عمار سلمان داود: في هذا النص اقتصر على وضع بعض الإرشادات المقتضبة التي اعتقد بأنها ستمنح المتلقي المبتدئ مدخلا يساعده في تطوير نمط تواصله مع العمل الفني.
فهو ليس سوى خطوة متواضعة على طريق طويل، متشعب وممتع. يتبادر الى ذهن البعض، ان هناك فرقا شاسعا فيما بين المرجعية الشكلية لبنية لوحة الوصيفات للفنان الاسباني فيلاسكز مثلا (تجد لها صورة في هذا المقال) وبين مرجعية شكلية اخرى لبنية لوحة لا تقل عنها اهمية وهي الجورنيكا لبيكاسو، وينسحب هذا الامر على عدد لا يستهان به من نقاد الفن عندنا ـ ولابد من ذكر ان اغلبهم يمتلك خلفية أدبية ستساهم في اعاقة علاقته بجوهر العمل الفني من الناحية البنيوية ـ ولهذا السبب سنجدهم يعولون على (الحس الجمالي بالفطرة )، او (الحساسية الشعرية). أقول: سيحكم هؤلاء على ان مبدع لوحة الوصيفات يهتم بمحاكاة مظهر العالم الخارجي والوصول بعنصر الايهام الى اعلى درجات تاثيره واما الثاني فسيعمد الى التخلي عن محاكاة الشكل الطبيعي لتغليب المرجع العقلي وليس الحسي في التعبير عن العالم من خلال الرسم.
وسيقودنا اذن الناقد ـ المطمئن وهما الى رجاحة حكمه الأدبي ـ الى التباس في الذائقة يجعل التواصل الفعلي مع الفن محجوبا بفعل ذلك الحكم الى ماشاء الله! وسيذهب اعتداد الناقد بخبرته الادبية الى تغييب الوعي الأعمق بطبيعة العمل الفني البنيوية وحقيقة أصوله التكوينية الغائرة في لب هذه البنية.
وهكذا سيتم إغراق النص النقدي بسيل من أساليب التعبير الشعري او الأدبي او منتج الخاطر الذاتي الذي هو اقرب الى تقنية قراءة الفنجان منها الى الفحص النقدي الظاهراتي القائم على الوصف الحيادي للظاهرة الابداعية وليس التحليق حولها.
اعرف ناقدا مهووسا بنشر نصوصه النقدية بغزارة ملفته للنظر، واكاد اليوم (بعد ان قرأت له الكثير) ان أحصي عشرات من الجمل المتشابهة تركيبا ومعنى ومفردات فيما كتبه من مئات النصوص! وكل هذا بسبب تعويله على حساسية شعرية ليست دائما نافعة في مسعى النقد الفني وغير مجدية بسبب التكرار الممل لصياغتها اللغوية التي ليس لها في اغلب الاحوال نسب حقيقي الى موضوعها. ولم اكن لاستغرب بعد ان تأكدت بأنه يكتب عن اعمال فنية لم يرها مباشرة بل من خلال اطلاعه على صورها ! فهو لا يأبه بالرؤية المباشرة للعمل الفني بسبب سذاجة تبنيه لاعتقاد خاطئ بالكتابة عن العمل الفني (كموضوع للتخمين) لا يستمد مضمونه من خلال مواجهة العمل الفني (كعيان) بل من خلال التعويل على الحكم العاطفي والذاتي.
ولن استغرب كتابته عن معارض لم ولن يحضرها لعين الاسباب.
كنت اتسلى احيانا بتخمين ما سيحدث ان اقتطعت نصا للكاتب عن اعمال عمر ووضعته بجنب اعمال زيد وفي الغالب لم اشعر بأي نفور بين النص وموضوعه المستبدل! هذا الناقد يشكل نموذجا تكاملت عنده كل أسباب سؤ الصنعة وله العديد من الأشباه في ساحة النقد الفني عندنا.
لنعد الى الوصيفات والجورنيكا، ولنضع جانبا أمر اعطاء الأولوية في تقييم العمل الفني من جانب محاكاته للواقع الخارجي وهو العائق العظيم الذي يقع فيه العديد من زوار المعارض اما العائق الأخر فهو تقييم العمل الفني من جانب موضوعه، فأقول، ان علينا اولا ان نضع هذين العاملين على الرف لفسح المجال لظهور (بنيته) والتي يقوم عليها العمل الفني حقا.
وسنكون الان في مواجهه أهم مسألة يثيرها العمل الفني ! فنحن وقبل كل شيء امام لوحتين متمحورتين على ذات المشاكل الخاصة بالمعالجة البنيوية والتي حاول كل من فيلاسكز وبيكاسو ان يقدماها لنا كقيما تكوينية للعمل الفني لها علاقة صميمية بالعصر الذي عاشاه. فالأول يشتغل على سطح اللوحة حسب القيم التكوينية التي استمدها في عصره وهو عصر الباروك لتوضع فيما بعد في طليعة الاعمال التي تعبر عن (التكوين الباروكي) وهو التكوين الذي خضعت له العديد من الأعمال في تلك الفترة بما فيها النحت والمعمار اما بيكاسو فسيعمد الى تفعيل السطح ضمن قيم تكوينية خاضعة الى المناخ الإبداعي العام للمدرسة التكعيبية التركيبية.
إذن، فان منطقنا هذا في مواجهة العملين يتضمن فحوى البحث في مشكلة الشكل وبالضبط التكوين أولا او بمعنى آخر : كيف يضع الفنان عمله ضمن مجموعة من العلاقات الشكلية كي يظهر لنا متكاملا من هذه الناحية.
وسيعتقد البعض من نقادنا ومتابعي الفن ان هذه الناحية مرهونة بالإحساس الفطري للمتلقي او بصورة ادق بمقدار تطور الناحية التخمينية لدي الناقد وهو امر لا يستقيم الى النهاية ولابد للناقد ان يكشف عن عجزه عن استيعاب المعنى الجمالي عاجلا ام آجلا ذلك لان الإحساس الفطري بالرغم من أهميته لن يخلق ناقدا او متلقيا جيدا والا لكان لكل مرهف حس ان يكون ناقدا او متلقيا فذا للأعمال الإبداعية.
أقول: ان هناك قوانين تحكم العلاقات بين مجموعة العوامل التي يتوفر عليها العمل الفني وهذه القوانين يكتسبها الفنان بالخبرة من خلال الممارسة، الدراسة، النظر الى اللوحات وتحليل بناءها، دراسة العلاقات الشكلية وطريقة تأثير الهيئات المختلفة فيما بينها، العلاقات اللونية.. الخ وهذه الخبرة هي التي جعلت كاندينسكي يؤلف كتابيه الشهيرين حول العمل الفني (من الداخل ) (كنظام علاقات ) وباول كلي في (دفتر التدريس ) وديبوفييه في كتابه المعنون(في سبيل فن خام ) و(نظرية في الرؤية ) للبولندي ستشمينسكي وغيرهم.
يمكننا هنا ان نأخذ مثالا لعمل فني ونحاول تحليله بصورة مبسطة لإعطاء انطباع مقتضب لكيفية ارجاع بنية العمل الى أصولها التكوينية.
سنأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
1-تحليل جميع عوامل العمل الفني من الناحية الخطية، أي ارجاع الهيئات والعناصر الى اصولها الخطية والنظر في علاقات هذه الاصول ببعضها.
2-النظر الى العمل الفني كمجموعة كتل وهيئات متفاعلة بمعزل عن دلالاتها المضمونية او الرمزية.
3-النظر الى الخطوط والكتل من خلال علاقاتها المحددة ضمن نظام فضاء اللوحة.
4-التعرف الى النظام الحركي في العمل الفني بالنسبة الى اوضاع الكتل والهيئات في مواقعها باعتبارها مصادر حركة واتجاهات.
5-النظر الى علاقة الهيئات والكتل والخطوط مع الفضاء المحيط بها والتعرف على النظام الذي وضعه الفنان لتقسيم سطح اللوحة.
6-دراسة الألوان وعلاقاتها باعتبارها عناصر مؤثرة في ابعاد اللوحة ونظام يحدد اقتراب او ابتعاد العناصر في ما بينها او بالنسبة لنا كمشاهدين.
7-الاهتمام بملمس السطح وما يتضمنه من نوعيات مختلفة: خدوش، بقع، كتل لونية خشنة، مساحات صافية، حفر...الخ
وبشكل مختصر، نمر بالعوامل التالية:
نظام تقسيم سطح اللوحة، اللون، ملمس السطح، الأبعاد، عوامل الصورة، الفراغ، الحركة.
ولتقريب هذا الأمر للقارئ أخذت لوحة (الوصيفات) للفنان الاسباني فيلاسكز ووضعت لها مخططا تحليليا لبعض العناصر المهمة التي جعلت اللوحة تظهر بهذا الشكل أمامنا.
وهي ذات النظم التي دعت بيكاسو الى ان يضع لهذه اللوحة دراسات جعلته ينجز أعمالا تعيد محتوى اللوحة بصياغته هو، حيث يؤكد بالدرجة الاولى على استخدام معالجة فيلاسكز التكوينية كأرضية لعمله الفني الذي هو نوع من التنصيص على عمل الآخر.
لكن ما ورد آنفا لن يلغي عامل التمتع بموضوع اللوحة الذي هو عدا كونه تسجيلا واقعيا لشخصيات عاشت في بلاط ملكي اسباني قبل اكثر من ثلاثة قرون، إلا انه أيضا محاولة للتعبير عن طبيعة وعي عصر الباروك (وضع الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل فوكو فصلا كاملا عن لوحة الوصيفات في كتابه المعنون الكلمات والاشياء) واشار الى مدى تشعب سبل التواصل وقراءة هذا العمل من ناحية محتواه الدلالي.
وهكذا أقول:
ان للعمل الفني مجموعة من النظم المحددة التي تتحكم بنوعية وطريقة ظهوره أمامنا ولا يمكن النظر اليه على انه مظهر من مظاهر الانعكاس الاعتباطي لعمل الفنان وحسب، بل هو محكوم بقوانين تكوينية تحدد نوعية ظهوره لنا شاء الفنان ام ابى، وجميع الأعمال بما فيها الكلاسيكية البحتة او الاكاديمية الصارمة التي تعتمد نزعة مطابقة الطبيعة او السوريالية التي تعتمد معطيات اللاشعور مرورا بالتكعيبية او الوحشية الى اقصى مراحل تطور الفن التجريدي بجميع مدارسه.. الخ اقول انها جميعا تنضوي تحت قوانين تنظم وتتحكم بنوعية ظهورها لنا.
التعليقات