{اكتشاف قصيدة quot; قلم إبراهيم quot; لا يخلو من حكاية، ففي الليلة التي ابتلع فيها الحوت قمر بغداد، وخرجت الناس تردد
( يا حوته يا.....)، خرج الرحالة quot; رصان سنؤم quot;، الباحث عن الكنوز والكتابات القديمة من داره التي تسمى quot; خربة quot;
(بالباء المثلثة) قاصدا (دار القراطيس) في حي الكرخ ببغداد، وسار بتلك الدروب التي أرهقتها الغلال والحروب والأوبئة، ولأنه كان يحلم بمعجزة تشبه قفزة سريعة خاطفة تجعله يهبط في نقطة البداية (للإبراهيمية) لم ينتبه لمعالم الطريق، وضلَّ طريقه، سالكا السبل الضيقة والمتعرجة والمظلمة. وفي لحظة، برز أمامه ذلك الشعاع من النور الذي يكشف ظلمات الطريق، فسار خلف الشعاع حتى وجد نفسه في منطقة غير معروفة، وأثار اهتمامه بقايا أسوار وأعمدة وألواح، وسياج منعزل قليلا وشبه مهدم، وعليه كتابات تبدو كلوح ممسوح ومرسوم عليه ثانية، وتوقف شعاع النور عند نقطة معينة وكأنه يشير إليه أن يحفر أسفل هذا السياج، ولأنه لا يملك معدات الحفر من فأس ومِجْراف ومِسْحاة بدأ بإزالة التراب بيديه حتى ظهر له شكل كتاب ملفوف بقماش ابيض، ظن في البداية أنه عثر على مقبرة الكتب التي سمع عنها الكثير لكنه لم يعثر إلا على كتاب واحد. وتذكر تلك الطائفة التي ظهرت في بغداد من المتزهدين الذين رأوا ما يفعله كتّاب عصرهم من فساد، فدفنوا كتبهم الصالحة، وقالوا أن الحرف كائن حي يدفن، وكانت كتبهم تكفن بالكتان الأبيض، وتقام لها مراسيم تشبه مراسيم دفن الميت، ويدفن معها الكافور، وكانوا يقولون (الحكمة في الكافور فهو يطيب رائحة الموضع).
ومن غير تعاويذ حارسة ثمة روح حضرت وتجسدت، روح الكتاب، الروح الساهرة على أضرحة الكتب والدفاتر والكراريس، الروح المكلفة وحدها بفتح هذا الكتاب. وبسرعة أخرج مصباحه اليدوي الذي اعتاد أن يحمله معه دائما، وبدأ يورق الصفحات. وعلى ضوء المصباح الباهت شاهد ما مرسوم من صفحات في هذا الكتاب من كتابة بلغتين، الأولى بدأت له لا تكشف عن أي أبجدية معروفة حتى الآن. والثانية ظنها كتابات مرموزة تبشر بأسرار دفينة سيكشف النقاب عنها، ثم ظنها صلاة تتحدث عن فضائل إله ما، وظنها تعويذة تحمل وعدا بخلاص العالم. لكنه ترك كل تلك الظنون جانبا لأنه اكتشف شيئا غريبا، ما أن يقرب ضوء المصباح من الحروف حتى يتغير شكلها، فمرة تأخذ شكل الكتابة البارزة، ومرة شكل الحروف المضيئة، ومرة شكل أختام ممهورة لا تكشف عن نفسها، وكلما قرب الضوء منها أكثر فأكثر تحولت الحروف إلى أبجديات مختلفة وكأنها تكيف نفسها مع اللغة التي يعرفها الرائي، وهي على يقين إن لم تفعل ذلك فلن يكون بوسع أحد قراءتها، وبدأت الكلمات تشع بنافورات من أضواء ذات ألوان شتى... وما أن تمكن الرحالة من قراءة العنوان
quot; قلم إبراهيم quot; حتى اخرج قلما ودفترا عتيقا، وبدأ ينسخ ما يظهر له من كلمات وعبارات، وكان ينسخ من دون أن يترك مساحة بيضاء، وكانت الكلمات تأتي استمرارا للسطر الذي تنتهي به الكلمات السابقة، وكأن للحروف ذلك الجهد الكهربي الذي يفرغ شحناته حتى انتقلت صورة كل ما مكتوب في الكتاب إلى الدفتر العتيق...
وفي تلك اللحظة اختفى الكتاب.
ظلت الروح الساهرة فوق المكان نفسه تطير بصمت، بخفة، وبوداعة تقف وسط شعاع النور وتمد يدها وتدعو الرحالة إلى السير باتجاهها، وهو كالمأخوذ يسير باتجاهها بأبهة ترفعه درجة درجة في سلم الفضاء كأنه إله فوق عرشه يحمله شعاع النور ويستقبله العدم بما يليق به من إجلال.
اختفى الكتاب، اختفى الرحالة quot; رصان سنؤم quot;. اختفت الروح الساهرة، اختفت الأسوار والأعمدة والألواح، اختفى الظلام واختفى السياج المهْدُوم واختفت هذه الليلة الغريبة، وظهرت بقعة من نور، نادرة كحجر كريم، كريمة كشمس منقوشة بأزميل من الضوء فوق الدفتر العتيق، الدفتر الذي نسخ فيه quot; قلم إبراهيم quot; من اللسان القديم إلى اللسان الجديد.
............................................................................
لقد لحق بهذا الدفتر العتيق وعلى مرّ الزمان ويلات ومصائب متعددة، وابتيع من خزانة إلى خزانة في الشرق والغرب. ولم يبق منه إلا جذاذات صغيرة متآكلة، أصابتها الآفات والرزايا، وعليها أثار كالحرق والغرق والدفن وغسل الكتابة، حتى عثر عليها بمنفاه في الأرض المنخفضة (ناصر بن مؤنس البغدادي) فرممها وحققها وحلاَّها بالزخارف والرسوم... وهذه ترجمتها بخطه}.


الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.

هذه غلطتك
كنت تحيا في الذكريات كأفعى حول عنق نسر.

هذه غلطتك
غلطة زوّار أقبلوا من نجوم بعيدة
غلطة صيف الإيمان الأقل شمسا في حياتك
غلطة الكلمات التي اشتعلت على لسانك
غلطة اللحظة التي رفعت فيها بصرك إلى الأعلى
إلى أعلى الأعالي
ورأيت تلك الشعلة البيضاء الساكنة قلب الغيوم
وهي تسحب الارتعاش النزق للنار
في ذلك المطبخ السماوي
لتطهو أرواح البشر.

هذه غلطتك
هذه غلطتك الكبيرة
لم تعرف من الأرض إلا وجهها الذي يسكنه الإنسان
الوجه المقفر بورع يعارض الحياة
يبشر بالمستنقعات التي خلفتها مياه الدين
وبالخلاص الذي يعدنا به العدم.

هذه غلطتك
لم تكذب إلا ثلاث كَذبات
bull;قولك  إني سقيم
bull;قولك بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ 
bull;قولك للملك الذي عرض لسارة  هي أختي .
ويقال كلها في الله تعالى.

لماذا يقبل الله الكذب من أنبيائه الصالحين ؟
الجواب على اللغز لا يجيب عن أصل اللغز..!
والحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به
في وقت أعمى، رأيتك تخلط بين الحكمة والنبوءة
وتغش دون اكتراث
لم تكن لك أسرار لترسل لنا طاقة النور
لم تنتشل الظلام ولم تنقذ العماء
كنت لعوبا ولم تتصرف بكرامة
حيلتك تنم عن براعة
وربما غمزة
هذه صورتك التي لا تقبل الترحاب
في مخيلة القرن الواحد والعشرين.

في قيامة بلا مجد أو شقاء وجحيم لا يفلت منه أحد
في أرض بلا اسم ولا تاريخ
سحر الأساطير لن يبني مدينة على رأس تل
رسالة الخلاص الأبدي لن تجلو طبقة الصدأ التي تعلو الإيمان
وتلك الابتسامة المحنطة على وجه التوحيد
لن تبطل ربوبية الكواكب.

هذه غلطتك
غلطة أنبياء ضائعين في الضباب
غلطة ذكريات بعيدة وغامضة
حيث اللغز يصون سرّه
والرجل الذي تخيل الأسطورة على أنها تاريخ، أقبل
أقبل من أور
لم نعرفه إلا بواسطة شائعات غامضة
لقد اخترع فكرة المنفى
ولم يبق من منفاه غير آثار من حجر
ضريح على شواطئ صخرية
يذكر بحلم تبخر من التأريخ.
الرجل الذي عمل بنصيحة الإله، وخرج من أور إلى كنعان
خدعنا بإيمانه
خدعنا بنور صحرائه الباهر،
كنا بحاجة إلى خريطة للسماء
لمعرفة الحلقة الناقصة من برهانه، السر
أو اللغز الذي يحوم في صحراء مجاورة،
الأسطورة التي ترتدي نبرة الحقيقة، دفعت
بنا صوب المنافي، ولما وصلنا، لم يبق من وجود للرجل
الذي عمل بنصيحة الإله، سوى أطلال رموز في صحراء
لا يمكن قراءتها إلا من قبل راكب منطاد.
والحكمة تقول، هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.
النبوءة أول البلاء
هذه الجملة في شمال العدم وجنوبه
تحقق فرضياتنا الأكثر غرابة
مطامحنا الأكثر كذبا
وآمالنا الأكثر رفعة، هي
بمنأى عن ما نعرفه، بمنأى عن التيه
في ضباب الخرافة، عن أرض نائية تحتفي بزوَّار
أقبلوا من نجوم بعيدة، ليمنحونا عوناً خارجياً،
يا له من حلم رائع
أن تتكلم مع إله
أو يوحى إليك من جانب إله.
والحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.

الزوَّار الذين أقبلوا من نجوم بعيدة
جلبوا الشرور المستعصية على التحطيم
جلبوا انتصارات الإيمان، أسرار الردهات، وجوه الطوباويين الضارعة،
والبطاركة حملة المباخر.

الزوَّار الذين رفعوا ستارة الكلمات
ليظهر ما هو خافٍ
ما هو مجهول
وذلك الكرنفال الهائل من الأكاذيب.

الزوَّار الذين غذُّوا قوى الفوضى في الكون
زرعوا على الأرض جرثومة الأيمان
زرعوا الألغاز التاريخية التي لم تحل قط
صبوا قوالب المستقبل والأشكال التقليدية للمعتقدات
حولوا معركة الإنسان شيئاً فشيئاً من القتال
ضد غيره من الحيوانات إلى القتال ضد بني جنسه
هذه المعركة التي تم استخدامها في صناعة الدين.

الزوَّار الذين أقبلوا من أحشاء الظلمات
حراس مقبرة العدم
انحدروا بالروح إلى مملكة الأموات
رسموا الامتداد الكئيب للمصير
كان الجحيم مؤقتاً فأصبح أبديا
واستعاد الخراب مكانه على الأرض في جدلية الغموض.

الزوَّار الذين اختفوا بلمعانات سرية
وهم يصرخون
دعونا نسبق الحشود
دعونا نسبق النهاية التي ستصل مسرعة.
اختفوا، اختفوا، كظلال في الظل، كضباب، كملاجئنا
من تلك الأكاذيب التي يتم تزويقها في الأعماق.

اختفوا، وظهر طائر يصرخ:-
ليس هناك ما نفعله في الأعالي.

الزوَّار الذين اختفوا، ظهروا، ظهروا
في حكمة ساقطة من إحدى النجوم على رأسك
في لمعانات شرقية فوق قطيفة خيالك
في بوصلتك
في خرائطك
وعداد مسافاتك.
في عويل شهيق المنخفضات
وتلك الشعاب التي تشرف على الهاوية
في الهيكل العظمي للإيمان
وفي صورة لغزية للعبادة
ظهر
الزوَّار
الراءون
الواهبون،
منذ تلك الظهيرة، وأرواحنا تقتات بالوُحُول
ظهر الإنسان الذي يحمل في داخله جحيمه
ظهرت الفروقات بين الجنة والجحيم
ظهر تفضيل الموت على الحياة من أجل العقيدة
ظهرت ممالك مأهولة بمسوخ الآلهة
ظهر الغرقى، المنتحرون، الضائعون، المصعوقون،
العنف والبغض، السحر والإلحاد،
ظهرت النواقيس التي تدق من أجل صلاة البشارة
وتلك التُرَّهات التي يهددنا بها القدر.

الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.

 لا أُحِبُّ الآفِلِينَ  هذه حجتك
حجة معجزات أكثر مما ينبغي
حجة الممسوس بمهمة مستحيلة
يتخيل المجيء المستقبلي للملكوت
ويخطئ حيال النهاية الحتمية.
لكن الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.
هذه حجتك
 النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابفي ذريتك
فهل اتخذك الله نبياً قبل أن يتخذك رسولاً
هل اتخذك رسولاً قبل أن يتخذك خليلاً
أم هي إمامة
لم تتهيأ لأحد من الأنبياء سواك؟.
والحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.
هذه صرخة يطلقها الملاك ببوق الرب
لماذا توجه الصوت إليك؟
هل كنت نبياً أم مبشراً أم مكتشفاً
أم كنت الوحيد الذي سجلت شاشة الرادار الإلهي وجوده؟
الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.
بعيون لا مرئية تنظر الروح الهائمة
نظرة بيضاء كالعدم
تنظر إلى الكهنوت الذي يناضل في سبيل الإيمان
الإيمان الذي توقف نتيجة عطل في مركبة الحياة
الحياة المطبوعة فوق رخام القبور
القبور التي تجلس فوقها، عندما كان الإله صوتا ودخانا
كنت تنظر إلى الأعالي الشاهقة للوحي
تصغي إلى صوت الخليقة الخافت
وترتدي الدروع اللامعة على أفكارك
ليتعرف عليك زوار النجوم البعيدة.
لكن الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.

الزوَّار الذين جاءوا من نجوم بعيدة
حملوا إليك عقائد ونبوءات
تمائم وإشاعات
أمروك بالهجرة إلى الصحراء
أعطوك كتاب الأقدار النهائية للخروج الهاجري
وقبل أن يختفوا في السماء الطليقة
سمعت همساً خفيفاً
لا تقلق
ستتكفل الملائكة بتمويل هجرتك
ستمنحك القروض
والنقود المسكوكة بالإيمان.

الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم ما يخبرنا به.
بخروجك خرجنا إلى صحراء من الطقوس والأوهام والسحر والأساطير
إلى صحراء من الفوضى والقلق ورحمة الأقدار
ربما أخطأتَ بترجمة كلمة quot; الله quot;
وأطفأت تلك الهالات التي من الممكن أن تضيء ظلمات العالم
لكن لا ريب، في أنك كنتَ وراء خلق أسطورة بارعة
كنتَ معجباً ببطلكَ
تعلو من شأن المزايا التي تضخم صورته (لا توجد صورة شخصية له)
تعد إلى إتيوبيات خطرة
تحرمنا من الكونسيرت المتعدد الأنغام
من إرث تعدد الآلهة
وتعزف لنا صوت الحزب الواحد.
تطالب بسلطة إلهية
وتحوّل البشر إلى رهائن
إلى فرائس مرعوبة في احتفال مقدس،
مجرد أعضاء في سلك أو عبادة ما
مجرد ملكية
ملك لإله أزلي لا يقبل الإبادة.

الحكمة تقول: كلماتك المغالية، لا تحمل رسائل السعادة
الزمن ينشد مدائح إلهية تشرق على ممالك نجهلها
ولدى الجحيم، ابتسامته المتسامحة اتجاه ما يحدث !.
التاريخ يصل إلى ذروته
أصداء صلاة الموت تصل إلى الهيكل الأخير
الكون قد تآكل وهناك فكرة تراود الرب بالتخلص منه
لكن الحكمة تقول: هذه كذبة
الزمن يغني أغنيته الأخيرة
ولدى الجحيم، تحفظه الخاص
وكل ما علينا عمله الآن
هو نسيان درسك الهام عن الإيمان.


[email protected]
www.nasirmounes.com