1
ترجمة وتقديم عبد القادر الجنابي: منالمسلَّم به أن قارئاً ذائقته تعوّدت قراءة أشعار موزونة، غالباً ما تصدمه قصيدة اليوم التي لا قياس لها ولا وزن ولا قافية، فيغضب ويقول laquo;هذا ليس شعراraquo;. وهو محقّ، فتعريف مصطلح laquo;شعرraquo;، الذي وضعه عَروضيّون لكي تتطابق ومتطلبات أزمنتهم الغابرة، لا ينطبق، اليوم، على جلّ الأعمال الشعرية الكبرى الحديثة، ومن بينها قصيدة النثر العربية التي quot;تفتقر إلى عناصر الجرْس والإيقاع المتمثّلة في الوزن، والقافية، ونظام البيتquot;. وتجدر الإشارة هنا إلى أن quot;سبب تسميّة هذا العلم بـquot;العَروضquot; لأنّ الشعر يُعرَض عليه فيظهر الصحيح منه من الفاسدquot;. إذن، معظم ما يكتب اليوم من شعر عربي حديث يعتبر شعرا فاسدا!
القصيدة الحديثة لا تولد جرْياً على مقياس عَروضيّ وإنما وفق آنيّة نَفَسِ كاتبها، إحساسه الإيقاعي، وقفته النبضية. أو كما كتب غوستاف كاهن: quot;الأساس الحقيقي للإيقاع هو أذن الإلقاء الفطري، لا الإطار السطحي لعروض طقسيquot;. والإيقاع، في القصيدة الحديثة، يتنوّع من شاعر إلى آخر، وبالتالي ليس هناك من قانون، نبريّ أو مقطعيّ ثابت، يؤخذ قاعدةً. إذ كل قصيدة تخضع في نموها لما تستمدّه من تطوّر الشاعر نفسه، منتجةً وحدتها الموسيقية المتغيّرة على الدوام؛ وكأنّها إيقاع تائه لا وجود لقانونه في نموذج مستقل عن معنى القصيدة التي انتجته. كما إنها وحدة موسيقية لا تعتمد على الأذن بقدر ما تعتمد على كيان الشاعر وهزّة النفس التي يُعانيها عند كتابة القصيدة. فالشعر الحديث، في كلّ مرّةٍ، يكشف عن خصوصية إيقاعية جديدة. فلأنسي الحاج، مثلاً، بنيته الإيقاعية الخاصة به التي تختلف كلياً عن تلك التي ينطلق منها محمد الماغوط، وبول شاوول عن مؤيّد الراوي، والاختلاف الإيقاعي نفسه موجود بين شاعرَين كانا يكتبان شعراً موزوناً وانتهيا إلى كتابة قصيدة متحرّرة من الأوزان كسركون بولص وأمجد ناصر... ذلك أن قصيدةَ كلّ من هؤلاء الشعراء تولد في حنايا ثقافية ونفسية وتطلّعية مختلفة من واحد إلى آخر، ولكلٍّ نهجه، طبيعته، هو في تفضيل صياغة جملة نثرية على نظم بيت؛ واعتبارها شعريةً؛ أي الخروج من دوران الجرس وتكراره إلى طيف الصوت الجارف الذي يستولي على إحساس كل واحد منهم تناغماً ونَفَسَه الثقافي. وأنسي الحاج ربما هو الشاعر العربي الوحيد الذي انتبه إلى ما يميّز الإيقاع العضوي؛ إيقاع القصيدة الحديثة، عن النغم الموسيقي الكلاسيكي، وذلك في حوار له مع مجلة quot;الفكرquot; التونسية، سنة 1965، حيث قال: {الشعر لغةٌ، لغة الشاعر هي، قبل كلّ شيء، quot;هوquot; أي: دورتُه الدمويّة، أنفاسُه، ضغطُه، سرعةُ نبضه، لغة الشاعر في جسده. إذا كنتُ عدّيت الفعل اللازم مباشرةً على الضمير فليس لأني تعمّدت الجديد، بل لأنّي quot;أتكلّمquot; هكذا}، وأوضَحَ نقطةً جانبيّةً، لكنّها مهمّة، ألا وهي: إنه يفضّل تسمية كتابه الشعري بـquot;مجموعة شعريّةquot; لأنّه لا يستسيغ كلمة quot;ديوانquot; لما يُشتم فيها من رائحة القدم والكلاسيكيّة.
في الحقيقة أنّ الفرق الشاسع بين التعريف القديم لـquot;شعرquot;، وبين الفهم المعاصر له، يتقاطب وحقيقة مفادها إنّ أغلب قرّاء الشعر الحديث، اليوم، يجهلون القوانين الأساسية المحدَّدة، كلاسيكيّا، في كلمة laquo;شعرraquo;، وما إعجابهم بالقصيدة الحديثة سوى نتيجة قراءة في مرحلة الحضانة، كما يقول أودن، حيث عدم القدرة على التمييز بين الذوق والحكم. هناك ثلاثة أنواع من القراء: القارئ الوزّان الذي يقرأ القصيدة بذهنيّة بوليسيّة تترصد أيّ كسر أو خلل وزني ليحكم على القصيدة بالموت: بأنّها ليست قصيدة وإنّما شعر فاسد. وثانيا، القارئ الذي يقرأ كثيراً الشعر المترجم لما يزخر به من دهشة، وقوة الصور، والتجاور اللامعقول بين كلمة وأخرى، سطر وآخر؛ وبالتالي هو من أنصار قصيدة النثر العربية ولا تهمّه إذا كانت القصيدة موزونة أو غير موزونة؛ أمّا القارئ الثالث فهو الذي لا يقرأ إلا ليتصوَّر نفسَه في القصيدة باحثا عن مشابهات عاطفيّة، سياسيّة، والرواسب الشعورية بينه وبينها، وquot;كأنّما هو اسطوانة مسجلة يكفي القصيدة أن تعرك إذن الآلة التي تديرها حتى تستفرغ جميع ما فيهاquot;، كما قال آي. إي. رتشاردز. وهذا القارئ يشكّل 80 بالمئة من قراء الشعر العرب، يذهب معه سدى الجهدُ الذي يبذله الشاعرُ في تنويع تفاعيله وتنسيقها على نحو مميز خاص به، فهو (القارئ) يُقبل على القصيدة من باب الولاء العقائدي. وليس غريبا أن نراه حاضرا قي قراءات شعرية لشعراء الوزن دون أن يفهم على أي بحر كتبت قصائدهم وأيّة إضافة جاؤوا بها على صعيد الكتابة الوزنيّة.
ما هو الحلّ، إذن، الذي يمكن أن يُعطي مصطلحَ laquo;شعرraquo; تعريفاً جديداً واسعاً، حتى نتجاوز هذه الثنائية القاتلة: laquo;هذا شعر وهذا ليس بشعرraquo;؛ بل حتى لا يضطر الشاعر الحديث إلى أن يصرخ في وجه ناقد سلفيّ: laquo;لستُ شاعراً بالمعنى الذي تعطيه لكلمة شعرraquo;. متى سيتحرّر الناقد العربي من إطلاق مصطلح laquo;قصيدة نثرraquo; على أعمال شعرية فقط لأنها لا تخضع لضوابط التفعيلة؟ والغريب، حتى الناقد المتعاطف مع قصيدة النثر العربية غالبا ما يمررها بكومبيوتر التقطيع ليرى من أي بحر تقترب ليجد لها مخرجا يخفف من عداء التقليديين... بينما يفترض به أن يترك التفاعيل جانبا ويقرأ القصيدة من طبيعة الانفعال أو الفكرة التي تتضمّنها. ألم يحن الوقت لتخليص كلمة laquo;شعرraquo; من قواعدها التاريخية الشالّة، والأخذِ بالاعتبار طبيعة القصيدة الحديثة وأفقها المفتوح؟ أي أن ينطلق النقد من معايير القصيدة نفسها لا من معايير احتاجها زمن سابق؛ من إيقاع مفاجئ تنتجه علاقات جديدة بين الكلمات، لا من نغم جاهز تصطفّ وفقه الكلمات خنوعاً.
صحيح، كما يقول قائل، إن شاعراً كمحمود درويش تكمن قوّته الشعرية، أحيانا، في صراعه مع مدّ وجزر بحر المتقارب ليخرج بإيقاع موسيقي خاص به أكثر مما هو خاص بالمتقارب، وذلك لأنه عرف كيفية استغلال الحرّية المتوافرة ضمن المعطى. إنّ الهدف المضمر من حجج كهذه، هو أن نبقى تحت رحمة التعريف الثابت لكلمة laquo;شعرraquo; وأن لا نتصرّف إلا بما يُعطينا من حرّية محدّدة أساساً. لا استعلاء هنا، أبدا، على قيمة شعراء حركة laquo;الشعر الحرّraquo; العربي، فقد مهّدوا لنا السبيل إلى كتابة شعر طليق سمّي خطأً quot;قصيدة نثرquot;. لكنّ الحقيقة يجب أن تقال: إنّ شعرهم ليس حرا على الإطلاق، وإنّما مُحرَّرٌ من بعض القواعد الشكلية، فهم احتفظوا بالسلّم الموسيقي في توزيع جديد؛ بوحدة موسيقية باتت عديمة الفائدة للأذن الحديثة. مشكلتهم إنهم لم ينجزوا ما أنجزه روّاد الشعر الفرنسي الحر: الانتهاء من العدد المقطعي الثابت الى اللاعدد المفتوح؛ من البيت المأسور بإيقاع ثابت، إلى السطر المفتوح على وقع عضوي تخلّصاً من كلّ عدّ، حتّى يكون للشعر الحرية الكبرى نفسها التي يمتلكها النثر. كم تبدو بحور الشعر العربية جامدة إلى جانب طشيش المياه، فوضى الشارع وحرارة الحياة. ومع أنّ سحنة العربية وطبيعة تركيبة جُمَلِها قد تغيّرت، اليوم، بحيث باتت في سياق مفتوح لكل التراكيب التي كانت تبدو غريبة في نظر فقهاء اللغة السابقين... فإنّ هناك مَن لا يزال يسطّل رأسَه لتبسيط العَروض بينما المطلوب التخلّص منها كمعيار؛ كقاعدة، وأن تبقى مجرد طريقة تعبير أخرى.
نحن، اليوم، في حاجة إلى إعادة تعريف يجعلنا نتدفّق تدفّقا يفتح الكتابة الشعرية على كل الإمكانات، يحرر التفاعيل من تناسقها الاعتباطي وتأريخيتها المرسومة، طالقا إيّاها في تعاشق مختلط في مخدع المجهول علّها تأتي بشيء مغاير. أعرف أنّ ثمّة سؤالا في فم أحدهم: إذا اتفقنا على أن القصيدة الحديثة ترفض أي قانون، فكيف سنتمكّن إذاً من وضع قوانين لها، أو كيف سنستخرج قوانين من القصيدة الحديثة لكي نعتمدها في المقاربات النقدية؟ ربّما نجد بداية الطريق المؤدّي إلى الجواب عندما نفهم: أن الشعر ليس عشيرةً حتّى تُعتبَر القصائد أبناءَها؛ وليس مهارة ولا صناعة حاذقة، وإنما جَيَشان؛ وأن ينبوع القصيدة الحديثة لا يقع خارج ملكة إدراك الشاعر بل في صلب اندحار هذه الملكة؛ وأننا نعيش في عصر لم يعد للأعراف الأدبية شأن فيه (رسالة المسرحي النمساوي هوفمنستال إلى اللورد شاندوس نُشرت في laquo;غاليمارraquo; كقصيدة نثر)، واليوم لم تعد هناك لهجة قبيلة واحدة لتمحيصها، أي لم يعد هناك لغة مرجعية واحدة، وإنما هناك قبائل ولهجات شبكية تؤثّر في الجميع محتقرةً كل خصوصية انعزالية؛ وأن الموسيقى ما من قول لم يجانسها في الشعر، حتى لو كان في حالة نشاز، طالما هو صراخ ينطق عن كامن الأفراد بإيقاع مُقاس أصلاً. ليُتعب ناقدٌ واحد نفسَه بالإطلاع على تطور التيّارات الشعرية الغربية، وعلى ما اجترحه هذا التطوّر من أشكال متطرّفة كالشعر الكونكريتي والرنّان والخ، على أمل أن يفهم، أخيراً، ماذا تعني قصيدة حديثة. إذاً، تعريفٌ جديد لا يفرض ضوابطَ؛ تعريفٌ أشبه بشاهد عيان أكثر تجريباً، هو ذا المطلوب عربياً، اليوم. وهو المطلب عينه الذي طالب به الشاعر المكسيكي باتشيكو في قصيدة أواخر ستينيات القرن الماضي حيث دعا إلى إعادة تعريف كلمة laquo;شعرraquo;، وإيجاد مصطلح آخر أوسع لإطلاقه على كل هذه الأعمال الشعرية الكبرى التي لا ينطبق عليها مصطلح laquo;شعرraquo; المحدّد بقوانين كانت صالحة قبل عشرات القرون:

أطروحة حول التطابق
على الرغم من أن الأبيات الشعرية تتماشى كما يبدو بتطابق مع الوزن؛ وذلك بسبب رنين اللغة...
الذي، حتى لو تنطلق منه، فهذه الأبيات تثريه وتـَـنـْهبه،
فإن أفضل ما كتب خلال القرن العشرين لا يجمعه غير القليل مع ما دعاه بالشعر أكاديميون ومعلمون من زمن آخر.
إذن يجب تقديم اقتراح إلىمجمع اللغةلكي يعيد تعريف (الشعر) بما يوسّع الحدود
(إنْ تكن ثمة حدود)؛
بأيُّ لفظ لم يعهدهجبابرة الكلاسيكيين.
بأيّ اسم، أو أيُّ مُصطلحٍ - الاقتراحات مُرحّبٌ بها ndash; شرط أن يتلافى مفاجآت وغضب هؤلاء الذين ما إن يقرؤوا قصيدةً حتى يقولوا، بصوابٍ:
quot;هذا، ليس شعراquot;.

2
خوسيه اميليو باتشيكو شاعر لا يضاهيه، إلا اوكتافيو باث، في تاريخ أدب أميركا اللاتينية المعاصر. ولد في مكسيكو سيتي عام 1939 وبدأ النشر وهو تلميذ في العاشرة، وبدل أن يلبي رغبة أبيه المحامي وكاتب العدل، في أن يدرس القانون لكي يؤمن وضعه الاجتماعي ضد ظروف العوز والفقر؛ مصير كل كاتب، اتجه خوسيه نحو دراسة الفقه تجنبا لأي احتمال في أن يصبح حارسا للقانون في 'الحرب ضد الفقراءquot;. ولذا ليس غريبا أن يصرح في كلمته عام 2009 بمناسبة حصوله على جائزة سرفانتس، وهي الجائزة الاسبانية المعادلة لجائزة نوبل في الأدب، بأن معظم الكتاب، سواء أرادوا أو لا، هم quot;أعضاء في جمعية الشحاذينquot;، ذلك أن حياة معظمهم مليئة بالإذلال والفشل. فالكتاب لم يعط لهم الاعتراف الذي يستحقونه. وإنه ليس هناك كاتب في كل الأدب الإسباني تم إذلاله وعانى الإخفاق والإهانات أكثر من مؤلف quot;دون كيشوتquot;... وتمنى باتشيكو أن توجد جائزة سرفانتس لكي تعطى لميغيل دي سرفانتس نفسه؟ وسبب فقر الكتاب هذا، هو أنه، وفق باتشيكو، منذ أن أنشئ في روما، أيام القيصر أوغسطس، سوق لبيع الكتب، تم تثبيت مكافأة مالية لكل من تورط في عملية النشر، من ناسخي النص، وموفري الورق البردي، والمحررين وبائعي الكتب... إلا واحدا فقط استبعد هو المؤلف، الذي من دونه لما استطاع الآخرون العيش. ومن حسن طالع باتشيكو أنه عندما صعد المنصة ليلقي كلمة شكر أمام ملك اسبانيا خوان كارلوس، على منحه جائزة سرفانتس لعام 2009، هبط بنطلونه إلى حد الركبة مما سيطر على الحادث دون أن يشعر بالحرج وإنما اكتفى بالقول انه لا يرتدي حمالات.. وهكذا سجل، بطريق الصدفة، نقطة تواضع حقيقي ضد كل الغرور الذي يصاب به الكتاب عندما يتواجدون في أماكن أبهة كهذه.
مارس النقد منذ شبابه، وعمل محررا وكاتبا وناشرا لعدة مجلات ثقافية كمجلة quot;بلورالquot; المشهورة. أصدر عام 1963 أوّل مجموعة شعرية عنوانها quot;عناصر الليلquot;، ثم تبعها بعدة دواوين وقصص ومقالات... متنقلا وفق حاسته التشكيلية بين كتابة الشعر، المقالات، الترجمة والسرد النثري. لكن الشعر هو نشاطه الأكثر غنى. حافظ على استقلاله وعدم الانتماء إلى أي مجموعة أو حركة أدبية: quot;ليكتب الآخرون القصيدة الكبرى والأعمال الداويّة... فإن الشعر الذي أبحث عنه هو يوميات حيث لا يوجد فيها لا مشروع ولا مقياسquot;. وبعض قصائده تجرد الشعراء من هالاتهم المصطنعة: quot;هذا العام كتبت عشرَ قصائد/ عشرة أشكال مختلفة للإخفاقquot;... وغالبا ما تتميز بقصرها الصاعق: quot;quot;كلا، ليست يدُكَ/ وإنما الحبرُ هو الذي يكتب على غير هدى/ بضع الكلمات هذهquot;. كما تتميز بصوفية دنيوية: quot;quot;في كل مرة تبدأ فيها بكتابة قصيدة/ تستحضر الموتى/ يَرَوْنـَـك تكتب/ يساعدونك.quot;
لقد ازدرى باتشيكو بصناعة الأدب وبالتعطش إلى الشهرة، فكتب قصائد تكاد تكون أشبه باطروحات أو رسائل جامعية مختصرة، يتناول فيها أوهاما عديدة يعيشها الشعراء. كهذه القصيدة (الرسالة، رافضا اعطاء مقابلة، إلى مدير مجلة اسمه جورج بي مور) ، يدافع فيها عن نشر قصائد من دون ذكر اسم مؤلفها، فالهدف هو أن نقرأ قصائد لا أسماء شعراء، كما أصبحت الموضة اليوم:

دفاعا عن مجهوليّة اسم المؤلف

عزيزي جورج، لا اعرف لماذا نكتب.
أحيانا أتساءل لماذا ننشر
ما قد كتبناه.
أيْ، نحن نلقي
بقنينة في بحر ملآن بأقذار وقناني تحوي رسائل.
ولن نعلم أبدا
إلى مَن وأين سيطرحها المدُّ والجَـزر.
على الأرجح
ستستسلم للعواصف والهاوية
ترزح عميقا تحت الرمل، الموت.
غير أنَّ
تكشيرة غريقٍ ليست بلا فائدة.
لأن ذات يوم أحد
قد تتصل بي تلفونيا من ايست بارك في كولورادو.
وتقول: إنك قد قرأـت كل ما كان في القنينة
(عبر البحار: لغتيـْـنا).
وتريد أن تجري مقابلة معي.
كيف أشرح لك باني لم أعط أيّة مقابلة
وطموحي أن أكون مقروءا لا quot;مشهوراquot;
وما يهمني هو النص وليس كاتب النص
واني لا أومن بالسيرك الأدبي؟

عندها أتلقى برقية ضخمة
(يا للوقت الذي استغرقَ فيه إرسالـُها).
لا أستطيع الإجابة ولا أستطيع أن أبقى صامتا.
وهذه الأبيات تخطر ببالي. ليست قصيدة.
ولا تصبو إلى ميزة الشعر
(فهي ليست قصديّة).
وسأستخدم، على طريقة القدماء، الشعر
كوسيلة من أجل
(النادرة، الرسالة، المسرح، القصة، وموجز زراعي)
كل ما نقول في النثر اليوم.

وبدءا لا لأجيبك، وإنما لأقول:
ليس لدي ما أضيفه إلى ما في
قصائدي كلها،
وليس لي اهتمام بالتعليق عليها، و
quot;مكاني في التاريخquot; (إذا كان لي مكان) لا يهمّني
(فالانهيار ينتظرنا جميعا
آجلا أو عاجلا).
أنا أكتب وهذا كلُّ ما في الأمر. اكتب. أهيّئ نصف
القصيدة.
فالشعر ليس علامة سوداء في صفحة بيضاء.
اسمّي شعرا مكان الالتقاء
مع تجربة الآخرين. فالقارئ، القارئة،
هو الذي سينـْظُم، أو لا، القصيدة التي وضعتُ صيغتـَها الأوليّة.

نحن لا نقرأ الآخرين: وإنما نقرأ أنفسَـنا فيهم
يبدو لي كمعجزة
أن شخصا لا أعرفه يستطيع أن يرى نفسَه في مرآتي.
quot;وإن كان ثمة فضل في هذاquot;، يقول بيساوا
quot;فانه يعود إلى الأبيات لا إلى كاتبهاquot;.
وإذا هو مصادفةً شاعرٌ كبير
لترك أربع أو خمس قصائد أثيرة
وسط مسوّدات وصيغ باءت بالفشل.
أما آراؤه الشخصية
فهي فعلا قليلة الأهمية.

غريبٌ عالمنا: كلَّ يوم
يزداد الاهتمامُ بالشعراء؛
وبالقصائد يتناقص.
كفّ الشاعرُ عن أن يكون صوتَ قبيلته
هذا الذي يتكلم نيابةً عن الذين لا يتكلمون.
فقد أصبح مسليا آخر لا غير.
نشواته الخمرية، مضاجعاته، ملفّه الطبي،
تحالفاته أو معاركه مع سائر مهرجي السيرك،
أو مع لاعب العُقلة أو مروّض الفيل،
كل هذا ضَمَن له ازدياد معجبيه
الذين لا رغبة لهم في قراءة القصائد

ما زلت أعتقد
بان الشعر شيء آخر:
شكل من أشكال الحب لا يوجد إلا في الصمت،
في مكان سري بين شخصين،
نادرا ما يعرف واحدُهما الآخر.
ربما قد قرأتَ بأن خوان رامون خيمينيث
كان له قبل خمسين عاما مشروع إصدار مجلة.
أن تسمى quot;مَجهولُ المُؤلّفquot;.
وينشر فيها نصوصا، لا أسماء،
وأن تكون معمولة من القصائد وليس من الشعراء.
شأن هذا المعلم الاسباني،
أودّ أن يكون الشعر مُغـْـفل الاسم مثلما هو جماعي
(وهكذا هي أشعاري وترجماتي).
ربما ستقول أنا على حق.
قد قرأتني وأنت لا تعرف اسمي.
سوف لن يرى واحدنا الآخر، لكننا أصدقاء.
وإذا أحببتَ قصائدي فيا تُرى
مَن تهمه إذا كنتُ أنا كاتبَها، أو شخصٌ آخرُ، أو لا احدَ
في الحقيقة إنّ القصائدَ التي قرأتَها هي قصائدُكَ
إنك أنت، مؤلـّـفها، الذي يبتدعها عند قراءتها
.

فصل مستل من كتابي الذي سيصدر قريبا عن quot;دار الغاوونquot; تحت عنوان: quot;الانطولوجيا البيانيّةquot;