برشلونة: هذه الايام، هذا الشهر بالذات تمر الذكرى الخمسين لعرض فيلم quot;لورنس العربquot; 1962 الذي اعتبر واحدا من اهم الافلام البريطانية، و في كل تأريخ صناعة السينما العالمية، في بداية هذا الشهر، أثناء زيارته مواقع تصوير الفيلم في محافظة quot;الميرياquot; جنوب اسبانيا قال الممثل المصري quot;عمر الشريفquot; في الاحتفال الخمسيني، quot;بعد الانتهاء من التصوير الشاق و المتعب، التقيت المخرج في واحدة من عربات الانتاج و هو يدمع، و عرفت السبب، كان واعيا انه سوف لن يعود الى الاخراج الا بعد مرور 4 او 5 سنواتquot;. وهذا صحيح لان المخرج العظيم البريطانيquot;ديفيد لينquot; 1908-1991 اعتاد هذا النمط من الفترات بين فيلم و فيلم باعتباره من اكبر المخرجين ذكاءا و حرفية في حرصه البالغ عدم دخول مغامرات سينمائية قبل ان يفكر نهائيا في جدواه واعيا قيمته في اختيار فريق عمله من التقنيين، و الممثلين، و صحيح هذا ايضا، فاخر فيلما أخرجه قبل هذا كان quot;الجسر على نهر كاويquot;1957، و بعد فيلم quot;لورنسquot;بأربع سنوات غامر في أبداع فيلما رائعا مرة أخرى، هذا كان quot;دكتور جيفاكوquot; 1966.
ديفيد لين، هو من المخرجين النادرين في السينما البريطانية و العالمية، فجانب حرفيته التي لا تقارن، كان وعيه الثقافي و السياسي، و حتى الفلسفي، و مقدرته على التحليل التأريخي من وجهة نظر عقلانية و مستقلة لا تترك مجالا للتحيز، و نرى هذا في العديد من افلامه كما في quot;الجسر على نهر كاوايquot; ثم الفيلم الذي نحن بصدده الان، و بعد ذالك quot;دكتور جيفاكوquot; ثم فيلمه الرائع الملئ بالغنائية الدراماتية، حول المشكلة الايرلندية quot;ابنة رايانquot; في بداية السبعينات.، في معظم هذه الافلام لا يتورع في طرح حيادية التفكير و التحليل، خصوصا في هذه الافلام الرائعة التي فيها يحاول معالجة نزاعات تأريخية تكاد تغطي كل أحداث القرن الماضي.
في عام 1962 تتعاون شركة quot;كولومبياquot; مع لين و المنتج البارع quot;سام سبيغيلquot; 1901-1985 في حمل القصة الحفيفية الى الشاشة، أعني قصة الرجل الاسطورة quot;توماس ادوارد لورنسquot; 1988-1935 الذي يعتبر واحدا من أكثر شخصيات القرن الماضي تأثيرا في شأن التغيرات السياسية و الجغرافية في البلدان العربية.
الفيلم في ملحميته ينافس، و يكاد يفوق شريط quot;ذهب مع الريحquot; 1939 الذي أعبر اهم الانجازات في صناعة السينما حتى ذالك الحين، ولكنني قبل الدخول في تفاصيل الفيلم اود الاشارة الى ان بريطانيا و جزرها الصغيرة تمكنت من السيطرة، و أستعمار العديد من بلدان العالم.ليس بسبب قوتها العسكرية فقط، أولا كان دهاء، و ذكاء ساساتها أبناء أول الديموقراطيات في العالم، و بالتالي اول بلد للحريات التي أطلقت العنان للفكر الحر في كل المجالات، في الثقافة و الفنون و السياسة.و الاجتماع، هكذا كانت الحرية في المجتمع البريطاني التي منحت الفرص لكل المبدعين من ابنائه، و لو نستعرض تأريخ هذا البلد الصغير سنجده حتما من أكثر البلدان الاوربية في الطليعة، من الادب، الفنون،
والاختراع، و في السياسة أخيرا، هذا شأن المؤرخيىن، ولكن منذ بداية القرن التاسع عشر، او ربما قبله، كانت الحكومات البريطانية على كل اشكالها تغذي عناصرها من شباب جامعاتها العريقة من الاوائل و المتفوقين، خصوصا في الشأن المخابارتي، و على مدى القرنين الماضيين جندت الحكومات العديد من هؤلاء، أحدهم كان الشاب اللامع حاد الذكاء quot;لورنسquot;.
تصير احداث هذا الشريط التأريخي اثناء الحرب العظمى، و ثورة العرب على السلطة العثمانية المتحالفة مع المانيا عبر القصة الشخصية لرجل بالغ التعقيد و الذكاء، هنا أقصد الشاب الاشقر الجميل قبل بلوغه الثلاثين من عمره quot;ت.ا.لورنسquot; الذي يجد في الصحراء العربية خلاصا لروحه الضائعة المعذبة، ليصارع قلق وجوديته المعقدة التي كان يعانيها منذ صغره، فهو كان أبنا غير شرعي لاب هجر زوجته مع خادمة البيت و فر معها الى مشارف quot;أوكسفوردquot; والتي ستنجنب خمسة من الاطفال.في هذه المدينة الجامعية العريقة يتربى الطفل لورنس و يدخل الجامعة لدراسة الاثار و الانتروبولجية، و اللغات ليتخرج بدرجة شرف، و هنا يبدأ اسفاره الى اليونان و ايطاليا في نية دراسة اثارها عن قرب.أثناء العودة من أحدى السفرات هذه، تجنده المخابرات البريطانية بدرجة ملازم اول في في مقرها في مدينة القاهرة في عام 1916، و الحرب الاولى كانت على اشد اوزارها، يجند في اعتبار لذكائه و ثقافته الكونية التي ستثير فيما بعد حنق زملائه من العسكريين، و الاهم اضا كان أجادته في اللغة العربية التي اتقنها و أجاد في العديد من لهجاتها المحلية،
كما ذكرت سابقا، في صحراء العرب يجد الشاب quot;توماسquot; كل ما تاقت له روحه القلقة دائما، مناك اكتشف نصوع الاشياء و جمال الخلق و في ذاته، و كانه أراد ان يصير قربانا لهذ الكمال، و هو العالم والخبير و الدارس لحظارات انقرضت، و المنطوي على نفسه، يكتشف في روح الصحراء و سكانها، و نمط عيشهم، يكتشف مفاتيح انطلاقه المتامل و الفلسفي الى الانفعال المشترك و الحركة و المخالطة، و حتى العنف.كان الشاب quot;لورنسquot;قد افتقر كل هذه الانفعالات الاجتماعية.
حصد الفيلم 6 جوائز quot;اوسكارquot; من العشرة التي كان قد رشح اليها في عام 1963، و كانت الاولى من نصيب quot;ديفيد لينquot;على الاخراج الرائع، وعلى الموسيقى التصويرية للفرنسي quot;ماورس جارريquot; 1924-2009، و الجائزة على التصوير الخلاب المذهل للصحراء على كاميراتquot;70م مquot; الذي اداره و أشرف عليه واحدا من اكثر المصوريين السينمائيين في الخبرة و التجربة، هذا كان quot;فريدي يونغquot; 1902-1998 الذي صور كل الفيلم في مواقع خارجية و بعيدا عن ديكورات جاهزة، إذا استثنينا لقطات الشمس، هنا يلجأ quot;يونغquot;الى علاج كيمياوي و مختبري، لانه في كل محاولاته تصوير الشمس في عز ظهر الصحراء، كان الفيلم يحترق، هذه اللقطة الوحيدة في الشريط الطويل التي صورت داخل استوديو، لانه كان يريد ان يعكس سحر و بريق الصحراء العربية في روعتها. اما مشاهد الفيلم الباقية صورت في معظمها في اماكنها الطبيعية و التاريخية، بين العقبة في الاردن.و بنايات الادارة البريطانية في القاهرة، و اخيرا في quot;اسبانياquot;حيث صور اكثر من نصف الفيلم.ثم جائزة الاوسكار على المؤثرات الصوتية ل quot;جون كوكسquot;1920-2005، و جائزة على مونتاج quot;أني.ف.كوتيسquot;.
باعتقادي ان نجاح الفيلم، بجانب عبقرية quot;ديفيد لينquot; كان المنتج الاسطوري quot;سام سبيغيلquot; الذي يرتبط بعلاقة صداقة حميمية مع المخرج، يعتبر quot;سبيغيل quot;من ابرع المنتجين في تأريخ صناعة السينما في أختياراته الذكية، و في اصراره على شروط نجاح افلامه فنيا أولا ثم تجاريا ثانيا، و هنا يقوم بمناورات عجيبة لا قناع صديقه العودة الى الاخراج بعد معرفة تخلي هذا الاخير اخراج فيلما عن quot;غانديquot;، و بذكاء، سبق شركة quot;فوكس quot; التي كانت تفكر انتاج فيلما ضخما عن quot;لورنسquot;، كان يشعر انه حق بريطاني صناعة فيلما عن أهم شخصيات المملكة المتحدة في القرن العشرين و أكثرها غموضا، و أسرع في شراء حقوق كل المؤلفين و المؤرخين الذين كتبوا عن السيد quot;لورنسquot; و في هذا يسد الطريق القانوني امام quot;فوكسquot; لانتاج اي فيلم عن هذه الشخصية، و بعد شراء حقوق المؤرخ quot;روبرت غرافيسquot;1895-1985 ليسميه مستشارا للفيلم، و هذا الكاتب البريطاني عاش نصف حياته في اسبانيا، و لكن الامر الشائك كان مع أخ quot;لورنسquot; السيد quot;ارنولد لورنسquot; في شراء حقوق كتاب الضابط quot;اعمدة الحكمة السبعةquot; الذي يسرد فيه تجربته في الصحراء العربية، و السبب هو ان quot;ارنولدquot; كان يخشى دخول الفيلم في تفاصيل واحدة من أكثر التجارب المؤلمة في حياة شقيقه هناك، و التي فيها يتعرض للاغتصاب من قبل جنود اتراك، هذا الامر يعالجه quot;ديفيد لينquot; مع كاتب السيناريو quot;روبرت بولتquot;1924-1995 بذكاء و براعة فائقة من الصعب جدا تواجدها في صناعة السينما هذه الايام، ففي مشهد رائع نرى لورنس يتحمل الم نار عود ثقاب مشتعل على كفة يده كي يبرهن الارادة في الانتصار على الالم و التعذيب من خلال التركيز الذهني، و التامل.في فبلم خالي من اي عنصر انثوني على طوله اذا استثنينا لقطاته الاولى في تشييع جثمانه الشاب في كاتدرائية quot;سانت بولquot;في لندن، و هذا يحدث في بداية الفيلم، وبعد حادث وفاته و هو يقود دراجته ، و في محاولته تجنب دهس أحدهم على دراجة هوائية.
بعد ذالك يحاول quot;سام سبيغيلquot; معاقدة اكثر ممثلي هوليوود شهرة، و أغلاهم سعرا، هذا كان quot;مارلون براندوquot;الذي رفض العرض الكريم لانه كان متورطا في بطولته فيلم quot;التمرد على السفينة بونتيquot; الذي انتج في نفس العام، كان المنتج يريد نجما اميريكيا في أعتقاده الصائب ان هذا سيساعد على تسويق الفيلم تجاريا في الولايات المتحدة، و اخيرا يكتشف الممثل الشاب quot;بيتر او تولquot;1932.في عرض اختباري أذهل الجميع، و هذا كان في ملامحه و زرقة عيونه، و غرابة اطواره كان يقترب كثيرا من بطل القصة.
اروع ممثلين تلك الفترة ساهموا في هذا الفيلم مثل quot;اليك غينيسquot; 1914-2001 و quot;انتوني كوينquot; 1915-2001، و quot;كلود رينسquot; 1898-1967، و ممثلين آخرين، ولكن المخرج لم يكن سعيدا جدا في التعاقد مع نجم السينما المصرية و العربية quot;عمر الشريفquot; 1932، الى ان يكتشف براعة هذا و جهده الدوؤب في التمارين على دوره كل الليالي قبل التصوير، كان اداء الممثل المصري رائعا جعل منه منه صديقا شخصيا للمخرج العظيم حتى وفاته.
في ضخامة صناعة الفيلم كان quot;لينquot; يريد تقسيم البطولة بين مشاهد التصوير الخلابة، و غزوات الصحراء، و بين الاداء الفذ لكل الممثلين، و ينجح في هذا، فهو تمكن من السيطرة على كل العناصر، من الاداء، الى جمال التصوير الملحمي، و الحدث في سحرية فريدة، و نادرة لا يستطيعها غيره.
قصة هذا الفيلم الاسطوري تتلخص في تجنيد الشاب الذكي quot;ت. أ. لورنسquot; ضابطا في مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة اثناء الحرب العالمية الاولى، و رغم غموض شخصيته يكلف بمهمة الاتصال مع الامير فيصل الذي كان يقود تمردا ضد السيطرة العثمانية في بلاد العرب، في زمن عهود و وعود الامبراطورية البريطانية لقادة الثورة التي كان يقودها الشريف حسين في مكة.وعود لم يشفى منها العرب الى يومنا هذا، و الشاب لورنس يقوم بواجبه، و يعشق الصحراء و اهلها و يعدهم بأسم الحكومة البريطانية، الاستقلال من السيطرة العثمانية ثم خلق كيان عربي موحد، أو دولة عربية موحدة من الخليج الى المحيط، وعود سرعان ما كذبتها معاهدة quot;سايكس-بيكوquot; التي قسمت عالم العرب الى دويلات، و محميات تحت وصاية بريطانية -فرنسية، وجدا quot;لورنسquot;نفسه ضحية الغش السياسي ليقول فيما بعد quot;دائما بين اللصوص هناك شئ أسمه كلمةquot;شرفquot;، كلمة لا توجد في قاموس السياسيينquot;.لينتهي متذمرا من ردائة السياسة، و من النزاع اللئيم بين العرب الذي سيقودهم الى نزاع متواصل على مدى القرن الماضي، و يعود وطنه ليموت في حادثة سير بسيطة.،، أخيرا يبقى سؤالي الشخصي كيف ماتquot;توماس ادوارد لورنسquot; ؟ رجل الاسرار السياسية المخيفة، هل كان حادث الدراجة الهوائية مدبرا؟، أعني الرجل الذي تجنب الف حادث موت و قتل في مغامرته الصحراوية، هل من المعقول ان يموت في حادث تافه؟؟