محمد الحمامصي من القاهرة: شريف رزق أحد أبرز شعراء الثَّمانينيات في مصر، أنجز مجموعةً من الدواوينِ الشِّعرية، وأحتفي به نقديا منذ إصدار الأول quot;عزلة الأنقاضquot; 1994، فكتب د.حامد أبو احمد أنه قدم قصيدة نثر حقيقية، ذات طبيعة مختلفة، وعالم شعرى مختلف، بوعيٍ شعريٍّ عميق بأبعاد التجربة الشِّعرية لقصيدة النثر، وكتب خيري شلبي أن له مذاقا خاصاquot;هذا المذاق ينبع من طبيعة الثَّمرة الشعرية التى ينتمي إلى فصيلتها، أو تنتمي إليه، وهى ثمرة لا شك ذات نكهة رصينة أقرب إلى لذعة الكولا، أو ثمرة الكرز الناضجة سرعان ما تنجاب لذعتها عن شعور بالانتعاش، وقد توالت بعد ذلك مجموعاته التي أكدت أصالة تجربته منها quot; لا تُطفئ العتمةquot;، quot;مجرة النهاياتquot;، quot;الجثة الأولىquot;، quot; حيوات مفقودةquot;.
ومن جانب آخر أنجز شريف رزق مجموعة من الدراسات النَّقدية؛ التي تُؤصِّلُ لمشروع قصيدة النَّثر العربية، منها quot; شعر النَّثر العربي، في القرن العشرينquot;، quot; قصيدة النَّثرquot;، quot; آفاق الشَّعرية العربية لجديدة، في قصيدة النَّثرquot;، وقد تُرجمتْ أشعارٌ له إلى الإنجليزية والفرنسية، وساهم في تحرير مجلة (الشِّعر) ndash; مع خيري شلبي ndash; فيما بين عاميْ 1993- 1998، وهو عضو اللجنة التَّحضيرية لملتقى قصيدة النثر، ومقرر اللجنة العلمية به.
* استُقبلَ ديوانك الأول quot; عزلة الأنقاضquot; بحفاوةٍ كبيرةٍ؛ ما أبرز ملامح هذه التجربة التي استُقبلت بهذه الحفاوة؟
** quot;عزلة الأنقاضquot; لم يكن مجرد قصيدة نثر، وإنما اشتغل هذا الديوان على إحدى أبرز آليات ما بعد الحداثة وهى التفتيت والتَّشظي؛ فالنَّص يتشكَّل من مجموعة نصوصٍ، كلّ نصٍّ منها يتشكَّل من نصوصٍ صغيرة، على شكل يوميات صغيرة، تنتهي بتواريخ، وهناك مستوى آخر للتشظي، يحدث داخل الجمل عن طريق تقنية المونتاج والديوان بشكلٍ عام عكس جماليات المرحلة التاريخية التي صدر فيها، جماليات الانهيارات والتَّشظي، والتفتيت، ومن هنا اتَّخذ خصوصيته كما أشار كثيرون، وقد ترجم بعض نصوصه د. محمد عناني و د. ماهر شفيق فريد.
** في ديوانك الثَّاني quot;لا تطفئ العتمةquot;، قدمَّت تجربة مختلفة أخرى، جعلت محمد إبراهيم أبو سنة يكتب عنك : quot; أدهشتني قدرتك التعبيرية وامتلاكك لخيال قوي وجيشان شعريّquot;، فما أبرز آلياته الشِّعرية؟
** في هذا الديوان تجاورت المنولوجات الشِّعرية والسَّرد الشِّعري، وتداخلتْ، في نصوصٍ جمعت بين شعرية quot;الشِّعر الحرّquot; وشعرية quot; قصيدة النَّثرquot;، في بناءٍ سرديِّ دراميٍّ.
** لكنّ ديوانك quot;حيوات مفقودةquot; جاء مختلفًا عن هذا المسار؟
** quot;حيوات مفقودةquot; يُمثِّل مرحلة ما بعد قصيدة النَّثر، هو نصٌ شعريٌّ جامعٌ، يتضمَّن مجموعَ أساليب شعرية مختلفةٍ في بنائه، ويستثمر فضاءَ الصفحةِ للعديد من الأصوات الشِّعرية، بأبناطٍ طباعية مختلفةٍ.
** إذا كان مشروعك الشّعريّ يتمتع بخصوصية تُميّز صوتك عن أصوات الآخرين، من حولك، كما قيل عنك، فمن أين يكتسب مشروعك النقديّ عن قصيدة النَّثر خصوصيته؟
** منذ أكثر من عشرين عامًا أعكف على استجلاء آليات هذه الشّعرية الجديدة، وكان من ثمرته كتاب quot;شعر النّثر العربي في القرن العشرينquot;، استقصيت فيه بداية الكتابة العربية شعرًا بالنَّثر، اطّلعتُ على شتّى النّصوص في أصولها، وما أحيط بها من رؤى ونظريات، رصدت تحوّلاتها المفصلية، عبر القرن العشرين. وفى كتابي quot;قصيدة النّثرquot;، درستُ فيه نظرية قصيدة النَّثر العربية : إشكاليات النّوع الشّعريّ فيها، وشعريتها، ومشكلاتها وفي كتابي quot; آفاق الشّعرية العربية الجديدة في قصيدة النّثرquot;، تابعتُ استجلاء تحولات المشهد الشّعري لقصيدة النَّثر، وتوقَّفتُ طويلاً أمام ظاهرة تداخلات الأنواع الأدبية والفنية في قصيدة النَّثر، إنه مشروع كبير، وهذه حلقاتٌ ثلاثةٌ منه، ولديَّ حلقاتٌ أخرى.
** إذن الشاعر والناقد شريف رزق كيف يرى مشهد قصيدة النَّثر الراهن؟
** قصيدة النثر الآن خريطةٌ شعريةٌ جديدةٌ،تشتمل على مجموعةٍ كبيرةٍ، من التَّيارات والمسارات الشِّعرية المختلفة، تتخطَّى ndash; في مجملها ndash; ملامح قصيدة النثَّر السِّتينية ndash; التي أنجزها عبَّاسي بيضون وبول شاوول وسليم بركات ورفاقهم ndash; قصيدة النَّثر الحالية تنقطع عن هذه الشِّعريات ذات المرجعيات الغربية، في غالبها ndash; قصيدة النَّثر الحالية، توجد في فضاءٍ موجود بالفعل، بعد أن تجاوزت إشكاليات البدايات التأسيسية، وقلق النَّوع الشِّعريّ الجديد، والبحث عن آليات جديدة، القصيدة الراهنة تبدأ من الراهن، من الخاص، من سرد اليومي المعيش الخاص، من الإنساني الحميم، من الذات الفردية؛ لا الجمعية، من الحياة الحقيقية للكائن الإنساني، ومن مشاهدها الدالة، ويجب أن نُشير إلى أن من الجيل السَّابق شعراء تنتمي تجاربهم إلى حساسية وآليات هذه القصيدة، ومنهم: بسام حجَّار، ووديع سعادة، ورياض الصَّالح الحسين، ومنذر مصري.
وهناك وَصَفاتٌ ثلاثة هيمنت على مسار قصيدة النَّثر العربية، منذ نصف قرن؛ الوصفةُ الفرنسيةُ، التي ازدهرت تحت مظلَّة مجلة quot;شعرquot; اللبنانية، في ستينيات القرن الماضي، ووصفةٌ أخرى اعتمدت مفهوم الشِّعر عند آخرين؛ منهم ريتسوس ورينيه شار وسواهما، وقد ازدهرت هذه الوصفة لدى شعراء السَّبعينيات، ومنذ التِّسعينيات سادت وصفةٌ أخرى، انتشرت في خريطة الشِّعر العربية؛ تعتمد على التُّوسع في استخدام التَّفاصيل اليومية المعيشةِ، ومجانبة الرؤى الكُلَّية، واستنفاد طاقات السَّرد، وحيادية الأداء اللغوي، وقد انتشرت هذه الوصفة لدرجة أنها حولت الشُّعراء ndash; أحياناً- إلى مجموعةٍ من الجنود، يرتدون زيًّا موحَّدًا، لا تستطيع أن تُميِّز منهم أحدًا. والشِّعر دائمًا ndash; صوتٌ خاص، والتجربة الحقيقية دائمًا خاصة، ودائمًا هذه الوصفات الجاهزة تحتاج إلى مَن يتخطَّاها.
** اللحظة الشعرية الراهنة تمتلئ بدواوين قصائد نثر، والقليل منها مهمٌّ بحقّ؟
** أنت تُشير إلى أزمة الشِّعر، هنا، أليس كذلك؟ الأزمة موجودة، في كل شيء، وليس في أيِّ نوعٍ شعريٍّ فقط، ولا ينفيها مؤتمرٌ هنا، أو هناك، أو ملفّ هنا وآخر هناك، الرواية أيضًا القليل منها هو المهمّ، والنَّقد في أزمةٍ أكبر.
** كيف ترى أزمة النَّقد، إذن؟
** إنَّ مشهد النَّقد الراهن أشدّ بؤسًا، وفي الغالب يأتي إما انطلاقًا من عقيدةٍ سلفيةٍ أو تماهيًا مع نظرياتٍ غربيةٍ تُفرض على النصوص، ويبحث عن ما يؤكدّها، ولا تستطيع أن تطمئن إلى أن بعض الأسماء الكبيرة نُقَّاد بحقٍّ، مثل جابر عصفور، وصلاح فضل، عبد المنعم تليمة، وعبد الملك مرتاض، وعبد الله الغذامي .. فماذا قدَّم هؤلاء، وأمثالهم، من نقدٍ حقيقيٍّ يتواشج مع ما يمور به المشهد الأدبيّ ؟ إذا شئت الدقة فهم باحثون، عارضو نظريات؛ على نحو أدق هم عارضو أزياء نقدية.
** وما رأيك في حاضر قصيدة التَّفعيلة؟
** قصيدة التَّفعيلة شكلٌ شعريٌّ جديد؛ كقصيدة الشِّعر الحرّ، وكقصيدة النَّثر، وللأسف فإن محنة قصيدة التَّفعيلة لا تقلّ عن محنة quot; القصيدة العموديةquot;، المشكلةُ ليست في الشَّكل، ولكنَّنا منذ سنوات عديدة لم نقرأ شيئًا quot;جديدًاquot; بالفعل في هذين الشَّكلين، الشكل العموديّ، يُوشكُ أن يُصبح شكلاً أثريَّا، وقصيدة التَّفعيلة ترمَّلت بعد محمود درويش ومحمد عفيفي مطر، هوى طائرُها بعد سقط جناحاه!..
** بوصفك عضو اللجنة التحضيرية لملتقى قصيدة النَّثر، كيف ترى الانشقاق والتطاحُن الذي وصل إلى حدّ التَّجريح بين معظم أعضاء اللجنة، دون أن نسمع لك صوتًا؟
** الانقسامات حدثت لأسباب شخصية، ولتصادم التَّطلُّعات، وأضاعت الكثير من تعبنا في هذا الملتقى، أضفْ إلى ذلك محاولات إفشاله من الخارج، وهذه محنة الطَّليعة في كلّ وقت، ولكنَّ انبثاقاتها الحقيقية لا تكفّ عن البزوغ، على فتراتٍ، على أية حالٍ سنُحاول اجتياز هذا الموقف الصَّعب، خاصة والكلّ يرى محاولة سرقة الملتقى على نحوٍ عَلنيٍّ وكاريكاتوريٍّ.
التعليقات