المسرحي الجزائري حبيب بو خليفة

كامل الشيرازي الجزائر: يلتقي أكثر من صوت ركحي عند أهمية انتقال المسرح العربي إلى مرحلة quot;ما بعد الدراماquot;، وتؤشر إفادات حصلت عليها quot;إيلافquot; إلى كون اعتناق نسق ما بعد الدراما بما ينطوي عليه من أنماط فرجوية مغايرة وتعابير منوّعة، ستقود إلى ميلاد مسرح جديد يعيد النظر في مستويات الفعل والتلقي ومكونات الخشبة والجسد.

وسط كل ما يُثار عن راهن المسرح العربي، يشير الناقد المسرحي المغربي الفذ د. حسن المنيعي، إلى أنّ مسرح ما بعد الدراما كطقس يسعى إلى التغيير، من شأنه منح ديناميكية وزخما متجددا للركح العربي، طالما أنّ مسرح ما بعد الدراما يقوم في عمقه على تحويل الفضاء المسرحي إلى استمرار للواقع، وارتكاز هذا المسرح على quot;الموقفquot;، وانبنائه على قاعدة اختراق المقولات، ما يدفع المتلقين إلى الغرق في بحر علاماته.
ويتموقع مسرح ما بعد الدراما كمسرح ملموس يعرض نفسه فنّاً في الفضاء والزمن يحتفي بحضورية الممثل، وليس إطاراً يُولِّد الإيهام بحدث درامي، مادام الجسد quot; الما بعد درامي quot; هو جسد الحركة يرفض دوره كدال، ويكتفي بحضوره الذاتي مما يجعل الممثل هو سببُ ونتيجةُ حضور المتفرج: أي أن هناك حضوراً متبادلاً بينهما.
ويقول الدراماتورج الألماني quot;هانس ثيز ليمانquot; منظّر مسرح ما بعد الدراما، إنّ الأخير يعدّ ثورة ضد المسرح الدرامي التقليدي وبنياته الثابتة التي تنعكس في الوحدات الثلاث وفي نطاق نصي تنتظم معه الخشبة كإطار ينتج عالما تتحدد فيه الحياة حصريّاً عبر تفاعلية الأفراد، على عكس مسرح ما بعد الدراما الذي يجعل الحدود بين الواقع والمتخيل.

الناقد المغربي حسن المنيعي
وإذا كان مسرح ما بعد الدراما هو quot; كوراغرفيا quot; Chora-graphie (مصطلح سميوطيقي يحيل على ثالوث المنطق والمعنى والتراتبية) كما يقول هانس- ثيز ليمان أي quot; كتابة بالفضاء والزمن والجسد لا بالنصquot;، فإن المخرجين العرب قد تحولوا في الغالب إلى منتجي كتابة شبيهة بما تفترضه الكوراغرافيا.
ويربط المنيعي ذلك بحرص المخرجين العرب على إنتاج فرجات تقوم على فنيات الأيقنة، وتجسيد الملفوظ الدرامي بالصورة والرقص والموسيقى، والإنارة، وابتكار الفضاءات الحركية البسيطة والمركبة التي تُتيح للممثل الابتعاد عن الأداء السكوني، واستثمار جسده وموهبته في الارتجال، كما تدفع الجمهور المتلقي إلى ممارسة قراءة متعددة للإنجاز المسرحي وإلى تفكيك عناصره.
ويرجّح د. المنيعي، قابلية مسرح ما بعد الدراما للنجاح عربيا، منوّها بتجارب quot;متمردةquot; برزت منذ سبعينيات القرن الماضي، وأكّدت بحسب الناقد المسرحي الجزائري quot;أبو بكر سكينيquot; أنّ مواصفات ما بعد الدراما تنسحب إيجابا على الممارسة المسرحية العربية، وهو ما يؤيده مواطنه المخرج د. حبيب بوخليفة.
ويلاحظ المنيعي إلى محاولة عديد المسرحيين العرب إلى تجاوز المسرح الدرامي الذي يجعل من النص بنية عميقة ومحتوى رئيس لفن الدراما، وتعويضه بكتابة جدولية تقوم على مشاهد ولوحات تطرح العديد من المواضيع والقضايا في أماكن متعددة وأزمنة مختلفة، وتركز على الشخصية باعتبارها أداةً فاعلة في منظومة العرض.
ولعلّ التطور الذي عرفته منظومة الإخراج، هي التي جعلت المسرح العربي لما بعد الدراما يتعامل مع فنون أخرى كالسرد، والحكي، والتشكيل، والكتابة الشذرية، والفيديو الذي أصبح كما يقول جورج بانو quot;شريكا درامياquot;، حرّر الكواليس من سكونيتها ودمجها في الخشبة، على حد تعبير المخرج المسرحي الألماني فرانك كاستور، للحيلولة دون انسلاخ الممثل عن الدور المؤدى.
ويسجّل حسن المنيعي أنّ استعمالات المسرحيين العرب لواسطة الفيديو، اقتصرت على توظيفه كتقنية لتجويد العرض بلقطات سردية مصورة لها علاقة بالموضوع الرئيس للمسرحية وخصوصاً بمشاهد خارجية لا يمكن تجسيدها فوق الخشبة.
كما لاحظ المنيعي في دراسة قيّمة قارب فيها مسرح ما بعد الدراما عربيا، إنّ المسرحيين العرب لم يتعاملوا إلا نادراً مع وسائل تكنولوجية كالحاسوب الذي ساعد المسرحيين في الغرب على تصميم الرؤية السينوغرافية اعتمادا على الرسم الغرافيكي الذي يمكن استخراجه من برامج جاهزة.
بيد أنّ الناقد المسرحي المغربي يشيد بتجربة مواطنه المخرج المغربي الشاب بوسلهام الضعيف في مسرحيته (حياة وحلم وشعب في تيه دائم)، التي أعدها عن الكاتب المغربي محمد خير الدين، حيث استخدم بوسلهام مقاطع فيلمية وكوريغرافية، فضلا عن تصويره ومعالجته مقاطع أخرى عبر الحاسوب اعتماداً على تقنية المونتاج.
ويتفق كل من بوخليفة وسكيني مع طرح المنيعي، عن نشوء توجه مسرحي ما بعد درامي يتأرجح بين التمسك بالهوية العربية من خلال التعامل مع التراث ومَسْرَحَتِه بطرق جديدة، وبين الانفتاح على النصوص الغربية والأساليب الدرامية الحديثة ارتبط معظمها بمخرجين رواد وشباب وكذا بمخرجين/ كتاب حاول كل واحد منهم من منطلق ثقافته ndash; التي تلقاها داخل بلده أو خارجه ndash; المساهمة في بناء مسرح عربي يعتمد على ثنائية المقروء (النص) والمرئي (الفرجة المسرحية).
إلى ذلك، يتوقع المخرج والسينوغرافي الجزائري quot;عبد الغني شنتوفquot; ومواطنه الممثل quot;جمال قرميquot; أن يسهم تكثيف مسرح ما بعد الدراما في تحول شائق للمسرح العربي، خصوصا إذا ما جرى إنضاج الاختيارات الفنية لإنتاجيته وتطعيمها بجماليات إخراجية تدعم روح البحث الدائم عن وسائل جديدة للعرض المسرحي الذي أصبح يعتمد quot; الامتلاء والفراغ quot; من حيث السينوغرافيا، وعلى استثمار طاقة الممثلين وإمكانياتهم الجسدية.
وينقل المنيعي على لسان المخرج العراقي quot;جواد الأسديquot; تأكيده على أنّ من أهم التقاليد التي يعمل على ترسيخها في كل إنجاز مسرحي هو الحرص على أن يتأسس النص المسرحي من quot; روح الممثل quot;، أي من حرية أدائه التي تتحول، خلال التدريب على النص المختار، إلى بناء جسديته في إطار ارتجالية واسعة، لاكتشاف أساليب جمالية ومعرفية تخدم عملية الإخراج المسرحي.
ولا يسعى مسرح ما بعد الدراما، بحسب مهندسيه إلى تحقيق شمولية التركيب الجمالي، إنما يتطلع إلى إضفاء طابع تشذري لهذا التركيب: الشيء الذي يخول له اكتشاف عالم جديد للفرجة، وحضوراً متجدداً للفنانين، وأفقا واسعاً لتطوير مُكونات مسرح ارتكز دوما على الدراما.
مثلما لا يجب عده نَفْياً للمسرح الدرامي الذي يظل حاضراً في الأشكال الجديدة التي تتبلور انطلاقا من بنيته العامة، إنه مسرح ndash; يشرح المنيعي - لا يهتم بالصراعات بقدر ما يهتم بوسائل التعبير وتنوعها.