قصي صالح الدرويش: قرر المخرج السويسري الكبير جان لوك غودار مقاطعة المهرجان، بعد الالتزام بحضوره مع عرض فيلمه {اشتراكية} وقد عرض الفيلم رغم ذلك ضمن تظاهرة {بعض نظرة } الا ان عدم حضور غودار لم يسمح بعقد المؤتمر الصحافي للفيلم. وقيل إن غودار قبل بعرض فيلمه في التظاهرة التي اختارها مدير المهرجان.وتشكل مقاطعة غودار ضربة مزعجة للمهرجان، بغض النظر عن مستوى الفيلم وإعجاب النقاد او عدم اعجابهم، فغودار علامة مميزة جدا في السينما العالمية وخصوصا الأوروبية. وغودار يشكل مدرسة فنية استثنائية شخصية، وكان لعدم اختيار ادارة المهرجان فيلم فرانسيس فورد كوبولا في المسابقة الرسمية الى دفع كوبولا فيلمه الى تظاهرة {نصف شهر المخرجين } الموازية، والذي اساء إلى ادارة المهرجان وسمعتها.بالطبع من الصعب اختصار فيلم غودار او حتى فهمه كمسار روائي، ففيلم غودار مزيج من المشاهد والصور والمواقف والشعارات في صيرورة سينمائية مدهشة تثير الاعجاب، وحسب غودار اتخذ مقاطعته للمهرجان بسبب الأزمة اليونانية، وفي ملصق الفيلم اشار إلى كلمة فلسطين، وتجدر الاشارة الى انه صور فيلما عن القضية الفلسطينية مدافعا. الفيلم الجميل الذي اثار غالبية النقاد هو الفيلم المكسيكي {جميل} للمخرج اليجاندرو غونزاليس ايناريتو والذي صفق له النقاد لفيلمه السابق{بابل } الذي عرض له من قبل في مهرجان كان، والذي اصبح من اعمدة سينما اميركا اللاتينية. لاشك ان فيلم {جميل} مؤثر كئيب بطله رجل سمسار يعيش من علاقاته مع بائعي القطع الصغيرة المهربة الأفارقة السود ويعيش مع طفلين بعيدين عن الأم والتي تسكر وتعيش بحالة عصبية لكنها تحب زوجها وتتمنى ان تعيش معه ومع ابنهما وابنتهما مع انها تعيش علاقات جنسية مع اخ زوجها. مشكلة البطل لم يتذكر اباه ولذلك يخشى ان يموت من دون ان يتذكر ابنه وابنته وجهه، فهو مريض جدا ومحكوم بالموت لانه مصاب بسرطان البروستات، وبحث مع اخيه عن صورة ابيهمافاتفقا على فتح قبر والدهما، وحرق جثمانه، وبيع مكان القبر، وفكرة البيع تنطلق من البحث عن صورة الأب الغائب الناقص المفقود من حياتهما.فوالدهما مات قبل عشرين عاما او اكثر. بين البحث عن صورة الأب ومرض الزوجة غير القادرة على عناية ولديهما كان على البطل ان يجد الأم القادرة على الاهتمام بطفلين يتيمين ليسا ولديها، وقد وجد هذه المرأة العطوفة وهي الافريقية السوداء التي تعود برضيعها للحاق زوجها الى السنغال حيث ابعد الى بلاده.وعليه ترك لها مبلغا مهما من المال لرعايتها ورضيعها وطفليها، وتمنى ان لا تسافر للاهتمام بهم، وكان البطل قد بكي مرتين حين ادرك أنه محكوم بالموت بمرض السرطان، وحين اكتشف ان الشوفاج الذي اشتراه مع الصينيين للتدفئة ادى الى موت اكثر من عشرين صينيا بالاختناق، فشعر بمسؤوليته.كان البطل يخاف من فكرة الموت، والتخلي عن طفليه وكان يرى اشباح وطاويط على الجدران، وحين كان يخاف او حين كان يعتقل يبول في بنطلونه.لكن حين اطمأن إلى بقاء المراة السنغالية لعناية طفليه اختفت أشباح الوطاويط، وبالتالي اختفت فكرة الموت، وانتهى الفيلم بالمشاهد الأولى التي ظهرت في بداية الفيلم وهو يشاهد اباه يتحدث وهو يختفي الى حيث لايعرف، الى ذاك الفضاء اللامتناهي، وهو يمسك يد ابنته ويسلمها الخاتم الذي تركته له امه. انه فيلم مزدحم بالتفاصيل الجزئية الصغيرة، ويتسم الفيلم بالتصوير الرائع، وبالمواقف الانسانية ازاء الفقراء من اهل البلاد او من الأفارقة او من الصينيين، ويتميز الفيلم باداء البطل القوي، ونعني النجم الاسباني خافيير بارديم والذي يستحق جائزة افضل ممثل، حتى وان كان دورا طويلا.كما ان الفيلم طويل شأنه في ذلك شأن سينما اميركا اللاتينية، وكان يمكن ان يحذف نصف ساعة ليكون افضل.لكن هذا لايخفف من جمال الفيلم والذي يرتفع مخرجه الى درجة كبار السينمائيين الموهوبين.
اما الفيلم المفاجئ المدهش والجميل جدا، فانه فيلم {نسخة حرفية }للمخرج الايراني عباس كياروستامي، وتتقاسم بطولته الفرنسية جولييت بينوشي والانكليزي ويليم شيميل.ويدير تصويره الايطالي لوكابيجازي. وتدور احداثه في ايطاليا. وهو اول فيلم روائي طويل يصوره كياروستامي خارج ايران، وهو فيلم عن الحب والعلاقات الانسانية، واشكالية الاكتشاف والهوية، وما نعرفه، وما لا نعرفه.الفيلم مثقف جدا، وبسيط جدا، انه فيلم عالمي، من حيث المعرفة والهوية الانسانية بطلته فرنسية وبطله انكليزي وتدور احداثه في بلدة من توسكان الايطالية، لكن في الفيلم رائحة ايرانية، وله نكهة ايطالية خصوصا من الناحية الفنية تذكرنا بالمخرج الايطالي الكبير انطونيوني من حيث الالتباس المحير، المتعمد كفيلم {انفجار}.
بمهارة معلم صنع كياروستامي هذا الفيلم العميق الذي يحمل الحرية بكل طاقاتها وبكل معانيها.ان تحب او لا تحب.ان تكون او لا تكون.فاللقاء يحدث بين مؤلف انكليزي يناقش كتابه الذي الفه عن الاثار الايطالية في بلدة توسكانية وبائعة جاليري فرنسية، تعيش مع ابنها الفتى الذي ترعاه، مهتمة بهذا المؤلف الايطالي فتواجهه بالأسئلة المحرجة، مع ان اسئلته بسيطة وعفوية ولا يبدي حرجا لو كانت تتهمه وتستعد لحبه، لكن المراة تنفي مثل هذه الاتهامات، وتبدو عصبية حين تجيبه، وحين تترك عنوانها للمؤلف البريطاني يزورها في عمله، وتدعوه الى رحلة بالسيارة الى قرية فيها اثار على ان موعد سفره سيكونعند التاسعة مساء. في هذا الحوار تتقاطع الأفكار وتختلف حول الفن والاثار والمواقف والى هاتف جانبي تتناقش البطلة مع صاحبة المقهى حول الحب والعلاقة بين البطلة والرجل الذي يرافقه، فتقول لها انه زوجها، وانهما يعيشان منذ خمسة عشر عاما، وحين يعود من هاتفه الجانبي تخبره انها قالت لصاحبة المقهى بانهما متزوجان.خلال الثرثرة تتخالف اراؤهما من جديد حول عريسين طلبا منهما التصوير معهما كعريسين لكن المؤلف البريطاني رفض لكنه اضطر للقبول تحت ضغط العروس.ويستمر الحديث بين البطلين اللذين يستمران في الخلاف والاختلاف وكانهما متزوجان يحتفلان بذكرى عامهما الخامس عشر، ويغضبان بهذه المناسبة، وينساق خلافهما المتكرر ويستمران في الجدل، وينساقان في جدلهما الى الفندق الذي عاشا فيه قبل خمسة عشر عاما وتحديدا الى غرفتهما التاسعة التي ناما فيها فعلا قبل ذلك ام لا، فالبطل يؤكد ان ذاكرته ضعيفة اما في فتتذكر كل شيء بتفاصيله. هل كانا زوجين منذ خمسة عشر عاما، جاءا للاختفاء بها فعلا.ام كانا انسياقا في حديث عابر، ليصبحا حقيقة او شبه حقيقة الفيلم على درجة رائعة من الاخراج والحوار والجدل والتفاهم، على الرغم ان الفيلم كاد يكون حوارا ثنائيا باستثناء بعض المشاهد المقاطعة للبطلين والاخراج من هذه الزاوية صعب ومثقف مع انه بسيط الى درجة السهولة او السهل الممتنع.في تجربته الايطالية يكرر كياروستامي ما فعله المبدع الروسي تاركوفسكي بفيلمه {حنين} والذي جدد عمله السينمائي. لم يكن فيلم كياروستامي الايطالي اقل نجاحا من افلامه الايرانية، بل ربما كان الأكثر تالقا والأكثر تحررا اما جولييت بينوشي فكانت متألقة ورائعة.