من اعمال مهرجان لندن العالمي للمسرح 2010 Lift
سميرة التميمي من لندن: ضمن فعاليات مهرجان لندن العالمي للمسرح (Lift) الذي يقام في العاصمة البريطانية بمشاركة عشرين فرقة مسرحية من مختلف انحاء العالم قدمت ورشة نيويورك للمسرح، دراما وثائقية تحمل عنوان Aftermath بقلم الكاتبين جيسيكا بلانك وايريك جينسن وهما زوجان امريكيان يعملان في التمثيل والاخراج اضافة الى الكتابة وقد بنيا احداث المسرحية على لقاءات صحفية كانا قد اجرياها مع سبعة وثلاثين لاجئا عراقيا في الاردن ممن انقلبت حياتهم واضطربت نفوسهم وجرحت انسانيتهم بعد دخول القوات الامريكية الى بغداد. وتسرد المسرحية ست حكايات عن عراقيين هربوا من بلادهم بعد ان حملتهم الحرب اكثر مما يستطيعون الاحتمال. ولعل اكثر مايلفت الانتباه في هذا العرض هو اختيار مسرح ذي اولد فك تانلس The Old Vic Tunnels كي يكون مكانا لتقديم هذه المسرحية، وهو مسرح يقع تحت محطة قطارات وترلو ويأخذ مكانه في احد زوايا قناة مياه جافة ومظلمة تزين جدرانها شخبطات الكرافيتي المرسومة بالالوان الفاقعة اما المسرح نفسه فهو كئيب وفقير الانارة ورطب الى حد توزيع البطانيات على الجمهور كي يقوا اقدامهم من لسعات الرطوبة كما ان اصوات القطارات الصاخبة المحملة بالبضائع تمر من فوق الرؤوس بين فترة واخرى محدثة جلبة وضجيجا وكأنها جزء من هدير الطائرات التي كانت تغيرعلى بغداد في الايام الاولى للحرب وربما لا يصلح هذا المكان لاي نص كما يصلح لهذه المسرحية الغارقة بالحزن والسوداوية وكأن المسرح والنص قد صارا جزءا من رزمة واحدة.

حكايات ملبدة بالحزن
نجح الكاتبان الامريكيان في انجاز نص محبوك يربط الحكايات الست المغلفة بعذابات الناس من خلال مترجم عراقي اسمه شهيد ( الممثل العراقي فجر القيسي) الذي يعرفنا بهذه الشخصيات ويقودنا الى عوالمها ويحولنا من مشاهدين الى مستجوبين، وفيما ينظر العراقيون الى المترجم برجاء من اجل ان يوصل معاناتهم لنا نحن الجمهور الذي يمثل لهم العالم الآخر يجد هذا الشاب نفسه واقعا في شرك الدور الذي رسم له في ان يكون وسيطا لنقل اوجاع الناس ونتابعه وهو يصارع ويجاهد من اجل ان يسد ثغرات الاختلاف في اللغة والثقافة والفهم والعاطفة والالم وان يقلص البون الشاسع بين المستجوبين والمستجوبون وربما يكون هذا هو الوتر الذي لعب عليه المؤلفان والذي قدماه في هذا العرض على اكثر من مستوى. وقد لعب المترجم شهيد دور المهدئ من روع المشاهد حيث كان الى جانبه منذ البداية واخذ بيده وهو يدخله الى هذا العالم العجيب المرتبك بالعواطف والمبادئ والفخر والضيافة والكرم والمرح والحزن والغضب ولم يجد افضل من المزاح والنكات التي تلطف هذا الجو الملبد بالحزن، فقد اخبرنا عن واحدة من نكات العراقيين التي كانوا يتداولونها قبل الحرب عن الرجل الذي ذهب ليصلح جهازالتلفزيون وعاد ليجد ان المصلح قد لصق له صورة صدام حسين على الشاشة،وعندما اعترض قال له المصلح :وهل سترى شيئا غير هذه الصورة لو صلحت لك جهازك؟ لكن هذه الضحكات التي كانت تعلو في المسرح سرعان ما تخفت وتختفي نهائيا ويحل محلها صمت مطبق ونحن نتابع حكايات الناس الذين تركوا دفء البيوت وامان الوطن وحلاوة العيش بين الاهل ليصبحوا لاجئين، فهذا رفيق طبيب الجلدية المرح الذي ينحدرمن اسرة ثرية يتحدث عن حمق بوش او ربما خبثه وهو يعلن في التلفزيون قائلا: سوف نحارب ابناء القاعدة على ارض العراق، ويقول مخاطبا الجمهور : اليست هي دعوة للارهابيين كي يأتوا الى العراق ويقتلونا؟ ثم يتحدث هذا الطبيب عن بيته الفخم في العراق والمسبح والرفاهية التي كان يعيشها، ثم تتغيرملامح وجهه ويغادره المرح وهو يتذكر ايام الحرب الاولى وكيف كان عليه ان يبقى في المستشفى ويوصل الليل بالنهار ليداوي الجرحى الذين امتلأت بهم المستشفيات ويقول وهو يسأل الجمهور بسخرية: هل تعرفون لماذا اخترت التخصص بالامراض الجلدية؟ ثم تتقلص ملامحه وهو يجيب على سؤاله بمرارة : لاني اكره الدم. واذا بي اجد نفسي غارقا في دماء الناس.

للاحزان وجوه متعددة
وتتوالى الحكايات التي يسردها الممثلون باللغة الانكليزية الركيكة مع بعض المفردات العراقية (اغلب الممثلين من اصول عربية) فهذا الطباخ يحمل صور بيته في بغداد،وكيف بناه بمساعدة الاصدقاء والجيران وحول غرفه الى الوان يتراقص فيها الازرق مع الوردي والاصفر، ثم تبدأ دوامة الحرب وتاتي الميليشيات المقنعة لتطلب منه ان يزودهم بمعلومات عن جيرانه وينتفض غضبا وهو يتذكر تلك الايام ويقول مخاطبا الجمهور : كيف يمكن ان اشي بجيراني، لقد ساعدوني في بناء بيتي، كيف اكون جاسوسا عليهم، الموت اهون علي من ذلك، وطبعا لم يجد امامه سوى الهرب هو وزوجته الى الاردن كي لا يتعرض للابتزاز، ثم يأتي دور المخرج المسرحي وزوجته الرسامة وكانا قد استلما من الامريكان مبلغا من المال لاقامة مهرجان فني، فاذا بهما وجها لوجه امام بعض من يريد تصفيتهما لانهما يتعاطيان الفن.. وباموال امريكية ! يعدها تتحرك الام المسيحية الى مقدمة المسرح وتواجهنا بحكايتها المحزنة، فقد ذهبت مع زوجها وامها وشقيقتها الى المستشفى لتلقيح وليدها الرضيع، فاذا بقنبلة تنفجر وتحول احبابها الى اشلاء، وهذا الصيدلي من اهالي الفلوجة الذي يكون شاهدا على قتل ابن شقيقه الشاب دون اي ذنب او جريمة، فيقول مخاطبا الجمهور: هل تقبل حضارة ومدنية امريكا ان يقتل شابا دون محاكمة او قضية او تهمة او جريمة،هل يفعلون مثل هذا في بلدهم، واخيرا يأتي دور رجل الدين المسن الذي يروي تجربته في سجن ابو غريب الذي دخل اليه ظلما وكيف ان كلمة واحدة لا تروق للسجانين كفيلة بادخاله الى عالم من الجحيم وكيف كانوا يحرمونهم من الطعام والنوم ويملأون المكان بضجيج الموسيقى الصاخبة والانارة القوية التي تعمي العيون وتربك الانسان فلا يعرف ان كان الوقت صباحا او مساءا وكيف كانوا يتفرجون عليهم وهم يدخلون دورات المياه.، ثم يقول بقرف وبلهجة عراقية : زبالة،لكن المترجم يصمت ولا يترجم لجمهوره هذه الكلمة.

اللعب على ثنائية الظل والضوء
لعب الكاتبان في هذا النص لعبة ذكية تعينهما على ضخ هذه الحكايا الست الموجعة، فقد اخذا الجمهور في البداية الى عالم من المرح كي يشعر بالراحة والاستئناس والتعاطف مع هذه الشخصيات التسع التي تقتسم خشبة المسرح ثم يبدأ بعدها سيل القصص التراجيدية التي لا تترك لهم خيارا سوى الشعور بالمسؤولية وربما حتى الذنب عما جرى ويجري في هذه البقعة من العالم التي تحتضن اقدم حضارة وتستحق افضل مما يحدث لها،انها وثائق حقيقية وما يزكي مصداقيتها ويدعمها هو ان من يقدمها على المسرح هم الامريكيون انفسهم وهم من يثيرون قضايا الظلم واللاعدالة التي ارتكبها الجنود عند دخولهم الى العراق سواء بايديهم او بسبب تداعيات حربهم على هذا البلد فكل عراقي لاجئ قد عانى بطريقة لا يمكن تخيلها لاغلب المتفرجين الذين كانوا جالسين على المقاعد فالمسرحية ليست بصدد مناقشة شعار التحرير الذي رفعته الحرب بقدر انشغالها بسرد القصص الانسانية الفردية لمحنة هؤلاء الناس المنسيين الذين حولتهم المسرحية الى شخوص من لحم ودم والذين لا ينكرون اوقات الرعب والظلم التي عاشوها قبل الحرب ولكن محنتهم مع التفجيرات والموت كانت اكبر حيث وجدوا انفسهم بين جحيم القنابل الامريكية ونار الارهاب الذي اخذ في حياتهم اكثر من لون وشكل. وقد كتب النص بحرفية عالية ولم يقع في فخ الجمل الطويلة المملة بل جمع شهادات اللاجئين العراقيين في الاردن وترك للشخصيات الحرية كي يقولوا حكاياتهم التي مازالوا يعيشونها والتي لم تتحول الى تاريخ بعد. انها من المسرحيات الاستفزازية التي تشعرك بالذنب وتحزن قلبك وتقلق مشاعرك وقد اجاد الممثلون في اداء ادوارهم وقدموا للجمهور البريطاني الفرصة كي يسمع شيئا مختلفا عن الاخبار التي تأتي عن حرب العراق ولا تحمل سوى الارقام فقد اجتهدت المخرجة والكاتبة جيسيكا بلانك في مسرحيتها التي كانت قد قدمتها للمرة الاولى في نيويورك عام 2009 واجادت في الضرب على وتر التناقض وقدمت ثنائية الضوء والظل والسوداوية والفرح فهي لا تصادر المستقبل ولا تقتل الامل فهؤلاء الناس مازالوا يعشقون وطنهم رغم مرارة تجاربهم حيث تدمع عينا احدهم وهو يقول : لا شئ يملأ عيون اللاجئين بالدموع مثل كلمة بغداد، ويقول آخر : ان حب بغداد يجري في دمي، وفيما كان يتحدث الطباخ عن مأساته كانت عيناه وعينا زوجته تتوزعان ما بين الجمهور وشاشة التلفزيون التي تعرض مباراة لكرة القدم بين منتخبي العراق واستراليا، وفجأة يحرز العراق هدفا فيضج اللاجئون بالفرح والتهليل والتصفيق.. فهذا البلد مازال قادرا على احراز الاهداف رغم كل المرارات.