إلى جليل حيدر

(1)
ثمة شارع تتنزه على أرصفته أسماك منحها
الناس والصيادون أسماء التواريخ والأجناس كلها،
معاً كنا نتجول في تلك الأزقة وباقات الورود نحملها
نوزعها على الفتيات الطالعات للتو من كنيسة الأرمن،
أتذكرُ أنك انعطفت بي فجأة نحو زاوية المقهى وهناك
مزقت أوراق صغيرة، التقطت قلم الرصاص وسيجارة
ولعتها من أفواه الجالسين بالقرب منك، أخرجت من جيبك
قطعة قماش طويلة، شرعت بالكتابة وكأنك ملاك فضي ينزل
أقوال اللامتناهي لكي يمزجها برائحة البشر القاسية: ولدت
في ذلك القيظ الذي لا يطاق نقاطك ونجومك البدائية، ليل ترفي
وأنامل أيقظت الوتر النائم وأجراس محاره المنسية.


(2)
في سفرتي التائهة، ذلك الوقت، إلى بيروت الخضراء،
المُنداحة
أفزعتني في البدء وشوشة البحر يختلط لغطه بعباءة
الليل الكثيفة، في سريرتي قلت يتضاعف السواد من
حولي، سأقتل في هذه الباحة أو تلك، منْ يسمع للمرة
الأولى في حياته لغة البحر، يراوده الإحساس بالحشيشة،
واصلت سيري من المزرعة نحو كورنيش الدولشفية،
خطواتي توزعت ما بين الخطيئة وبهجة الانتظار المعلقة
بحبال الأبدية، الزمن الذي عشناه كان زمن الجواسيس،
الكل كان يعرف شأن كاتمات الصوت وحيتان القرش الكبيرة
تلفت ساهياً، كان لا أدري بأية معجزة نفس الملاك الفضي
أمامي، بحرارة أمسك بيدي والصمت من فوقه هالة المدن
الغريبة،
نفس الانعطافة،
نفس قطعة القماش الطويلة
نفس الكتابة
صيف آخر
نفس
النجوم البدائية.


(3)
ما بين الكورنيش والحمراء كانت شقتك،
صعدنا
بغداد يا بغداد، قبل أن تحضر الكؤوس،
قطع الثلج الصغيرة والصهباء الناعسة،
عرق بيروت، البطحاء وحمصها بالطحينة،
هل رأيت سلمان مزعل والقصة القصيرة،
أين أصبح منير عبد الأمير وأجاثا كريستي
ما هي أخبار عبد القادر الجنابي؟ في الثانية
صباحاً نزلنا والكرم ما زال يفيض منك كالنافورة،
حدثتك عن الوشوشة وغرائب العزلة،
عن التراب الذي جاء بي لاهثاً نحو الصخرة،
بعد قليل، قلت أنتَ، سيأتي مؤيد وشريف الربيعي،
لا تقلق من فجر سكران ينبلج بغتة بين يديك، لا تخف
من كاتمات الصوت وحيتان القرش، ستجري المياه كما
تشاء، ولنا ملكوت التشرد والهالة الأبدية.