لا توجد ثقافة، كالثقافة العربية، قائمة على الغاء المرجع وبث الفوضى التشويشيةفي المفاهيم. فمنذ فجرها الإسلامي، وهي تتخبط في فهم هذا المصطلح أو ذاك، وكأن لاهدف لها سوىتشويه ما يأتيها منالآخروعجنه ليفقد أصالته ويصبح غير صالح للتناول. فالخوف من فهم المصطلح فهما دقيقا ينطوي على كراهية مضمرة لهذا الآخر.ومحق هو المؤرخ الذي لا يميل الى اعتبار أن العرب ترجموا quot;تراجيدياquot; وquot;كوميدياquot; بـquot;مديحquot; وquot;هجاءquot; لأنهم أساءوا فهم المعنى اليوناني، وإنما ترجمتهم هذه تعبر عن ناحية جوهرية لطبيعة الروح العربية.. ذلك انهم عرفوا خطورة هذين المصطلحين إذا تم إيصالهما بوضوح وفهم دقيق لهما، على مجمل الثقافة الإسلامية، وربما على تقويض أسّها الديني. هذا المسار الثقافي (حتى لا نقول العرقي أو الجيني لكي لا نتهم بالعنصرية) لا يزال ساريا حتى اليوم، فمثلا، مجلة quot;شعرquot; اللبنانية، لم يحاول المشرفون عليها،ربما بسبب انشغالهم في معارك جانبية،تخصيص عدد أو ملف يوضح حقيقة قصيدة النثر وإعطاء نماذج عينية لكييصبح شكلهذه القصيدة واضحا لدى القارئ وخصوصا لدى الشعراء الشبان الذين كانوا آنذاك متعطشين الى كتابة شعرية جديدة. بهذا المعنى، عندما أعطيت الشاعر الصديق أمجد ناصر نسخة من كتابي quot;انطولوجيا قصيدة النثر الفرنسيةquot; الذي صدر عام 2001 عن دار النهار اللبنانية، كتبت له إهداء جاء فيه: quot;تصور ماذا كان سيحدث للكتابة العربية لو صدر هذا الكتاب عام 1960؟quot; والغريب أن هذا الكتاب - الأنطولوجيا الأولى مننوعها،سرعان ما لاقى تعتيما مقصودا شارك فيه عدة أشخاص (أحدهم عن طريق زوجته) لكي لا توزعه دار النهار على الاطلاق بل أن يُرمى في سرداب الدار... وهذا ما حصل.

والأمس ليس أسوأ من اليوم، فها هو صدور كتابي quot;قصيدة النثر وما تتميز به عن الشعر الحرquot; (عن دار الغاوون) يرعب، على نحو غير متوقع الصديق عباس بيضون. فكتب في quot;السفيرquot; (عددالجمعة 19 شباط)مقالة متشدقة، يتمسخر فيها من جدوى الأكاديميا حول قصيدة النثر، متسائلا أين الشعر... ويقصد ان الشعر هو الخاسر الوحيد في كتب الأكاديميا.

أريد أن أعرف لماذا هذا الخوف من كتاب يتضمن دراسات إيضاحية موثقة تنظيرا ونموذجا لمصطلح قصيدة النثر.... مالضير في أن يضاف الى المكتبة العربية مرجع واحد، على الأقل،عن إشكالية قصيدة النثر؟ وأليس المهمة في هذه الحال، مناقشة الكتاب ومقارنة الترجمات وتبيان ما ينطوي عليه من نقص في المعلومات أو في الترجمة؟ ويا ترى، هل هناك أحد يستطيع، فعلا، القيام بهذا على نحو جدي يستفيد منه المؤلف والقارئ معا؟ أيعرف عباس بيضون انه لو لا هذه الدراسة الأكاديمية التي قدمتها سوزان برنار، لظلت قصيدة النثر نائمة في تراثها السابق منسية، بل لما كان لها هذا التطور النثري المذهل في الثلاثين سنة الأخيرة، بل لما كان هناك هذا الثراء الشعري، اليوم، في النثر الأمريكي المعاصر.هل حاولبيضون الحريص على الشعر، مرة واحدةان ينقد، مثلا،الترجمة العربية المغلوطة من الألف الىالياء لكتاب سوزان برنار... كلا.. كيف؟ إنهذه الترجمةالسيئة تصبفي نهر التشويش الذي يسبح فيه عباس بيضون.

رغم كل هذا النتاج العالمي لقصيدة النثر بفضل الدراسات الأكاديمية، يسأل بيضون: quot;لكن اين هو الشعر؟quot; نعم، يا بيضون، أين هو الشعر، فعلا،في 99 بالمئة مما تمدحه بإنشائك وعباراتك المطلقة على عواهنها... في جريدة quot;السفيرquot;؟ وأين هو الشعر في الترجمات السيئة والرديئة (وسأبرهن قريبا بأدلة قاطعة على ما أقول)، التي تمتدحها؟
زبدة الأمر هي ليس غياب الشعر بل هي على العكس تجلي الشعر (فكتابي يتضمن ترجمة لما يقارب100 قصيدة نثر فرنسية) في سياقه التاريخيعلى نحو يعرّي معه، أولا، جهل الثقافة العربية بالمصطلح النقدي الأدبي وما يفرزه من أشكال إبداعية، وثانيا، لأنه يكشف عن منتحلي جهد الآخرين؛ منتحلين يغضالنظر عنهم بيضون وغيره...

لقد علمتني الثقافة الغربية بشيء جوهري: ذلك أن الشعر لا ينتج شكله المراد
إلا عندما يكون هناك تمييز معرفي بين سياق وآخر في صلب الإدراك الإبداعي؛
إلا عندما تكون مخيلة الشاعر سلفا منظمة ومتفهمة أي أداة يمكن أن تنتج عبرها فوضاها هي؛ الفوضى التي هي النظام الخلاق عينه مقارنة مع فوضى المجتمع التدميرية.

في مجتمع انفقاد الضوابط وضياع الضمير والتشويش المعمم، مجتمع محاصر برعاع الطوائف وبالتالي بقوامين أميين عليهم؛ مجتمع لا يتميز إلا بأفراد منعدمي القدرة على اتخاذ موقف واضح... من الطبيعي أن تكون مهمة هذا الصحافي أو ذاك التعتيم على كتابٍ يَعرف، بعمق، أهميته، بل غالبا ما يتغذى منه؛ وبالتالي على أن تتمظهر مهمته فقط بجعل التافه روائيا كبيرا، والأمي مترجما كبيرا، والضحل شاعرا كبيرا... وغض النظر عما هو حقيقي وبالتالي التكلم عن كل شيء الا عن الجوهر... أه كم كنت صادقا يا ساندرو فرنزي عندما قلت: quot;إنهم يبصقون على نظرياتنا، لكن هذا لا يمنعهم من أن يحلموا بها كل ليلةquot;.

قد يدعي بيضون ان مقالته لا علاقة لها بكتابي... ربما. فهو معروف بزئبقيته... لكن،توقيتها مع صدور كتابي قبل 10 ايام وله علم بصدوره.. لا يدل إلا على quot;شيء في نفس يعقوبquot;؛ و... على قلة نزاهة....

يا لي من ساذج.. فهل ثمة نزاهة في الوسط الثقافي العربي الغارق بالمقايضات وتبادل الأكاذيب والخدمات العبيدية، وquot;اِلْحسْاليتي، ألحسْ اليتكquot;؟ العفو، يجب أن أوضح: ليسهناك كتابة نزيهة، فالكاتب يحتاج إلى شيء من عدم النزاهة مثلما تحتاج المحارة إلى شيء من الرمل لكي تنتج لؤلؤة، الكاتب العربي يحتاج إلى شيء من النزاهة حتى ينتج هذه اللؤلؤة.

عندما كان المرء، في أواخر الستينات، ينادي quot;سجّل أنا عربيquot;، كانت ثمة نزاهة تجعل من هذا النداء شحنة حياة، أما اليوم حيث العرب quot;وُلِيَ عليهم كما همquot;، فإنه ليس لدي ما أضيفه سوى هذا: سجَل إنه عربي.