علي النجار ـ مالمو: أمستردام المدينة المعجزة بمياهها التي رسمت خريطة اليابسة. مدينة المعمار والفنون والعلوم هذه هي أيضا مدينة السياحة (جنس ومخدرات رسمية وسياحة فندقية) تبادلت احيازها العجائبية وسامة اللوحة، المنحوتة و فضاءات التشكيل الأخرى التي ازدادت غرابتها بما تحمله من إمكانيات لتصعيد خطاباتها
إلى نهاياتها المتقدمة أو المتطرفة ومع ذلك فإنها مقبولة بحدود مجال دهشتها. تحضر هذه المدينة في عرض الفن التشكيلي لهذا العام، لا بمنشاتها المدينية ولا بمسطحاتها المائية، لا بأزقتها العجائبية، ولا بآثارها الحضرية. لا بأسواقها ولا بمضاربات بنوكها. لا بمتسكعات زوارها، ولا بجدية وحيوية أناسها وحتى في فنتازياتهم. بل تحضر بكل ذلك ومن داخله وخارجه في نفس الوقت. فعرض هذا العام ليس كسابقه للعام الماضي الذي ضربته هزة الضائقة الاقتصادية كما أتصور. بل بمعافاة سوقه الذي يحاول أن يتعدى نتائج إضراره التسويقية. عرض هذا العام أيضا ليس كسابقه العام الماضي. فالمدينة حاضرة بقوة إيقوناتها الأستيتيكية الحداثية ونقيضها الشعبي الكرافيتي. لقد تحولت غالبية العروض إلا ساحة مباراة للدخول إلى فضاءات هي أصلا لم تكن في البدء عمومية كما هي الآن. فضاءات منتزعة من رحم المدينة الضاج خدرا وجنسا واعتراضا واهتزازا. خليط من أجناس فنية أفرزتها أجناس مدنية متنوعة ضمن مساحة مشاعة لا على التجريب (بما انه تعدى منحاه التجريبي) وإنما للاختراق والرصد والتمتع والتسلية عبورا لانتفاء كل التابوهات التي ظلت معششة في مساحتها المشرقية.
عرض أمستردام التشكيلي لهذا العام هو العرض التاسع والعشرون و استمر كما معهوده لأربعة أيام فقط (من 26 إلى 30 مايس) وساهم فيه (126) قاعة عرض بإضافة لواحد وعشرين قاعة جديدة عن العام الماضي. شاركت فيه عروض قاعات من كل من بلجيكا، فرنسا، انكلترا، ألمانيا، الدانمرك وكوريا الجنوبية. احتلت هذه العروض مساحة بارك راي أمستردام (المخصص للعروض الصناعية وغيرها). ومن قاعات العروض الخارجية التي ساهمت في هذا العرض نذكر: قاعة فيكاس (1) وقاعة شارل سميث من انكلترا، لوكوسلوكس من بلجيكا، هارتويج روكن و دي ارجوليوس من ألمانيا، و سي سبيس من الصين.
كتلوك العرض المميز لهذا العام احتوى صور أعمال لسبعة فنانين من الولايات المتحدة، ثمانية عشر من ألمانيا، أربعة من انكلترا، ثلاثة من كل من سويسرا وبلجيكا. واثنان من كل من الصين، ايطاليا، اليابان، فنلندا، السويد،الدانمرك، إسرائيل، ايطاليا، اسبانيا. وفنان واحد من كل من اندونيسيا، رومانيا، سلوفاكيا، فنزويلا، البرازيل، النمسا. كوريا، جنوب أفريقيا، تركيا. وبولندا. علما بان عدد الفنانين وانتماءاتهم الوطنية يتغير من عام إلى عام وحسب مجهود قاعات العرض الذين يشكلون جزأ من كوادر عروضها. أما صور أعمال الفنانين الهولنديين فقد بلغت ثلاث وستين صورة. أهمية هذا الكتلوك هو في وجود المدونات المرافقة لصور عروض القاعات كاشارت توضيحية رغم اختزالاتها إلا أنها تحافظ على وثائقية مناطق اشتغالات المعروضات. ولنستشهد بهذا التعليق المقتطف من الصفحة المخصصة لعرض احد القاعات (2) والذي ورد فيه: (لا للرسم، لا للفيديو، لكن للتوازن فيما بينهما) عن عرض مشاريع مختلطة الوسائط الميديوية.
بنية العرض، بما خصصته من مساحات عرض موحدة (25 متر مربع) مفتوحة على كل الاحتمالات. من عروض الاختلاط الميديوي (الوسائط المتعددة) إلى الفلم الفيديوي والأداء الجسدي المصورة (رغم قلته)، والتجميع والتركيب وما شابه وما افترق. وان دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على لا محدودية المظهرية التشكيلية (التصور والأداء) للعروض الحالية لقاعات العرض الفني الأوربية والعالمية بشكل عام. فسوق الفن (وهو هدف العرض) يغطي هنا جوانبه المتعددة. إذ لم تعد اللوحة المرسومة ولا المنحوتة أو الفخارية (مألوف التشكيل السابق) تشكل العصب الرئيس لهذا السوق. فاهدافة مفتوحة على كل التجارب حديثها ومعاصرها. فرديتها وجماعيتها، تقليديتها وتشضيتها لرؤى وتجارب واداءات أساليب الميديا وأدواتها مثلما جديد الاكتشافات الفضائية المعمارية والصورية والرقمية ومثلما أيضا هي إفرازات زوايا الشوارع المهملة والمهمشةrsquo; كما هو الحال في اختلاط وتجميع وبعثرة انشقاقات ثقافة النخبة والشارع المحيطية والجنسية والبيئية واختراقات منعطفاتها السياسية. عرض كهذا لا بد للفنانين المغتربين القاطنين هنا من مشاهدته، لكن وكما يبدو ومن خلال زيارتي له ولأكثر من دورة لم أشاهد فيها أثرا لفنانينا التشكيليين العراقيين والعرب عموما المقيمين في هولندا وما جاورها الذين يملؤن فضائنا ضجيجا إلا ما ندر ويبدو أن ولعهم التجريبي وهو زمني في طريقه للانحسار إن لم يكن انحسر أصلا عن تجارب غالبيتهم التشكيلية. والتجريب هو عصب التشكيل المعاصر.
الحدث الفني الأكثر وضوحا في هذا العرض اعتقده يتمثل في أعمال الفنانين الشباب (دون الخامسة والثلاثين) وبالذات عروضهم التشكيلية بمصادرها الكرافيتية التي شكلت الظاهرة الأبرز لهذا العرض. وفن الرسم الكرافيتي ليس وليد يومنا هذا لكنه وبعد أن صنع شهرة (جان ميشيل باتيست ) الأمريكي في ثمانينيات القرن الماضي من خلال ولعه الحائطي وهو الشبه مشرد، ولعه في تدوين اسمه وعلاماته وشخوصه البدائية المسترجعة من أيام طفولة شواطئه المارتينية وهو المغترب المزدوج الجنس والبيئة (أب فرنسي وأم مارتينية). ما فعله هذا الفنان الشاب بعد اكتشافه لم يتعدى استبداله الحائط بقماش الرسم وبكل تلقائية معرضة للإضافة والشطب وباللحظة المعاشة على شفى الهاوية التي ابتلعته مبكرا.لقد ترك هذا الفنان الشعبي (هو الآن من اهتمامات صفوة الفنانين الشباب المجددين المعاصرين) بصمته الأسلوبية مفتوحة على الاحتمالات الأدائية المتعددة صنعة للمتمردين سواء الهواة منهم أو المحترفين وبنوايا التأسيس لمناطق تعبيرية تخترق مجالات عديدة ومنها التدوين ألحروفي والعلاماتي الايقوني وتنوع أدواته الصباغية والطباعية والإنشائية. لقد فقست بيضة الكرافيت في اعتم الأزقة للمدن الأمريكية والأوربية الكبرى وللتطاول على مساحات محظورة عليها ولتشكل هاجسا ممضا لإداريي هذه المدن للحد الذي لم تنفع معه كل وسائل حضرها. وأخيرا لتدخل هذه التجارب الكرافيتية صالات العرض كنافذة مفتوحة على الثقافة المدينية في مستوياتها الدنيا والعليا وتحقق دمقرطة الفن ونوعا من اجتماعية هامشية.
لم يكن التقاء فنان البوب (الشعبي) الأول في الولايات المتحدة ( اندي وارهول) باتيست عبثا ولا عن نزوة فكلاهما يكمل الآخر. وارهول بأصول نشأته الأوربية الأولى ومهاراته التصويرية والإخراجية (رغم فنتازياتها) والطباعية، ومواضيعه المنتخبة من صميم السلعة الاستهلاكية الشعبية والدعائية. وباتيست بعفويته الطفولية وثقافة رموز الشارع وموروث علاماته الشعبية والخيالية الكامنة في مخيلته. استطاع الاثنان أن يصنعا ببعض من اختلاطات وافتراقات أعمالهم ذائقة تشكيلية جديدة ومجددة نأت عن برج التشكيل العاجي لتدخل فضاءات عمومية اجتماعية جديدة. ولتشكل بعض من ملامح الفن الاجتماعي (السوسيال أرت) إضافة لشعبية جذرها. ولتدخل اختلاطات هذين الفنانين مجال الرؤية وتنوع التنفيذ من قبل أجيال تشكيلية عالمية متمردة. لكن وفي مدينة مثل أمستردام. هل يبقى اثر هذين الفنانين مستنسخا كما هو بما انه يتوافق ومسيرة فن

الشارع الكرافيتي. ما نشاهده في عرض الراي هذا لا ينكر ولا يؤكد ذلك. فكل شيء مباح للفنان الشاب المعاصر بالذات. وان وجدت في أعمالهم جزئية من هذا أو ذك فهذا لا يعني أن نرسخ مفهوم الاستنساخ في هذه الأعمال. فالأثر يبقى أثرا خاضعا للمعاينة والإحالة لمناطق عديدة مثلما هو خاضع لتفكيك جزئياته وإعادة بثها صياغات مستجدة بفعل زمني يتعدى ثباته. لقد سالت الألوان وتسللت مساراتها عبر الجدار وأرضيته. وتم الكشف عن حجب التابو ولم يعد للجسد من قداسة أو كتمان كما لم يعد للشخوص من حصانة رموزها أو ارثها سوى الإباحة عما خلفته من سقط متاع يوازي ارث تبجحها. لقد ولد الإنسان هنا عاريا ولا تعني عورته من شيء سوى كونه كائن لبون حاله حال بقية المخلوقات. لكنه لا يزال مدان لأثمه ولا غفران له إلا عري أخطائه ومصائبه. والكرافيت بمبتكراته الثقافية الجديدة يقدم الحساب لكل اعتراضاتنا وهامش حريتنا ويكشف عن حرج خصوصياتنا. وشباب الفنانين هم أولى منا بثمرة نتاجاته لأنهم مبتكريها وهم الأقرب إلى عصر التقنية المختلطة والثقافة الهجينة إن لم يكونوا صناعها الاجتماعيين في نفس الوقت وعلينا أن نتابع نتاجاتهم لا بمقاسات الأثر الحديث للنصف الأول من القرن الماضي، بل بما تحتكم إليه إفرازات الميديا وخطوطها السائلة وشبيه أساليبها التي ترافقنا كظلنا.
في العام الماضي وفي نفس أيام مناسبة هذا العرض وحينما كنت أتجول في أزقة أمستردام دلفت إلى قاعة عرض غريبة (3). هي ليست كقاعات التشكيل المعروفة التي تكتظ بها هذه المدينة. بل هي اقرب إلى المخزن أو (الخان) بصف أعمدته وسعة مساحة فضاءه المستطيل الداخلي وارتفاع سقفه. هذا الفضاء المتقشف رقشوا الفنانين الشباب وحديثي التجربة الفنية (كما يفهمها معظمنا) جدرانه مباشرة احيازا لا تتعدى المتر المربع لكل منها. وامتلأت الجدران من الأسفل إلى الأعلى رسوما استعاضت عن الإطارات التقليدية برسمها بزخارف متنوعة حد الغرابة (لكثرة عدد الرسوم). امتازت تقنية هذه الرسوم ما بين المظهرية الكرافيكية والكرافيتية والتعبيرية البدائية والواقعية التقليدية والفنتازية. لكنها عموما لا تتعدى الطابع الكرافيتي التنفيذي. بالتأكيد مشروع كهذا يفتح المجال أمام التنافس التجريبي الشبابي. لكنه كعرض قاعة لا اعتقده يغطي تكاليفه بدون دعم من جهة ما، فأنت لا تستطيع حتى فصل الرسم عن الجدار، كونه مرسوم مباشرة عليه. ثم تفاجأت بدخول هذه القاعة عرض راي أمستردام وبشكل مثير في بعض من عرضها (مشروع ـ دكتور فاوست) الذي تمثلت فيه كل المواصفات التي ذكرناها. وان كان استفهامي كبيرا عن مغزى العرض الأول، فان العبرة في انتظار نتائج هكذا عروض لتأخذ طريقها للشهرة والاحتراف والتسويق، لكن ليس بعيدا عن ولع الفنان التشكيلي الثقافي المحيطي وذائقته الخاصة التي علينا تقبل عموميتها.

لقد مثل هذا العرض طبيعة الواقع التشكيلي للعروض المغلقة (قاعات العرض الخاصة). عروض الفن الجديدة التي هي في طريقها إلى الانعتاق من احيازها المغلقة حتى لو احتوتها جدران العرض ولم تعد كما كانته سابقا. رغم كون هذا الأمر لم يكن جديدا بشكل مطلق، لكنه يستدعي وقفة لمعرفة محركات هذه الظاهرة وسط هاجس الكسب المادي الذي تطمح له إدارات هذه العروض. فالظاهرة هي التي قادت وسائل التنظيم لتحتويها لكي لا تبقى متخلفة عن تفاصيل حراك التشكيل الذي تجاوز مساحات هذه العلب المغلقة. هذا ما يفسر لنا كم مشاريع العروض التشكيلية المختلطة الوسائل والتصور وحرية تمدد أشكالها وأجزائها ضمن احياز السقوف والجدران والأرضيات. بل حتى محاولاتها لتغيير شكل حيز العرض بإنشاءات مغلقة أو مفتوحة مختلفة. الأحياز المخصصة في هذا العرض الجماعي رغم محدودية قياساتها إلا أن غالبية عروضها تحولت إلى فعل انزياحي لأشكال وطرق وهيئات العروض التقليدية وكما كانتها سابقا. فعل التغيير هذا لم يكن بدافع الإدهاش، ولو شكل الإدهاش جزء منه، لكن واقع المتغيرات التشكيلية هو الذي فرضه. فالعمل الفني المعاصر وهو يتجاوز سابقه يلتقط كل المبتكرات الصورية والتقنية ويتشكل عبر وظائف الفكر ووسائل التنفيذ التي تتوسع أدواتها باستمرار. لقد تعددت وسائل تقنية الكرافيك، كذلك التصميم وعمل المجسمات النحتية وموادها أو أشباحها الضوئية وتفككت المشهدية الواقعية وتداخلت جزئياتها ثم تبعثرت أو تشظت آو تفككت واختلط الواقع بالخيال داخل ـ خارج المحيط وجغرافيا النفس وبات للهوس سطوة كما هو صفاء الذهن وواقعية محيطه. ان كان العديد يقر بان التشكيل

والفن عموما فقد بوصلته المستقبلية. فإنني وبرأي المتواضع أرى بان ليس هناك من بوصلة ليسترشد بها الفنان الفرد مادام لا يزال يشكل جزأ من محيطه العضوي المتحرك. وان كان ثم وضوحا أسلوبيا أو حراكا تشكيليا حادا وعناوين متميزة في بداية القرن العشرين، إلا أن علبة السحر بعد أن فتحت ومنذ ذلك الزمن فالسحر لا يزال يؤدي مفاعيله الادهاشية ولا يزال على تماس وذواتنا بل لا يزال يتشضى داخلها ويصعب لملمة مبثوثاته فإنسان اليوم لم يعد بوهيمي الأمس ولم تعد الهزة جماعية كما كانته كل الهزات الإيديولوجية ويبدو أننا في طريقنا للتشضي كنقاط وجزئيات الميديا السائلة. والتشضي لا يعني إلا جزئيات متناثرة ومتكاثرة وحرية اختيار الزوايا متاحة للجميع ولا معذرة للنخبة، والنخبة التشكيلية إن استحوذت ومنذ أزمنة سابقة على وسائلها التسويقية ومحركاتها الذوقية بمساعدة مؤسسات خاصة. فالتشكيل وبمواصفات هكذا عروض (أمستردام راي) وبعيدا عن أهدافه التسويقية يبقى نافذة متجدد هوائها ومشرعة على الفعل الجمالي والثقافي والاجتماعي. هذا هو فن اليوم في عينته أو إحدى زواياه الجغرافية وما أكثر زواياه وغناء تنوعها.