علي النجار: حينما أنشدت (جون بايز) في مايس (1973) لفيتنام (أين أنت الآن يا ولدي) في أيام محنتها في السبعينات من القرن الماضي، كان صوتها اعلى من ضجيج المدافع التي تحصد أرواح الكبار والصغار في هذا البلد المنكوب، وأدخلتنا في صلب الحدث ليس من عناوينه الكبيرة المضللة، بل من جزئيته الأكثر إيلاما والأقرب إلى واقعيته اليومية بتفاصيلها المرعبة. ولم يكن ألبومها أناشيد حماسية كما هي في تلك الحقبة الزمنية مثلما هي عند العديد من الدول والمنظمات الثورية. كان صوتا دافئا وجدانيا مثيرا للشجن وبعيدا عن الصخب الإعلامي الرسمي الغير بريء. في ذلك الزمن و قبله كنا في العراق مبهورين بالملصق الفني السياسي وكنا ممارسيه في العديد من المناسبات قبل سيطرة السلطة المحلية على سلطة القرار الثقافي لصالحها. وكما في العديد من الدول الشمولية فقد افرغ الملصق السياسي في هذا البلد من قضاياه التي هي من ضمن قضايا شعوب العالم الثالث والذي كنا جزء منه، وتحول إلى ملصقات تمجد شخص الرئيس. ويذكرني هذا الأمر بما أورده (بابلو نيرودا) في كتاب سيرته (سيف اللهب) انه والروائي السوفيتي (إيليا أهرنبرغ) قطعوا الاتحاد السوفيتي من الشمال حتى الجنوب في رحلتهم بالقطار إلى الصين لحضور احد المؤتمرات. وكانوا يتندرون على توقعاتهم لحزر أي تمثال من تماثيل ستالين أردأ صنعا في المحطات العديدة التي يتوقف فيها القطار. لم يرتقي الفلم الروائي السياسي الأمريكي لمستوى الصدمة التي أحدثتها اللقطة والصورة الفوتغرافية لقائد عسكري فيتنامي جنوبي وهو يصوب مسدسه إلى رأس فيتنامي شمالي ويقتله ببرودة أعصاب، وان تكن بعض أفضل الأفلام التي عالجت هذه القضية من منظورها المحلي الذي يسلط الضوء على معاناة الجنود الأمريكان المسرحين من خدمة الحرب، لا من وجهة نظر مأساة الشعب الفيتنامي. وذلك بسبب من تقاطعات أهداف صانعي الأفلام والوقائع. ثم اشتغلت مابعد الحداثة على تفكيك الإرث الحداثي الماضي مثلما هي في الصورة الإعلامية الجديدة التي تعيد هذه اللقطة للحدث الفيتنامي ولكن بصيغة جديدة. فالقاتل والمقتول هنا هم نفس الأشخاص ونفس اللقطة المصورة لكن المفارقة تكمن في استبدال المسدس القاتل بمسدس مضخة البترول (وقود السيارة) الموجه إلى رأس القتيل مشيرا إلى الحروب الاقتصادية الجديدة، رغم سيرتها الغير مستجدة. بما ان الحدث صورة يبقى عالقا في الذهن رغم تبدل الأزمنة.
ان كانت الأغنية والبوستر السياسيين فاعلين في الزمن الحداثي، فان ما بعد الحداثة الحالية بتشتيتها وتسطيحها للفعل البراكماتي عملت على إيجاد بدائل ملغزة لمعاينة الحدث والحادثة ووجدت في التقنية الفوتوغرافية، ومنها الرقمية، والفيلمية الفيديوية (إذا تجاوزنا الفلم السينمائي سواء الوثائقي أو الروائي وبمختلف حجم ميزانياته) مجالها، وكذلك أعمال الكرافيك والتجميع والأداء الجسدي. وبات الفنان يبحث ضمن المساحة الهامشية للحدث وباختزالية شديدة مازجا شذرات من نصوص متنافرة وصور مختلفة وزوايا مهملة لكنها غالبا ما تكون على دراية ما من الإفصاح عن مسببات الحدث أو ماهيته. إذ بعد مصادرة أو تهجين كل رموز التمرد الستيني والسبعيني الشبابي الأوربي والذي لم يبقى منه سوى إيقوناته الصورية والاشارية. لم يعد ثم مجال لإعادة التجربة بنفس الأدوات الجماهيرية (الديمقراطية الفنتازية الشبابية منها، رغم ظهورها في مناسبات وبلدان مختلفة)وبعد ظهور مشكلات استيطانية متداخلة ومناخية واقتصادية. أما الآن، فقد استبدلت العولمة الاحتكارية أساليب الاغتراب الحداثوية الكولونيالية التقليدية (المواجهة المباشرة) باقتصاديات المرايا (الريكانية) ووليدها البنك الدولي بعولمته للاقتصاد واخفت الوجوه الفاعلة المسببة للحدث خلف ستائرها. وأمام وقائع مخاتلة كهذه لم يجد الفنان من منفذ إلا من خلال الدوران حول محيطها لإيجاد ثغرة ما ربما يستطيع من خلالها تفكيك الحادثة تشكيليا ، سينميا، صوريا، أو أي استعراض فردي أو جماعي.
يتصدر مفهوم الإرهاب في الوقت الحاضر ما عداه من أحداث وأخبار إعلامية. وان تكن أهم الصحف والقنوات الإعلامية الغربية والولايات المتحدة تتبنى الخطاب الرسمي الأحادي (مع هامش معارض ضئيل) وتعيد صياغة الحدث بما يناسب مصالحها الستراتيجية والآنية وبقوة وكفاءة احتكارية تهيئها الصوت الأعلى ضمن الضجيج الإعلامي الكوني بتقنيات قنواته الفائقة المملوكة للدولة والسلطة الاقتصادية. في الوقت الذي تحجب فيه الصوت الآخر، الصوت الشعبي الذي يتماس وتفاصيل خروقات الحدث الإنسانية. وما الحروب المتأخرة إلا أمثلة لذلك. وان هيئ للإرهاب المعاصر ببحوث فلسفية تنادي بتفكيك منظومة الدولة، القومية، الدين. وتشضي جغرافياها في دول أوربا الشرقية والشرق الأوسط خصوصا (غير بعيد عن المصالح الإستراتيجية والأمن الإستراتيجي!). بالوقت الذي تتجاهل فيه جغرافيا الولايات المتحدة (مثلا). وما اطروحات (فوكوياما) الأولى أو (هنكتون) إلا مثالا على ذلك. وبدون الالتفات إلى إرهاب الدولة، أو التمييز بين الإرهاب ورد العدوان أو التمييز العنصري أو الدفاع عن النفس. أي بمعنى ما، شرعنه الإرهاب من قبل الطرف الأقوى ومن ضمن منظوره الخاص. ومقابل كل هذا الزخم الإعلامي تشكل إعلام مضاد (بما ان الفن السياسي هو بالأساس إعلام فني ثقافي) تبنت غالبيته قاعدة شعبية واسعة تضم أطياف من فنانين مستقلين أو ينتمون لجمعيات إنسانية، اويسارية (أطلق عليها اليمين الرسمي صفة الليبرالية، وان شمل هذا المصطلح النقيضين.اليسار واليمين المتطرف) وجمعيات حقوق الإنسان والمناهضين للعولمة الاقتصادية والأنتي ديانات. وضمن هذا الخليط الإنساني الواسع أنتجت ثقافة تشكيلية سياسية معارضة للإعلام السياسي المحافظ.
الفنانة السورية الأمريكية (هالة فيصل) تحتج على الحرب ألأممي على العراق بجسدها العاري يافطة مدون عليها استنكارها في ساحة واشنطن سكوير في نيويورك، كاشفة عن عجز الجسد العاري عن مقاومة السلاح، وبقيت صورتها لصيقة بالحدث حتى بعد انقضاء زمنه. مثلما تحولت الصورة الفوتوغرافية للمعتقل العراقي المقنع والمصلوب بأسلاك الكهرباء في معتقل (أبو غريب) إلى مجال واسع من تجارب الفنانين الكرافيكين والمصورين للحد الذي احتلت مكانها (لوكو) ضمن العديد من الرموز الاعتراضية الأخرى. جنبا إلى جنب والملصقات وأغلفة المجلات والأعمال الكرافيكية و الفوتو شوب لبوش ورموز الحرب الأخرى وأهدافها الخفية. من اجل إنشاء نصب تذكارية للذين قتلوا من العراقيين في الحرب الأخيرة على العراق، انشأ (جوزيف دي ليب*) مع مجموعة مستشارين (1) موقعا الكترونيا (**) لتجميع مقترحات أعمال الأنصاب التي وصلتهم من مختلف فناني دول العالم العديدة. والتي تتراوح ما بين التصاميم المعمارية والافتراضية والتشكيلية وكلها تؤكد على الوجه المعتم للحرب وصناعها وتعيد الاعتبار لضحاياها سواء كانوا أناسا أو بيئة. وان استغلت هوليود أحداث هذه الحرب مثل معهود أعمالها أحادية النظرة ولمجرد الربح التجاري.
فان كما كبيرا من الأعمال الفنية والمسرحية والأفلام الوثائقية والفيديو ارت والفوتوغراف أنتجها وعرضها في عواصم أوربية عديدة فنانون عراقيون من مختلف أنحاء العالم. وبكفاءة فنية عالية.
بعيدا عن الحرب لنعاين مخاطر التلوث البيئي وثقب الأوزون (بما ان مسبباته اقتصادية سياسية) ولنختار صورتين من ضمن آلاف الصور الفنية الأخرى التي أنتجت في زمننا الصوري المعاصر:
الصورة الكرافيكية الأولى من موقع (2) يحتل مساحتها مصنع بمداخن تنفث دخانا كثيفا ويهيمن عليها اللون الأسود والرصاصي بكآبة واضحة تتساوى فيها البناية والدخان والسماء الرصاصية مع دائرة تشبه أل (باج) باللون الأصفر مدون عليها (صنع في الصين).
الصورة الثانية فوتوغرافية لبيئة صيفية وحبل غسيل علقت عليه مجموعة ملابس داخلية نسائية سفلية يصغر قياسها من اليسار إلى اليمين حتى تصبح اقرب إلى شكل خيط يتدلى من الحبل. وان دلت الصورة الأولى على مخاطر التلوث الصناعي بوضوح عالي. فان الصورة الثانية أشارت إلى ثقب الأوزون بخفاء ملغز لا يخلو من مزحة، لكنها مع ذلك دلت على ان الثقب الحراري الذي سوف يجردنا لا من ملابسنا وإنما من أرواحنا ومصادر إدامة حياتنا وحياة أبنائنا رغم كل جماليات المشهد الصوري. وان كشفت الصورة الأولى عن مجانية التلوث الصناعي الصيني بفجاجة واضحة فان دولا عظمى معروفة لم توقع على معاهدات الحد من التلوث رغم ادعائها بحماية العالم من خطر الإرهاب بالوقت الذي تتغافل فيه عن إرهاب التلوث.
تتحمل النساء في دول العالم الثالث المضطربة القسم الأكبر من الاضطهاد والتمييز. وفي دول تحكمها أنظمة توليتارية دينية مثل إيران وبعض دول الشرق الأوسط والتي هي قريبة في ممارساتها الاجتماعية اليومية بعض الشيء من محظورات طالبان الأفغانية. استطاعت العديد من فنانات هذه الدول تجاوز خطوط الحظر أو الحجز وفككوا بأعمالهم وصورهم المنظومة الثقافية الثيوقراطية المصادرة لحقوقهم الإنسانية كذوات يشكلن نصف المجتمع الإنساني لا هامشه المحجوز لرغبات الرجل. واستطاعت أسماء فنية مثل الإيرانيات ( شيرين نشأت و خادرين شادي) والعراقيات ( جنان العاني و ريم القاضي) والأفغانية (ليدا أبدول) وغيرهن العديد من تجاوز حاجز الحجر أو الحجز ألذكوري وكشف ممارسته الأيديولوجية صورا وأفلاما على قدر كبير من الإفصاح الثقافي والتقنية الفنية. وان كانت صور نشأت وشادي تؤكد على خطوط العزل والحجز بأوضح صوره ما بين الرجل والمرأة في الخطاب الثيوقراطي المحلي. فان صور العاني تؤكد على الذات النسوية وحوار الحاضن الاغترابي السلوكي الثقافي. أما القاضي فتسترجع تاريخ المرأة كجزء من ارث شعبي محلي معرض لخروقات حوادث الحروب العبثية والانهيار الاقتصادي، والمرأة فيه، ما هي إلا بعض من أزقة لا تعدو ان تكون بيوت مقفلة على جدرانها المتداعية في انتظار معجزة تنتشلها. وان تكن مشهدية صور العاني تبرز كبؤر مضيئة بتضادات شخوصها وخلفياتها المعتمة، فان صور القاضي يغلفها جو ضبابي يدمج الشخوص ومحيطها بوحدة مصيرها الضبابي. أما الأفغانية أبدول فقد تغزلت بنفسها كما تغزلت بحجارة بلدها المتساقطة وهي تؤكد على استعادة حلاوة عسل الجنس مرادفا لاستعادة المكان الذي دمرته القاصفات.
أنتجت قصة الحدث الأكبر في زمننا الحالي (الإرهاب الديني)، كما هائلا من الإعمال الفنية التي عالجت الحدث وما حاوله في الزمن التالي للحروب الباردة. لكنها وبشكل عام تجاهلت، وبسبب من هيمنة صناع القرار الإعلامي الطاغي مسببات نشأته. وان اشتبكت خطوط هذه النشأة بأكثر من مسبب وفاعل. عدى عن مجموع المصالح المشتركة والمتبادلة ونوازعها السياسية العلنية والخفية. فإننا لم نلحظ وبشكل عام خطابا فنيا سياسيا سواء كان صوريا أو أدائيا حياديا يرقى لقوة وفاعلية الحدث الخبري الإعلامي ومختبره الصوري بخطابه الأحادي لطرفي النزاع (الحادثة). وان كانت القصة دبلجت وأنتجت بمهارة. فإنها لا تزال بحاجة إلا أعادة النظر عالميا وليس محليا لتدارك نتائجها. مع كل ذلك فان أكثرية الأعمال التي أنتجت عن الإرهاب الديني هي أعمال فنية إعلامية صورية لا تتعدى المونتاج الفوتوغرافي والكاريكاتير الصوري والفيلمي. مع النادر من الأعمال الأخرى ذات التقنية العالية. إذا تجاوزنا الأعمال السينمية (رغم محدودية أهداف إنتاجها والموصومة بنظرتها الأحادية الغير بريئة). وان كان حدث الحادي عشر من سبتمر أيقض النوازع الخفية لتاريخ الصراح الديني، فان الإعلام المعاصر ضاعف من فاعليته الذهنية التدميرية ضمن مساحة الفوضى المفاهيمية المعاصرة وما أنتجتها من خطاب فني سياسي، وكأمثلة على ذلك، لنعاين هذين العملين:
العمل الأول للفنانة الاسترالية (بريسيليا براكس) والمعنون (شرقيات ملتحية) يمثل صورة إيقونية
لأبن لادن. وهي إذ تستعير لأبن لادن إيقونة المسيح في صورتها المركبة هذه، فإنها حتما لم تشتغل عملها من فراغ ولا من اجل المشاكسة فقط، بل من إيحاءات قوة الصورة كأيقونة إعلامية عالمية الصنع والتسويق بكثافة موازية لقوة ورعب ديمومة الخبرـ الحدث (وبجذره الديني) المرافق له، على الرغم من أنها صنعت فعلا استهجانيا استفزت به صناع القرار السياسي على الرغم تبرير فعلتها من قبل السلطة الثقافية الاسترالية نفسها.
العمل الفني النحتي التجميعي، الثاني (الشادور، أو السر الرابع لفاطمة سوليفان) للفنان (لوكا) الذي كسا فيه تمثال السيدة العذراء بشادور أفغاني. والشادور في هذا الموقع اعتقده لا يمثل إلا مفصلا من مفاصل صراع الثقافات المزعوم والذي سوق كحقائق لا يحبذ إغفالها. على الرغم من تسويقها لصالح الأهداف السياسية المتصارعة وكما في صور (اوبوما) المختلفة الذي تمثله مسيحا منتظرا، أو وهو حامل ألواح موسى، أو معتمرا الطاقية الإسلامية. ويبقى كم هائل من صور الحجاب تميمة أو أحجية عند طرفي الصراع بحاجة إلى فك ألغازها الدينية والدنيوية. ما عدى شتى الصور الاستفزازية المواربة التي حجزت الظاهرة بجزئياتها الصغرى والكبرى في مساحة المعلومة الواقعية والافتراضية وسوقتها غبر قنواتها المدارية.
ان كان كل من الأسبانيين كويا و بيكاسو فضلوا المشهد البانورامي في أعمالهم الاحتجاجية السياسية. فان عالمنا المعاصر مكتظ صورا هي جزئيات متناثرة فوق صحائف الورق والحيطان وشاشات العرض وعبر خطوط التقنيات السائلة العابرة. وان أغلقت صالات العرض الفنية الكبرى أبوابها بوجه الأعمال الفنية الغير تقليدية من الوجه الآخر لسياساتها المتناغمة و إيديولوجية مموليها. فان مجال العرض الفني لم يعد مقتصرا على احياز أمكنتها بعد ان أصبح المكان الافتراضي واسع لا يحده تابو.

(*)-Joseph DeLappe
1-iraqimemorial.org2- (National Labor Committee.)
2- (National Labor Committee.)

(**)ـ من المجموعة الثانية:
الفنان العراقي محمد عبد الله، وأمينة متحف كسندرا كوبلنتز، والمهندس المعماري جوليان هنت، ان وولف أمينة معارض ومجموعات في متحف نفادا للفن، وراوول زاموديو اين ناقد فني.
10-03-18