أعماله مخطوطة.
و الكتاب عبارة عن نصوص تلتزم نمط الكتابة الشذرية دون عناوين و بلا نسق أو سياق صارمين سوى الشهرة والعبقرية موضوعا لها. فهل كان فرناندو بيسوا يعتقد في شهرته و عبقريته أم كان فقط يتفحّص مصيره الأدبي، هو الذي اعتاد أن يتفحّص سيرة شخصياته المستعارة بتواريخها الخاصّة بملامحها الجسدية، بأمزجتها الغريبة،وحتّى بطالع أبراجها.
ثمّة أمور تتضح في هذا الكتاب بخصوص سيرة بيسوا الملغزة، وربّما تفكّ بعض أسرارها من قبيل اختياراته الكتابة بأسماء بديلة عنه مثل ألفارو دو كامبوس وألبرتو كاييرو وغيرهما، وكذلك عزوفه عن نشر أعماله إلا النزر القليل.
ومع ذلك قد لا ندري شيئا بين السراديب و المتاهات التي تعمّد أن يضعها في الطريق إليه، لأنّه كان حريصا على أن يقرأ لنا الشهرة و العبقرية من موقع متعال. و إن بدا صوته مثقلا بكينونته الخاصّة، فهو يشي رغم ذلك بخيبة أمل مريرة، حين يقول في آخر سطور الكتاب: quot; الخلاصة: الآلهة لا تريد أن تسرّ بشيء، ولا القدر. الآلهة ماتت، و القدر أخرس.quot; هنا مختارات من كتاب فرناندو بيسوا quot;إيروستراتوسquot;:

بعد الطغاة

أقترح بحث مسألة الشهرة طارئة كانت أو دائمة، أن أتساءل سواء بالنسبة للأولى أو الثانية عن الشروط التي جعلتها ترتبط ببعض الرجال، وأن أتنبّأ في حدود الممكن بالشروط المحتملة لظهورها في المستقبل. فالشهرة هي الاعتراف بشخص أو بجماعة من الأشخاص بأنّ لهم قيمة ما للإنسانية، ولبحث هذه المسألة علينا تحديد مفهوم الشهرة وأيضا الإنسانية.
1)ترتبط الشهرة بالأشياء كما بالبشر. هناك جرائم، ومعارك وروايات مشهورة من فعل بشر ذائعي الصيت. نحن لن نهتم بالأشياء و لكن بالبشر. إنّها الشروط صانعة الشهرة هي التي تهمّنا.
2)يمكن للشهرة أن تكون عرضية أو أصيلة فشخص ما، يقتل على الخصوص بطريقة غريبة وغامضة يصبح مشهورا بسبب موته، وإذا كانت القضية مهمّة جدّا يمكن أن يكتسب خلودا على طول امتداد التاريخ باعتباره جثة مهمّة. إننا لن نهتم بالشهرة العرضية و لكن بتلك التي تبدو أصيلة، كيف هو كمّ الجوهر وكيف تصير وكيف تكون.
3)يمكن للشهرة أن تكون مصطنعة أو طبيعية. فملك ما، هو بطبيعة الحال مشهور، لأنّه ولد بين أحضان الشهرة بمقتضى هذا الملك. إنّنا لن نهتم بهذا النوع من الشهرة، فهي تختلف بحسب الأخلاق و العادات، ومع المؤسسات. إنّنا لن نبحث سوى الشهرة المصطنعة.


4)يمكن للشهرة أن تكون خيّرة أو شريرة، الشكل الثاني عادة ما يسمّى اشتهارا، والأفكار المتغيّرة حول الخير و الشرّ تعقّد المسألة. في بعض الأحيان نجدها متداخلة، فمن تعتبره قاتلا سيرى فيه آخر رجلا طيّبا. ومن تعتبره شهيدا سيرى فيه آخر شخصا أخرق. صعوبة المسألة وضّحتها دون قصد منه عبارة برودون الشهيرةProudhon:
quot; بعد الطغاة، لا أعرف شيئا أكثر مدعاة للكراهية من الشهداء quot;
شذرة رقم:1

العذر الوحيد للوفرة...

التنوّع هو العذر الوحيد للوفرة. ليس من حقّ أيّ إنسان أن يصنّف عشرين كتابا، ما عدا إذا كان في مقدوره أن يكتب مثل عشرين كاتبا مختلفا. فمؤلّفات فيكتور هيجو تملأ خمسين مصنّفا ضخما، ومع ذلك كلّ كتاب وكلّ صفحة تقريبا منه تحتوي على فيكتور هيجو بأكمله. الصفحات الأخرى تنضاف كصفحات، وليست كعبقرية.
لم تكن فيه أيّة خصوبة، بل إطناب. يضيّع وقته باعتباره عبقريا، إن لم يكن عن قليل قد أضاعه ككاتب. إنّ حكم غوتهGoethe في موضوعه رفيع جدّا، رغم كونه مبتسر بعض الشيء. فهو درس كبير لكلّ الفنانين:quot; عليه أن يكتب أقلّ، ويعمل أكثرquot;
إنّها هنا واحدة من أعظم مبادئ النقد في العالم: التمييز بين العمل الحقيقي، غير الممتدّ و العمل التخيّلي الذي يملأ الفضاء، لأنّ الصفحات ليست أكثر من فضاء.
إن كان في مقدوره أن يكتب كعشرين كاتبا مختلفا، فهو بأيّ طريقة ممكنة عشرون كاتبا مختلفا، وستكون هذه الكتب العشرون مبرّرة.
شذرة رقم:22


العالم في روما

الحضارة إغريقية و رومانية، إنّها بالتالي في الخطّ المتقدّم للأمم المتوسطية. هي دائما متوسطية إلى حدّ ما، رغم أنّها عبرت صحبة البرتغال أعمدة هرقل، و انضاف إليها العالم في روما.
شذرة رقم:33


الحاجة إلى الرواية

الإيجاز و التأثير على القارئ اللذان تفرضهما الرواية البوليسية، ليسا أقلّ إلزاما في كلّ الأشكال الأدبية. إنّنا لن نربح شيئا من ضجر القارئ. إدجار ولاسE. Wallace مفيد أكثر من والتر سكوت W. Scott. لكن إدجار ولاس ليس أكثر إفادة من شكسبير، ثمّة شيء ما من إدجار ولاس في شكسبير.
إنّ ضغط وتأثير ظروف الحياة المعاصرة يمكن أن يكون لهما العديد من المظاهر المزعجة، لكن لهما في المقابل مظهرا إيجابيا جدّا. هو الحاجة إلى الإيجاز، وإلى دعم مقصود للتشويق في المؤلفات الأدبية. إحدى انتصارات إدجار آلان بوE.A. Poe النقدية كانت في تكهّنه بالحاجة إلى قصائد أكثر قصرا. كانت واحدة من رؤاه للمستقبل، مثلما كانت الرواية البوليسية إحدى استباقاته لهذا المستقبل.
... القصيدة الملحمية كانت بالفعل المعادل القديم للحاجة الإنسانية إلى الرواية، وبما أنّ الرواية حاضرة اليوم يمكننا أن نسقط الملحمي من القصيدة.
شذرة رقم:21


متفرقات

غير مجد ndash; وإن كان ذلك ربّما مفيدا ndash; أن نناقش ماذا كان كولومبوس تاريخيا، اجتماعيا هو برتغالي...
لم تعد جولة في متحف إسهاما في الثقافة، بل إثارة للرغبة مثل النظر وقوفا على أقدامنا المتعبة إلى سيارة رجل ثريّ...
أبدا، لم تخرج أيّة فكرة ألمعية من هوليود... باستثناء الألمان و الروس لا أحد إلى الآن كان قادرا على وضع ما يشبه الفنّ في السينما. إنّ تربيع الدائرة هنا مستحيل.
شذرةرقم:38و37و36


إكمال الشيء موته...

يقوم الواقعيون بأشياء صغيرة، و الرومانسيون بأعمال عظيمة. يجب أن يكون الإنسان واقعيا لإدارة مصنع لمسامير النسيج، و أن يكون رومانسيا لقيادة العالم. نحتاج إلى واقعي لنجد الحقيقة، و إلى رومانسي لخلقها.
لم يكن نابليون إلّا شاعرا، كرومويل متحمّسا، أمّا يوليوس قيصر فهو رجل فصاحة.
المسافة بين هنري فورد H.Ford و جون ميلتونJ.Milton دائما أطول في قطار العودة.
إكمال الشيء موته، لأنها نهايته. للرومانسيين قدرة ذاتية على الخلود و البقاء: إنّهم تجسيد أبدي لذواتهم الخاصّة.
شذرة رقم:33

الأموات كثيرون...

ستقلّ شهرة الشعراء أو كتّاب النثر القاصرين من انطولوجيا إلى أخرى. ومن الآن إلى مائة عام سيكون من المستحيل نشر الأعمال الكاملة لبايرون Byron أو شيلي Shelly لغوته الشاعرGoethe أو هيجوHugo ومع هزّات وضغوطات العصر ستختزل المنتخبات المعاصرة مؤلّفاتهم. فالمائة صفحة التي بفضلها نعرف وردزورثWordsworth ، كيفما كانت قيمتها، لن تصبح إلا خمسين. والخمسون صفحة التي بفضلها نعرف كولردج Coleridge لن تصير ربّما أكثر من عشر صفحات.
كلّ أمّة ستكون لها كتبها الأساسية، و الباقي انطولوجيا واحدة أو اثنتان. إنّ الصراع بين الأموات أشدّ عنفا من الأحياء: الأموات كثيرون.
شذرة رقم:20

ألم العباقرة...

في كلّ الأحوال، كلّما زاد نبل العبقرية، قلّ نبل القدر.منه يصيب العبقري الصغير الشهرة، والعبقري الكبير الازدراء. الأكبر منهما اليأس، والإله الصّلب.
لعنة العبقرية ليست كما اعتقد فينيVigny أنّها معبودة، ولكن غير محبوبة. إنّها ليست محبوبة ولا معبودة.أبدا، لم يحصل وايلدWilde على قدر من الاعتراف به كعبقري إلّا حين بصق في وجهه رجل على رصيف المحطة، وقت كان وايلد مكبّلا.
إنّ ألما كبيرا أصاب العديد من العباقرة: وجوههم لم تتلق بصاقا.
شذرة رقم:18

مزاج البيئة...

أحيانا، يتطابق مزاج الإنسان و البيئة إلى حدّ القول بأنّ البيئة ليست أقلّ أبوّة من أبويه الطبيعيين. تلك حالة نابليون الذي بمقدار ما كان إيطاليا تماما، كان فرنسيا بالكامل.
شذرة رقم32

حمّى السرعة...سرعة الحمّى

إذا كنّا نتردّد في الإشفاق على المدمن الأخرق الذي يشفي غلّته في الكوكايين، فلماذا لا نشفق أيضا على المدمن الأكثر بلاهة الذي ينتشي بالسرعة بدلا من الكوكايين؟
في عصر النهضة كانت الحياة أكثر سرعة و محمومة بشكل سليم أكثر من زمننا، في عصر النهضة كان السير فيليب سيدني Sir PH. Sidney سفيرا في الحادية عشرة من عمره. حياتنا بطيئة إلى درجة لا نعتبر أنفسنا مسنّين في الأربعين، سرعة السيارات نزعت منّا سرعة أرواحنا. نعيش ببطء شديد لذلك نملّ بهذه السهولة. صارت الحياة بالنسبة إلينا أشبه بريف، لا نعمل كفاية ونزعم بأنّنا نعمل بكثرة، ننتقل من مكان لا شيء يحدث فيه إلى آخر لا عمل لنا فيه، ونسمّي هذا: العجلة المحمومة لحياة العصر. إنّها ليست حمّى السرعة، ولكن سرعة الحمّى.
حياتنا المعاصرة وقت فارغ متوتّر، واختزال لحركة منظمة غايتها الاضطراب و القلق.
شذرة رقم:36


هوامش الترجمة:
* إيروستراتوس: يوناني أحرق معبد ديانا بأفسس عام356 قبل الميلاد، من أجل أن يجعل اسمه مشهورا ومنه مصطلح:Erostratisme الذي يعني الميول المرضية لدى بعض المرضى النفسيين المهووسين بإشعال الحرائق.
* عناوين الشذرات من اختيار المترجم.