إعلامياً هو بأحسن حال، وهو الرائد دوماً!... ولكننا حين نسأل أصحاب الخبرة، نكتشف أن المسرح العراقي، ومنذ بدايته، فقير، ينقصه الكثير، وإن إعداد الممثل وفق الطرق العلمية، بالإضافة إلى المناهج التعليمية الصحيحة، هي أهم ما ينقص بناء المسرح العراقي منذ نشأته... رؤية يطرحها علينا أستاذ المسرح والمخرج سامي عبد الحميد في كتابه الجديد quot;أضواء على الحياة المسرحية في العراقquot; (دار المدى)، رؤية تحاول برهنة حقيقة مفادها أن الممثل المسرحي العراقي (سامي عبد الحميد نموذجاً) بنى نفسه بجهود شخصية معتمداً على موهبته وحبه للمسرح أولاً، ثم اجتهاده ومتابعاته لحركة المسرح عربياً وعالمياً... هي إذاً شهادة توثيقية تصلنا من عقر دار المسرح العراقي لتضعنا أما حقيقة الأسس التي شُيِّدَ عليه المسرح العراقي: quot;ليسمح لي القارئ أن أطرح في هذا الكتاب شيئاً من آرائي في الفن المسرحي عموماً وفي المسرح العراقي والعربي خصوصاً. هذه الآراء التي تبلورت عبر أكثر من خمسين سنة من التجربة من عملي المسرحي ومن دراستي.quot; هكذا يضعنا المؤلف أمام نصف قرن من تاريخ الحركة المسرحية العراقية والتي تكاد تشمل جل تاريخ المسرح العراقي الحديث، ولكن من خلال رؤيته الشخصية.
كان لهذا الكتاب أن يكون أكثر تأثيراً ومصداقية لو لم يكن مؤلفه سامي عبد الحميد، ابن وأستاذ المسرح العراقي، حيث ظهر الكتاب وكأنه سيرة ذاتية لتاريخ عبد الحميد المسرحي، وحيث جاءت الآراء بإشكالية الانحياز صوب إنجازات المؤلف ndash; وهي كثيرة وكبيرة حقيقة ndash; على حساب جهود وإنجازات أساتذة المسرح العراقي ومؤسسيه. مشيراً إلى المعضلة الكبرى في تأسيس المسرح العراقي والفنان المسرحي منذ البداية، والتي تلمس فيها ضعف إعداد الممثل وفقر المادة التعليمية، حيث يبدأ كتابه مع بدايات تأسيس المسرح العراقي، فيطرح آراءه بالثلاثة الكبار، مؤسسي المسرح العراقي، فيرى بـ (أبي المسرح العراقي) حقي الشبلي: quot;أنه يدرّس طلابه تقنيات التمثيل والإلقاء وفن الماكياج وعلم الهيئة وتاريخ المسرح من محاضرات قام بترجمتها عن الفرنسية أو أخذها من بعض الذين درّسوه، وكانت أكثرها مكتوبة بخط يده... محاضرات لا أتذكر منها سوى عدد كبير من الأسماء والتواريخ مما له علاقة بتاريخ المسرح من غير تعمق في التحليل والدراسة...quot; أما عن إبراهيم جلال أستاذ المسرح لسنوات طوال فيقول: quot;وعندما حل إبراهيم جلال محل الشبلي(...) لم يشر إلى نظرية من النظريات وإلى مدرسة من المدارس، بل كان يعتمد في إرشاداته وتوجيهاته على حسه الفني وخبرته التي اكتسبها من أستاذه ومن الحياة...quot; ثم يصل المؤلف بآرائه إلى جاسم العبودي، فيقول عنه: quot;كان مقتصداً في معلوماته وشحيحاً في مادته التي يقدمها للطلبة ولم يهيئ لهم محاضرات مطبوعة ولم يشر إلى مصدر معين.quot; ولكن، لماذا هذه الآراء القاسية اللاغية لجهود مؤسسي المسرح العراقي، رغم أن المؤلف كان أحد تلامذتهم؟ الجواب نجده واضحاً بين صفحات الكتاب حين يكشف المؤلف quot;يقينهquot; بنقطة التحول التاريخية في المسرح العراقي حيث يشير: quot;quot;يمكن القول إن أول الاتجاهات الواضحة في حركة المسرح العراقي الحديث كان الالتزام بتعليمات وطريقة quot;ستانسلافسكيquot; التي لم يتعرَّف عليها المسرحيون العراقيون إلا في منتصف الخمسينات حين نشرت مجلة (السينما) العراقية خلال الأعوام 1955-1957 ترجمة لكتاب (ديفيد ماكارشاك) عن الطريقة وبعض المقالات التي توضح عناصرها.quot; وكان المؤلف قد مهد لهذه النتيجة في بداية كتابه ليشير إلى quot;فضلهquot; كونه هو من قام بترجمة هذا الكتاب، رغم أنه ألغى شريكه في الترجمة الذي لم يذكر لنا اسمه: quot;تيسر لي مع صديق الحصول على كتاب quot;ديفيد ماكارشاكquot; عن طريقة quot;ستانسلافسكيquot; قمنا بترجمة فصول عديدة منه، ونشرت أول جزء منه مجلة السينما في كانون الثاني 1956، وهكذا كان كتاب (ستانسلافسكي والفن المسرحي) أول مادة تعرّف المسرحين العراقيين بمنطلقات ذلك المخرج الكبير نظرياً وتطبيقاً...quot;
الكتاب جاء متضمناً أربعة فصول امتزج فيها تاريخ المسرح العراقي بالمسرح العربي من خلال إشارات عديدة حول أعمال وآراء عربية ndash; مصرية تحديداً ndash; تظهر نفساً قومياً يدعو الرجوع إلى التراث ومادته التاريخية وإلى تبني quot;مواضيع توضيح أثر الحضارة العربية في حضارات العالم، وهذا ينبوع زاخر يستطيع الكاتب المسرحي أن يغترف منه.quot; بالإضافة إلى اقتراحات لبناء مسرح عربي جديد يتبنى هذه المواضيع، كون المسرح العربي quot;لم يولد ولادة طبيعية بل حضّر (مختبرياً)، وأنه ما زال يعاني من عقدة التخلف لهذا السبب، وكذلك من افتقاره إلى وسائط اتصال حقيقية بجماهيره.quot; فالمؤلف كثيراً ما يشير في كتابه إلى قصور كبير في شكل العلاقة بين المسرح والجمهور quot;القصور لا يكمن في طبيعة العرض القريب من العرض المسرحي وإنما في تاريخية وجود المسرح، وقد راح المسرحيون العرب ومنذ فترة يبذلون جهوداً كبيرة في سبيل إيجاد الصيغ المسرحية المناسبة لتثبيت سمات عربية مميزة لمسرحهم أو لإيجاد مدرسة مسرحية خاصة بهم كتلك التي تميز المسرح الإغريقي أو المسرح الياباني مثلاً...quot; هذه الآراء والصور التي تضمنها الكتاب، ظلت متمسكة بكلاسيكيات المسرح ولم تقترب من منطقة الحداثة في المسرح وعلاقته بالفلسفة من أجل الظهور بمسرح جدلي عميق ممتع فكرياً كما هو معمول به ومنذ فترة ليست بالقصيرة في أغلب مسارح أوربا والعالم، فالمؤلف يقترح من أجل إيجاد مسرح عربي متميز، أن يستقي المسرح العربي مواضيعه المسرحية من صميم الواقع العربي! فهو يرى أن quot;المسرح وسيلة للتعبير عن كفاح الشعوبquot;.
ويذهب المؤلف بعيداً في محاولته لتعزيز رؤيته الشخصية جداً فيقول: quot;من خلال تجربي في العمل المسرحي سواء بعملي مع مخرجين عراقيين أم من مجمل الملاحظات التي خرجت بها بعد مشاهداتي المثيرة لأعمال المخرجين الآخرين والمدرّسين في المعاهد الفنية المتخصصة. وجدت أن هؤلاء، على الرغم من ادعائهم الاعتماد على طريقة (ستانسلافسكي) في تدريبهم للممثلين (...) وجدت أنهم في الحقيقة يبتعدون عنها بقليل أو كثير... ووجدت أيضاً أن البعض منهم لا يفهم فهماً كاملاً تفاصيل الطريقة وكننها ولا يعرفون سوى قشورها أو أنهم لا يأخذون منها سوى إطارها العام وحسب.quot; أما رأيه بخصوص النص المسرحي العراقي بعد تاريخ طويل قارب على المئة عام فيقول: quot;إن النص المسرحي العراقي عموماً ما زال يفتقر إلى الكثير من المقومات التي تجعله بمصاف النصوص الأجنبية بحيث يفضّل أكثر المخرجين تناول الأخيرة على تناول الأولى.quot; المؤلف يحمّل الكتاب رأيه هذا، رغم أنه يعي تماماً أن كل المهتمين بالمسرح العراقي يعرفون جيداً أن سامي عبد الحميد مغرم بالنص المحلي، وقد أخرج العديد من النصوص المسرحية التي ذاع صيتها إعلامياً... ورغم ذلك يبقى الكتاب محتفظاً بأهميته الأرشيفية التي تدر كبير فائدتها على الباحث وليس المخرج أو الممثل.

[email protected]