حميد مشهداني من برشلونة: في بداية الستينات، وبعد عرض الفيلم في بغداد صار هذا ايقونة عشاق السينما في تلك المدينة الجميلة والمسالمة انذاك، فعرضه كان شبه مستمر في كل دور السينما العديدة، من شارع السعدون الى علاوي الحلة مرورا بحي الشواكة. وحتى عنوان الفيلم صار مصدرا للعديد من الامثال الشعبية.
في ذاكرتي طريفة تتعلق بهذا الفيلم، حينها كنت اعاني من وعكة صحية بسبب برد ذالك الشتاء الستيني وكنت مردتديا quot;روبquot; فوق ملابسي العادية حينما فاجأني بعض الاصدقاء بزيارة دون سابق انذار، وهم في طريقهم الى دار quot;سينما زبيدةquot; وهذه كانت قريبة من البيت نسبيا، الفكرة كانت ان ارافقهم لمشاهدة فيلم quot;مدافع نافارونquot; وهذا كنت قد شاهدته سابقا في سينما quot;ريجينتquot; وبعد الملحة، والاخذ والرد وجدتني في واحدة من عربات النقل الشعبية السريعة التي تغطي الطريق بين quot;علاوي الحلةquot; وحي quot;الكاظميةquot; وبيتي كان في شارع موسى الكاظم الذي يربط كل الاحياء المحاذية لنهر quot;دجلةquot; العظيم، لم تنفع حججي أني شاهدت الفيلم، بجانب علتي الصحية ذالك المساء، اقتنعت اخيرا بينما كانت عربة النقل تقترب بسرعة اسوار مقبرة quot;الشيخ معروفquot;، كان سعر السفرة 10 فلوس، وبطاقة السينما كان سعرها 40 فلسا.
شاهدنا الفيلم، و خرجنا من quot;سينما زبيدةquot; التي كانت مشيدة حديثا، و كانت دار عرض انيقة في حي شعبي، و في البهو كان من العادة ان يتجمع المشاهدين لتبادل الانطباعات عن الفيلم و شرب قناني quot;بيبسي كولاquot;، في هذا الحال كنت مع اصدقائي حين اثار انتباهي نظرات وهمس بين فتاتين، انا كنت هدف الهمس هذا و كنت فخورا به لمدة عشرة ثوان، لم يكن ذالك أعجابا بي و حالا اكتشفت انني

مازلت مرتديا quot;الروبquot; فوق ملابسي كما بهلوان في سيرك، و شعرت باحباط، و خجل ضاعف قلة مناعتي الصحية، و عاتبت نفسي نسيان هذا الروب اللعين فسارعت الاختفاء خلف احدى الستائر لاانزع هذا الرداء السخيف كي اظهر بعد لحظة في صورة اكثر سخافة، ففي ذالك الشتاء البارد كنت ارتدي ملابس خفيفة، في هذا المظهر المضحك لبعضهم، و المبكي لي، و الروب الملفوف تحت ابطي لم اجد حلا غير الاسراع في الخروج من الصالة كي ارتمي في المقاعد الاخيرة في واحدة من العربات التي تمر منزلي، لاعنا طريقة اصدقائي هذه الدعوة.
في فترة المراهقة اكثر ما كان يثيرنا من الافلام كانت quot;طرزانquot;و quot;هرقلquot; و افلام quot;الكاوبويquot; حيث لا قنابل و لا متفجرات هائلة، هذا كان تحولا في طريقة المشاهدة للسينما، و بدا اهتمامنا بما يسمى اليوم افلام quot;الاكشنquot;.
بجانب العنف والمغامرة يطرح الفيلم قضايا انسانية و عاطفية، و مواقف اخلاقية حاسمة، فحربية الشريط لم تترك جانبا طراوة المشاعر الانسانية السامي منها والساذج، و حتى الشكيك الوجودي في جدوى الحرب، و نرى في نسبة متعادلة الشرط الانساني في اطار مثير ملئ بالمغامرة والتوقع.
فيلم quot;مدافع نافارونquot; الذي انتج في عام 1961 بتعاون بريطاني ndash;اميركي من قبل شركة quot;كولومبياquot; يعيد الى الذاكرة وسائل صناعة السينما قبل 5 عقود، أقصد أفلام الحرب و المغامرات، ففي ذالك الحين كان الابداع في هذا المجال يبدو حرفيا، و يدويا، لو نقارنه بافلام الاكشن المعاصرة. حيث تبنت صناعة السينما الان اداة quot;الكومبيوترquot; لخلق أكثر اللقطات اثارة بالنسبة للمشاهد، فاليوم شركات الانتاج السينمائي ليست بظرورة ان تعاقد الاف من quot;اكستراquot; كما في فيلم quot;سبارتاكوسquot; لquot;كوبريكquot; او quot;لورنس العربquot;ل quot;ديفيد لينquot; مثلا. نأخذ فيام quot;المصارعquot;ل quot;ردلي سكوتquot;وهو شريط رائع بدون شك، و لكن المخرج صنع اكثر من نصفه مستخدما quot;ديجيتالquot;الكومبيوتر المتطور، وهذا صار عاديا في يومنا هذا، الجميل في هذا الفيلم الذي نحن بصدده الان هو ان الحكومة اليونانية قدمت للمخرج كل وسائل و امكانيات وزارة الدفاع من عربات، و مدرعات حربية، و الافا من الجنود كي تمنح نوعا من الواقعية للشريط.
قصة الفيلم تختصر في محاولة قوات الحلفاء تدمير حصنا مطلا على بحر quot;ايجةquot;كانت القوات النازية قد استولت عليه في بداية الحرب العالمية الثانية، حيث نصبت اقوى الاتها الحربية في مرتفع حيث تقع قرية quot;نافارونquot; وهذه كانت المدافع المدمرة و الرهيبة، و البعيدة المدى و التي كانت لا تسمح لاأساطيل الحلفاء في التحرك بحرية في هذه النقطة من البحر المتوسط، و هذا أقلق الحلفاء و الحكومة البريطانية بشكل خاص، و تدمير هذه المدافع صار امرا مصيريا، و لكن وعورة موقعه، و الدفاع الجوي الالماني المحكم كان يجعل مستحيلا تنفيذ هذه المهمة. و هنا تلجاء وزارة الحرب البريطانية الى محترفين من مقاومي النازية مثل quot;كيث مالوريquot;الذي يؤدي دوره بقناعة رائعة quot;غريغوري بيكquot;1916-2003 وهو خبير في تسلق الجبال، هذا كان الشرط الرئيسي، وخبيرا في المتفجرات، و بسبب تعاونه السابق مع المقاومة ضد النازية في اليونان تختاره المخابرات البريطانية ليعود الى اليونان مع فريق خاص من الجنود، خلف خطوط العدو، و بعد الهبوط في مظلات، تبدأالرحلة القاسية الى quot;نافارونquot; بجانب أفراد المقاومة اليونانية، رحلة مليئة بالمغامرة و التوقع الذي يأخذ الانفاس، حيث يظهر الحقد الضغين السابق بين quot;مالرويquot;و quot;اندريه ستارفروسquot;الذي يؤدي دوره quot;انتوني كوينquot;1915-2001 في أجمل اعماله السينمائية، و بأعتقادي ان المخرج الاميركي quot;ج. لي تومبسونquot;1914-2002 اللاجئ في بريطانيا بسبب عدم تعاونه مع لجنة مكافحة الشيوعية التي قادها السيناتور السكيرquot;ماكارثيquot;، أراد ان يخلق جزا من الاسطورة الاغريقية باضافة quot;اوليسيسquot;المشهور في الالياذة بذكائه وشجاعته، و هذا ما يحصل مع quot;انتوني كوينquot; فهو احيانا quot;داهيةquot; جبانا امام الالمان، و شجاعا احيانا أخرى حسب شروط المغامرة. ثم تتفجر المشاعر الانسانية في حالات عالية في الحدة بين المجموعة حينما يتركوه أسيرا جريحا بيد الالمان و بعلومات غير صحيحة حول الخطة، و هم على يقين بأن رفيقهم هذا سيعذب حتى الموت، هنا واحدة من قمم الفيلم حيث يبدأ نقاش حاد حول جدوى الحرب بين قائد المهمة و quot;ديفيد نيفينquot;1910-1983 الذي يلعب دور ضابط احتياط أجبر على المشاركة في هذه المهمة، وهنا لا يترك المخرج فرصة طرح الفكاهة الانكليزية الشهيرة على لسان هذا الضابط ليعطي للفيلم نوعا من المرح بين لحظة و أخرى، هنا اقصد الفكاهة الانكليزية الذكية،
عنوان الفيلم هو quot;مدافع نافارونquot; ولكننا لا نرى الا الدقائق الاخيرة منه، حيث تنتهي العملية بنجاح، ولكن القصة التي كتبها الكاتب الاسكتلندي quot;اليستر ماكلينquot; 1922 ndash; 1987 الشهير برواياته الحربية، هنا يركز على الشرط الانساني و يطرح غرابة هذا في ظروف الحرب. النزاع بين الضمير و الواجب الوطني و العسكري و نتائجه، من سيحسم هذا امام وضع محدد و حرج في حالة مصيرية؟ ففي سفرة المغامرة المصيرية هذه نرى كل الانفعالات الانسانية. من الحب الى الحقد و الخيانة.
في هذا الفيلم تدخل الممثلة اليونانية quot;ايرين باباسquot;1926. ابواب هوليوود في أفلام لاحقة، تؤدي دورا عالي الانفعال كعضوة في المقاومة اليونانية ضد النازية، في الفيلم تتخلى عن اصلها المسرحي لتواجه الكاميرا السينمائية بحرية تثير الاعجاب.
موسيقى الفيلم يضعها واحدا من اشهر مؤلفي الموسيقى التصويرية على مدى العقود السبعة الاخيرة quot;ديمتري تومكينquot; هذا يجهد في البحث الموسيقي اليوناني الشعبي بالحانه و ادواته الموسيقية الشرقية،، مثل quot;العودquot; و أجمل المقاطع هي تلك التي تعزف و تغنى في حفل زفاف.
اما التصوير كان على عاتق المحترف quot;اوزوالد مورسquot; كان رائعا ولو كان تصويره عاديا لما فاز بجائزة الاوسكار اثنين من خبراء المؤثرات التصويرية quot;بل وارنغنتونquot;و quot;كرس غرينهامquot;. كان الفيلم قد رشح الى 7 جوائز اوسكار في 1962.
أهدي هذا المقال الى السينمائي ndash;جمال السامرائي-