محمد غازي الأخرس من بغداد: هكذا يجري الأمر في الثقافة العراقية هذه الأيام ؛ السارد الذي منع من الكلام سابقا يشرع في رواية سرديته quot;الهامشيةquot; وكأنه يقوم بعمل مقدس فاتحا ملفات يظن الكثيرون أنها كانت شبه محرمة في حقبة النظام السابق. المقصود، بهذا الصدد، شيوع نوع جديد من المؤلفات يحفر ويوثق تاريخا بكرا ومسكوتا عنه، تاريخ يرتبط بجماعات محلية ومدن هامشية وفئات اجتماعية عرفت بصمتها الطويل وعدم إتاحة المجال لها لكتابة مدوناتها.
إن ذلك واضح تماما، ما عليك سوى مطالعة رفوف المكتبات في شارع المتنبي وغيره لتواجهك عشرات الكتب التي تعيد سرد حكايات الجماعات المحلية والأقليات ومدن الهوامش وفنونها وطقوسها وقصص أبنائها وكيفية صياغة هوياتهم الجديدة خصوصا بعد النصف الثاني من القرن العشرين وذلك حين ابتدأت موجة من النزوح إلى العاصمة تبدلت معها خريطة بغداد العثمانية إلى الأبد.
الحال أن ظاهرة النزوح التي نتحدث عنها كانت بدأت منذ الثلاثينيات وتسارعت في الأربعينيات والخمسينيات، وكان النازحون، خصوصا من أرياف الجنوب، خليطا من المغامرين والمعدمين والباحثين عن الأمان الاقتصادي. ورغم أن المدينة لم تلقهم بالأحضان آنذاك إلا أنهم مع هذا أسسوا مستوطنات لهم خارج العاصمة.
كانت المستوطنات الجديدة تتألف من جزر منعزلة قوامها مئات quot; الصرائف quot; الحقيرة غير الصالحة لسكنى البشر. يقول حنا بطاطو: quot; في المقام الأول، نقل الشروقيون إلى العاصمة بعضا من مناظر موطنهم الأصلي، حيث كان هنالك في بغداد الكبرى، في العام 1956، 16413 صريفة مجمعة في تسع مناطق وكانت هذه الصرائف عبارة عن أكواخ يتألف كل منها من غرفة واحدة بنيت بالقصب والحصير وكانت تغطى بالطين خلال فصل الصيف وكانت كل صريفة تؤوي ما متوسطه 5 ـ 6 أشخاص أي أن الصرائف كلها كانت تؤوي ما مجموعه 92173 نسمة ولم يكن يعيش في هذه الصرائف إلا جزء من المهاجرين وكان الآخرون يكدسون أنفسهم في مناطق المدينة الداخلية المزدحمة، أو كانوا يجدون لهم سقفا في أنواع أخرى من المساكن الطينيةquot; (ص 163 ـ العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية ـ حنا بطاطو ـ ترجمة عفيف الرزاز ـ مؤسسة الأبحاث العربية.)
قدر تعلق الأمر بخريطة بغداد وتوصيفات جماعاتها، يلاحظ، عموما، أن أغلب مدوني تلك المرحلة من كتاب وباحثين ورجال سياسة لم يوثقوا أي شيء تقريبا عن السكنة الجدد ونمط حياتهم وثقافاتهم. وتبدو الإشارات المبثوثة هنا وهناك نادرة جدا ومنها مثلا ما يورده نوري ثابت عن صرائف quot; كمب الكردquot; في أحدى مقالاته الساخرة. لقد كتب عام 1936: quot; كم شتاء مر علينا ونحن نرى هؤلاء العمال الفقراء الذين يقطنون هذه الأكواخ المهدمة والصرائف البالية في وسط المستنقعات وفي quot;كمب الكردquot; بالقرب من محطة باب الشيخ وليس هناك من يقول: يابه ابنوا لهم بناكل صحية وخلوصهم من براثن الموت وحتى م يبقى منظر هؤلاء البؤساء دبلة في وجه العاصمة quot;. quot;حبزبوز في تاريخ صحافة الهزل والكاريكاتير في العراق quot; جميل الجبوري دار الشؤون الثقافية ص 296
أما غائب طعمة فرمان فينقل فيquot; النخلة والجيران quot;، الكثير من أجواء بغداد الأربعينيات، وفي غضون ذلك نلمح بعض أشباح quot;الشراكوهquot; الذين تشتكي البطلة تماضر من وجودها بينهم: quot; كانت لا تعرف بالضبط أين قبر الملك ولكنه هناك، في العالم الآخر، خلف السدة الترابية التي هبطت منها ذات يوم ومرت في خيالها شوارع مشجرة، شوارع بلا أسماء عريضة ومشمسة، قالت: ـ وأني ويه الشراكوه بها لخم!quot;.
ندرة المدونات المتعلقة بتلك المدن الزائلة كـquot; الشاكرية quot; وquot; العاصمة quot; وquot; خلف السدة quot; وquot; الميزرة quot; وغيرها كانت فهمت، قبل سقوط نظام صدام حسين، بوصفها نتاجا منطقيا لسيادة نمط من الثقافة المرتبط بالدولة العراقية، وبما أن الأخيرة ذات هوية قومية فقد قام النمط المذكور على مبدأ احتقار الثقافات الفرعية وعدم السماح لها بصياغة سردياتها أو متونها.
لا تعني هذه الفكرة، في الواقع، وجود قسر فعلي معبر عنه بشكل علني إنما المقصود أن منظومة الثقافة السائدة قامت، في الأساس، على تذويب الجماعات الصغيرة في بودقة هوية رمزية مصنعة، وهو ما يعني احتقار المثقف نفسه لانتمائه المحلي وتهيبه الدائم من التفكير بذلك. ولئن وجدت الاستثناءات دائما، لنتذكر رباعية شمران الياسري الروائية مثلا، إلا أن غالبية الأدباء والكتاب ابتعدوا غالبا عن التفكير بتلك المناطق شبه المحرمة.

أطفال الشاكرية يروون غربتهم..
أن أحدا لن يفاجئ وهو يقلب صفحات الكتب التي نتحدث عنها، أعني التي بدأت تصدر منذ عام 2003، حين يلاحظ انتماءها إلى نمط من ثقافات تعد فرعية وغير حائزة على الشرعية، أو بمعنى آخر غير معترف بتمثيلها شرائح اجتماعية معينة. ولدينا، بهذا الصدد، نوعان من الكتب ؛ الأول ينتمي إلى نمط quot;شعبويquot; مكتوب بلغة متدنية لا تطمح سوى للتوثيق مثل quot; مدينة الثورة / الصدر حاليا..دراسات تاريخية معاصرةquot; ـ مكتبة المجلة، وهو من تأليف رجل مسن من أهالي المدينة يدعى كاظم عبد الجبار شنجار البيضاني. أما الثاني فنمط quot;رفيعquot; ينتمي إلى ما يسمى الثقافة العالمة وأهم أنواعه الرواية.
ثمة من الروايات الصادرة خارج العراق وداخله ما يثير الانتباه بهذا الصدد؛ هناك، مثلا، quot; الشروكية quot; لشوقي كريم حسن ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد، وquot;خضر قد والعصر الزيتونيquot; لنصيف فلك، مشروع quot; كتاب الصباح الشهريquot;، وquot; خلف السدة quot; لعبد الله صخي، منشورات المدى ـ دمشق، وquot; اعترافات رجل لا يستحيquot;، مركز دراسات الامة العراقية- ميزوبوتاميا ـ جنيف، لسليم مطر وغيرها.
في جميع هذه الأعمال ثمة إعادة تأثيث لمجتمع الصرائف المذكور. غير أن الملاحظ في إعادة التأثيث هذه أنها تبدو كإعادة قراءة للمكان أو أعادة تأويل له بعد عقود من مغادرته. وكما هو متوقع تماما، لا يحتفظ المكان بملامحه الأولى كما كانت عليه إنما يستعاد بوعي جديد وسياق مختلف بالمرة.
شوقي كريم، وهو روائي سبعيني ينحدر من الجنوب، يستعيد مدينة quot;الثورة quot; ليس بوصفها بيوتا كتلك التي عاش فيها بل بوصفها مغتربا لذات مهجوسة بهذا المفهوم، مفهوم الغربة، فالبطل يتذكر تلك المدينة وهو في المعتقل، أي بعد عقود من مغادرتها، ولذا تضغط أجواء السجن على صورة المدينة وتحرفها بحيث تتحول الإقامة في الأخيرة إلى نوع من الاغتراب الشبيه بمقام السجين في سجنه. أما السجين فهو تلك الجماعة التي ينتمي لها الراوي وأما السجن فهو السياق القاسي الذي وجدوا أنفسهم فيه حيث يستشعر أبناء مدن الصرائف، كما يرى شوقي كريم، وكأنهم quot; عبيدا quot; في تلك المستوطنات.
نقرأ في حوار للبطل مع سجانه قول الأخير: quot;أو تصدق سفالات الساسة؟ أو تعتقد أن كل ما تقوله رؤوس الكتاب قابل أن يكون حقيقة، منذ أقدم العصور، نحن السادة وانتم العبيد، أو تريد أن تقلب المعادلة ومن أعطاك هذا الحق؟ عربة النفط؟ جنونك الذي لا يمكن أن يصدقه أحد؟ سفالتك؟ ما الذي تريد أكثر من بيت يأويك وخبز تأكل وقنينة خمر بين يوم وآخر؟ السياسة ليست لك بل ليست لكم. أن أصبحتم سادة فمن يدير المهن الوضيعة!quot;.
الحق أن العبارة الأخيرة لم تكن خيالا quot;مازوخيا quot; متأخرا بل هي تعود إلى معطيات يمكن أن تقدمه لنا بعض الكتب والشهادات التي راجت في السنوات الأخيرة، ونحن نحاول هنا قدر الإمكان الركون إلى المدونات وإلا فأن الذاكرة الشفاهية لأبناء مدن الصرائف تمتلئ بمثل تلك المعطيات. نقصد الشعور بالاغتراب بسبب فقرهم وانسحاقهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كما سنرى.

يتبع