حميد مشهداني من برشلونة: في منتصف الستينات، وفي ليلة صيف ساخن كنا ننام على سطوح المنازل، وبينما كان الكل يغط في نوم عميق كانت احاول قراءة مجلتي المصورة rdquo;بساط الريحrdquo; على ضوء القمر في سريري القريب من السلم الذي يقود الى صالة الدار التي منها منها كنت اسمع اصواتا، و ضجيج ملح لم اتوصل تفسيره، عدت إلى القراءة مرة اخرى ولكن بعد قليل صار الضجيج صراخا جعلني أقفز من فراشي، وأنا انزل السلم بحذر كنت اسمع احدهم يصرخ بحرقة ldquo;ستيلا،،،، ستيلا،، rdquo; أسرعت الى الصالة لاجد اخي الاكبر امام شاشة التليفيزيون، التي منها يطل شاب ممزق القميص يصرخ اسم زوجته بلوعة و الم، في وجهه كان تعبير الاسى و الندم واضحا. في تلك الليلة عرفت ldquo;مارلون براندوrdquo; لاول مرة في حياتي التي على طولها لم أنس هذه اللحظة الساحرة، ومع اخي سهرت لمشاهدة الفيلم الى نهايته، ونهاية أرسال تلفزيون بغداد، ولكنني كنت في حيرة حيث لم اصل الى تفسير عنوانه ldquo;عربة اسمها الرغبةrdquo; أنا اعتبرته عنوانا نزقا لا علاقة له بما شاهدته، و اخي مترددا اخبرني ان هذه السيدة تصل بيت اختها في باص نقل عام أسمه ldquo;الرغبةrdquo; وهو يضحك من سذاجتي قال لي ان هذا طبيعي في تسمية عربات النقل العام بأسماء الاحياء المقصودة في النقل، وذكرني بالعديد من اسماء باصات ldquo;مصلحة نقل الركابrdquo; البغدادية، مثل باص ldquo;راغبة خاتونrdquo; وldquo;السفينةrdquo; وldquo;العطيفيةrdquo; الخ... وكان على حق .
المسرحية الخالدة التي كتبها ldquo;تينيسي ويليامزrdquo; 1911-1983 في منتصف الاربعينات لاقت نجاحا واسعا لم يستطعه المؤلف حتى ذالك، وبعد ان قام باخراجها ldquo;ايليا كازانrdquo; 1909-2003 على مسارح برودواي صارت و بحق انعطافا تاريخيا في العمل المسرحي من كل جوانبه، و هي منذ ذالك التاريخ ما زالت تقدم في العديد من بلدان العالم الى هذا اليوم.
منذ تقديمها الاول في عام 1947 تحول العديد من ممثليها الى نجوم سينمائية فيما بعد. ولكن المشكلة الاساسية كانت اختيار الممثل الثاني الذي سيؤدي دور ldquo;ستانليrdquo;لان الادوار الاخرى كان قد أتفق عليها مسبقا و دور هذا بقي معلقا بسبب الخلاف مع المنتجين، والمخرج بعد اعتذار ldquo;جون غارفيلدrdquo; العمل لانه كان لا يطيق ldquo;جيسكا تانديrdquo; الممثلة الرئيسية، احدهم اقترح ldquo;برت لانكسترrdquo; لهذا الدور وهذا كان مشغولا جدا في اعمال مسرحية، و سينمائية، اخيرا قرر ldquo;كازانrdquo; ان يختار ldquo;وليامزrdquo; من سيكون البطل الثاني للمسرحية،، وهو الذي كان قد تعرف على الشاب ldquo;مارلون براندوrdquo; 1924-2004 الذي كان يدرس المسرح في ldquo;استوديو الممثلrdquo; العتيد الذي اسسته ldquo;ستيلا ادلرrdquo; و يقترح على هذا زيارة ldquo;وليامزrdquo; في بيته الصيفي، في مذكراته الرسمية يشرح الممثل العظيم الحكاية قائلا، rdquo;نصحني ldquo;كازانrdquo; زيارة ldquo;تينيسيrdquo; في منزله الصيفي، و اعطاني20 دولارا لشراء بطاقة القطار، و هذا المبلغ صرفته قبل خروجي من ldquo;نيويوركrdquo; بسبب افلاسي المتعب، و كان علي السفر بطريقة ldquo;اوتوستوبrdquo; و وصلت بعد 3 ايام من الموعد المحدد حيث وجدت المسرحي منهمكا في تصليح مواسير المياه في المطبخ و في بيته كان عطل كهربائي ايضا فعرضت عليه المساعدة في هذه المهمة لانه كان لا يعرف شيئا في هذا الشان، و قمت بتصليح كل شئ، هكذا التقيت المؤلف الرائع لاول مرة في حياتي.rdquo;و هذا ما حدث فعلا، لان براندو كان قد اكتسب خبرة في هذا المجال خلال انتسابه الى أكاديمية ldquo;ويست بوينتrdquo; العسكرية المرموقة، و تمكن من تصليح المواسير و الكهرباء قبل ان يبدأ قراءة النص امامه و اثناء القرائة ذهل ldquo;وليامزrdquo; امام اداء هذا الشاب، و رغم ان دورrdquo;ستانليrdquo; كان قد كتب لرجل اكثر نضوجا في العمر من الشاب ldquo;براندوrdquo; يتخذ وليامز قرارا حاسما في منحه فرصة تمثيل هذا الدور، و ينشر الممثل في مذكراته رسالة وليامز الى وكيله في نيويورك و تبدأ هكذا ldquo;لن تستطيع ان تتخيل الارتياح الذي اشعر به في عثوري على ldquo;ستانلي كوالسكيrdquo; في شخص ldquo;مارلون براندوrdquo; لم يخطر في بالي اهمية اختيار ممثل شاب ليلعب هذا الدور، فهو سيجعله اكثر انسانية في اكتساب القسوة والعنف من رجل ناضج و شرير في اصلهrdquo; كان عمر الممثل حينذاك 22 عاما.
هذا عن المسرحية، اما عن الفيلم الذي صنع بعد3 سنوات من انتاج ldquo;وارنرrdquo; أعود و اقول كما في مقالات سابقة ان الافلام التي صارت رموزا في تأريخ السينما هي تلك التي صنعت من قبل سينمائيين محترفين، مهنتهم كان تدوم على مدى 24 ساعة من كل يوم، وكان ضروريا تعامد الكواكب لتحدث معجزة الخلق و الابداع، وهذا حدث في تعامد 4 كواكب rdquo;ايليا كازانrdquo;و ldquo;تينيسي وليامزrdquo; وldquo;مارلون براندوrdquo; و ldquo;فيفيان ليrdquo; 1913-1967 و صار في قمة الافلام ذات الاصل المسرحي في تبنيها سينمائيا.
وليامز، مع صديقه كاتب السيناريو السينمائي المحترف ldquo;اوسكار ساؤلrdquo;1912- 1994rdquo; يصيغون السيناريو النهائي مع ملاحظات ldquo;كازان ldquo; التقنية التي لم تفلح في اخفاء الاصل المسرحي للعمل السينمائي، فكيميائية الاداء بين ldquo;فيفيان ليrdquo; و ldquo;براندوrdquo; يصل ذورته في الحوارات الصمة و العنيفة بينهما، فأمام قسوة العامل ldquo;ستانليrdquo; أبن الاحياء الشعبية يضيع الفخر و الغرور ldquo;الجنوبيrdquo; لـldquo;بلانشrdquo; و هذه تتضاءل الى كائن يستحق العطف و الرحمة في غنائية مرة و مؤلمة، و هنا يبدأ التركيز على الدراما الاجتماعية كما في كل اعمال ldquo;وليامزrdquo;المسرحية- السينمائية اللاحقة.
في هذا الفيلم يحلل شخصية ldquo;بلانشrdquo; وهي سيدة من الجنوب تعاني مأزقا اجتماعيا و اخلاقيا و حتى اقتصاديا و على حافة الهاوية تقرر زيارة شقيقتها الصغرىrdquo;ستيلاrdquo; و هذا الدور تقوم به الممثلة ldquo;كيم هنترrdquo; 1922-2002، وهذه تركت ثروة العائلة لتتزوج من عامل شاب ldquo;ستانليrdquo; ذي اصل بولندي و تعيش مع هذا في احد احياءrdquo;نيواورليانزrdquo; الشعبية الفقيرة، و حين و صولها الحي البائس تشعر انها ستنتهي في جحيم أكثر قسوة بسبب من أعتيادها على الترف و الثروة و هي لم تكن في انتظار وضعا اكثر بؤسا، فهي فقدت عملها كمدرسة لمادة الادب في أحد المعاهد بسبب شذوذ علاقاتها مع تلاميذها بعد انتحار زوجها، لتفقد بعد ذالك منزل العائلة الكبير في صرف و بذخ غير معقول، وهذا البيت كان أرثا لشقيقتها ايضا. فهي اولا تصدم ببؤس الحي و سكانه، و ثانيا بتواضع و فقر منزل ldquo;ستيلاrdquo;، و ثالثا و الاسوأ هو تعرفها على زوج اختها ldquo;ستانلي كوالسكيrdquo; الشاب الفظ في تعامله، و هي لم تنتظر كثيرا كي تبدي امتعاضها من شروط العيش تلك، و هي ابنة الجنوب المغرور و تعنف شقيقتها على تحمل العيش مع زوج امّي و وضيع، و تشير ايضا الى اصله غير الاميركي النقي، ولكن كل هذه الحجج لم تجد في تخريب العلاقة الزوجية المتواضعة، و في النهاية هي تعي في داخلها ان حياة ستيلا و اسلوب عيشها هو اجمل بكثير من شروط حياتها المتدهورة من جميع الجوانب و هي اسوأ بكثير من تلك التي تعيشها اختها.ليبدأ شغبها، و مشاكساتها في أطار حلمي و هذياني مضطرب يلامس الجنون، و هذا يقود الى جحيم التعايش بين الثلاثة،،

هنا تكمن فكرة ldquo;وليامزrdquo; فهو يركز على شخصيتين في تضاد لا يطاق، rdquo;بلانشrdquo; الحالمة المتناقضة، المغرورة و الغيورة التي لا يتحمل ذهنها المعقد السعادة في ظروف عيش بسيطة في حي شعبي كان يثير فيها القرف الدائم، و ldquo;ستانليrdquo; الشاب و الزوج البسيط و الخشن الاخلاق في محاولة تشريح العلاقات الاجتماعية و توازنها المستحيل، rdquo;ستانليrdquo; لم يكن يرى في شقيقة زوجته كائنا ضائعا و فاقد امل و أسيرا في زوايا الاحباط و الفشل، لم يكن يعي جهدها المتعب في محاولة الخلاص من مازق الحياة المتعثرة، لم يكن يعي بؤسها، عكس ذالك تماما فيها كان يرى امرأة تحسب بدقة كل الاشياء، لمس خداعها و تخيلها افعى سامة ستفسد تقليد حياته البسيط و الرتيب. و هي بدورها ترى فيه رجلا خشنا و قاسيا، و قليل الذوق و اميا، و لا تحتمل أصله ldquo;البولنديrdquo; ففي عروقها مازالت العنصرية الجنوبية التقليدية. و هذا ما كان يركز عليه ldquo;وليامزrdquo; حيث يقول فيما بعد ldquo;لا احد يرى احدا كما هو، الا عبر مركبات النقص التي يعانيهاquot; فالسيدة ldquo;بلانشrdquo; تدخل حياة ldquo;ستانليrdquo; و ldquo;ستيلاrdquo; كما يقتحم فيل دكان زجاجيات و تدق اسفين الخلافات بينهما، و هي السيدة ذات الماضي الملئ بالفضائح و الشائعات، ثم افلاسها غير المبرر في هوس التبذير و الصرف في شراء المجوهرات و الثياب الغالية، و فقدانها منزل العائلة الكبير الذي اثار حنق ldquo;ستانليrdquo; لانه كان يعتبر نفسه مالكا ضروريا لحصة من هذا البيت حسب التشريع النابوليوني الذي كان نافذا في ولاية الميسيسبي. فيجد هذا على تعقيد حياتها المريرة و هي تحاول طريق الخلاص الاخير بين الهذيان و الجنون، و يتعمد في هدم علاقة الحب التي بدأت مع واحدا من أعز اصدقائه ldquo;ميتشrdquo; و هذا الدور يؤديه بشكل رائع ldquo;كارل مالدنrdquo;1912-2009rdquo; الممثل الثانوي الابدي ذو الاصل الصربي، الذي فاز بجائزة الاوسكار على دوره هذا في 1951و صار واحدا من اشهر الممثلين ليرافق ldquo;مارلون براندrdquo; في العديد من الافلام اللاحقة.
ستانلي، واعيا الارتباك العقلي لشقيقة زوجته، يعمل جاهدا في تفكيكها النفسي كل يوم، و في كل مناسبة لانه كان يعتبرها نوعا من السم الردئ كان ينتشر ببطء في علاقته مع زوجته و اصدقائه و لكن المشاهد لا يستطيع ان يقف جانب طرف ما، فالشخصيتين فيهما من رداءة لا تطاق، فهي في خيال اخلاقي متناقض تستميت في تدمير العلاقة الزوجية لشقيقتها، و ldquo;ستانليrdquo;من بساطته و شره احيانا يثابر على في الحفاظ على عائلته بطرق ملتوبة ليصير عرضة لحقد اصدقائه و حتى زوجته. هنا تكمن قصة الفيلم باختصار شديد.
فيفيان لي تفوز ثاني ldquo;اوسكارrdquo; بعد فوزها في فيلم ldquo;ذهب مع الريحrdquo; و تؤدي دورا لا ينسى في كماله و روعته، فترتيب الفيلم و اخراجه كان بصدد تكريس شخصية ldquo;بلانشrdquo; التي كانت هم المؤلف و المخرج الاساسى، و لكن دور ldquo;مارلون براندوrdquo; فاق كل التصورات. و هو في السادسة والعشرين من العمر يعطي للفيلم بعدا جديدا لم يكن يحلم به لا المخرج و لا المؤلف، و رغم عدم فوزه بالجائزة كانت مساهمته حاسمة في نجاحه فنيا و تجاريا في اداء يفوق احيانا اداء البطلة و هو يقوم بشخصية ldquo;ستانليrdquo;الاميركي العادي و البسيط بقمصانه الممزقة و عرق الكحول و زيت الماكنات. تلميذا في ldquo;ستوديو الممثلrdquo; تحت اشراف ldquo;ستيلا ادلرrdquo; يبدأ أسلوبا جديدا و فريدأ في الاداء السينمائي و اثر لاحقا في العديد من ممثلي ذالك الجيل مثل ldquo;مونتغومري كليفتrdquo; و ldquo;جيمس دينrdquo; وldquo;ماريلين مونروrdquo; وأخرين، وقمة الاداء الرائع غطت كثيرا على عناصر صناعة الفيلم الاخرى مثل التصوير البارع لrdquo;هاري سترادلنغrdquo;1901-1970 في تصوير ليلي دائم و مؤثرات ضوئية غاية في الجمال لم تبرز اهميتها رغم ترشيحه الجائزة التي حرم منها زميله الموسيقي ldquo;اليكس نورثrdquo;1910-1991، الذي اضاف عنصرا جديدا في الموسيقى التصويرية في تخليه عن اللحن السيمفوني الاوربي الذي كان اعتادت عليه صناعة السينما في هوليوود حتى ذالك الحين، وأعتمد كثيرا على أساليب الموسيقى المحلية مثل ldquo;الجازrdquo; وldquo;البلوزrdquo; ربما بسبب ان ldquo;نيوأورليانزrdquo; كانت مهدا لها.
كان الفيلم قد رشح الى 12 جائزة أوسكار و حصد منها على 4 في عام 1951 ldquo;فيفيان ليrdquo; على أحسن ممثلة رئيسية، و ldquo;كارل مالدنrdquo; على أحسن دور ثانوي و ldquo;كم هنترrdquo;1922-2002 على دورها ldquo;ستيلاrdquo;. ثم الاوسكار على الاخراج الفني.