صباح الدبي: الشعر هذا الجنس الأدبي الزئبقي المستعصي على القبض، السابح في ملكوت الرؤى لا يمكن إلا أن يظل مرتبطا بفضاءات إنشاده في سياقات زمنية ومكانية يتألق بها وفيها، حيث يضمن له اللقاء بالآخر أسباب الحياة والتجدد لحظة القراءة و الإلقاء، وهذا أمر يسجله تاريخ القصيدة العربية منذ نشأتها حيث يتماهى الشاعر والجمهور والنص في طقس إنشادي يتحقق به التأثير والتأثر وتتواصل فيه مقامات الإنشاد والإصاخة، وإذا كان التجربة الشعرية المعاصرة قد انفتحت على آفاق جديدة تؤسس لتلقي النص من خلال تحولاته الكتابية ورهانه على مؤشرات أخرى تؤثث حضوره عبر تمظهراته الكتابية القائمة على ما تلتقطه العين من بياضات وتثوير للدال الخطي والبصري بشكل يفسح المجال أمام إيقاعات موازية جديدة،فإن هذه التجربة لا تستطيع الاستغناء عما تأصل من شروط تلقيه المقترنة عادة بتوهجه على منصة القراءة في لقاء احتفالي جماهيري يعيد إنشاء القصيدة، ويبني آفاق تلقيها وإلا لكان من الممكن آن ينزوي القارئ في فضاء يختاره لقراءة النص الشعري كما يحدث مثلا مع النص الروائي و هذا أمر لا يستقيم بالنسبة للشعر بل إن الشعر لا يستمد مفهومه إلا في سياق هذا التماهي الباذخ بين الأقطاب الثلاثة: الشاعر والنص والجمهور.
في هذا السياق تستوقفنا و نحن نتابع بعض الأماسي الشعرية المقامة على هامش المعرض الدولي للكتاب مجموعة الإشكالات التي تسائل طبيعة هذه العلاقة الثلاثية الأبعاد، كيف يمكن للقصيدة أن تؤسس لحضورها الجماهيري الباذخ وكيف يمكنها أن تستميل الجمهور في طقوس إنصات تليق بحضرة النص الشعري؟ وهل يتوفر النص على ما يكفي من عوامل الجذب التي تجعل منه جذوة توقد الانفعال والتفاعل في فضاءات تستمد شعريتها من شعرية هذا التماهي وتسمح بتحقيق الغاية المرجوة من اللقاء الكامنة في تقاسم لذة النص وتوهجه؟ وهل للجمهور ذاته وهو القطب المقصود بالإنشاد دور في تفعيل وتيرة هذا التلقي؟
لا يمكن أن ننفي ما قد تشعله بعض طقوس القراءة من سحر الانفعال و التفاعل غير أننا لا يمكن في الوقت ذاته أن نغض الطرف عما تثيره هذه اللقاءات من برودة جاثمة ناجمة عن خلو فضاء الإنشاد إلا من نزر يسير من المهتمين تكاد الكراسي الفارغة تفقدهم متعة الاندغام في الطقس الجماعي وتكاد بعض القراءات الباهتة المثقلة بالرتابة والتكرار بشكل يفقد المتلقي متعة الدهشة وينبئه بما سمعه في فضاءات قرائية سابقة و أحيانا بالجرم اللغوي و بما قد ينجم عن إكراهات الترجمة من فقدان النص الأصلي لمائه الرقراق...
إننا مدعوون لإعادة النظر في طبيعة هذه العلاقة بشكل يسمح بتحقيق المصالحة بين الشعر وجمهوره وسياقاته الزمنية والمكانية حتى لا تتحول الفضاءات إلى مرتع يعمق الهوة والفجوة كما أن الجمهور مدعو أيضا إلى تفعيل دوره وهو يقبل على تلقي النص الشعري لحظة إنشاده
ليس المهم إذا أن نراهن على الكثرة وعلى التسجيل الذي قد يثري فقرات البرنامج كميا وإنما نحن مطالبون بتفعيل هذه العلاقة من خلال الاهتمام بمختلف أقطابها لتحقيق الغاية المرجوة الكامنة في ما تتركه التظاهرة من أثر يظل موشوما في الأذهان...