عبد الجبار العتابي من بغداد: صدر للشاعر العراقي الدكتور خزعل الماجدي الجزء الرابع من الأعمال الشعرية بعنوان (خزائيل) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، يقع في 768 صفحة من الحجم الكبير، ويضمن الكتاب بين دفتيه : الشعر الغنوصي (المقدمة)، الشعر الغنوصي القديم، ترحيل الغنوصية من الأديان والفلسفة نحو الشعر، الغنوص وثنائيةالجسد/الروح، الشعراء وأنواع الشعر، طبقات الداخل الشعري، ميثولوجيا الغنوص الشعري، دورة الكلمة والغنوص الصاعد، دورة الرموز والغنوص النازل، غنوص خزائيل، ثم نصوص خزائيل:( الكتب الإثنا عشر)، الكتاب الاول: أول قيامة المقدّس الكتاب الثاني: استفاق النحاس فوجد نفسه بوقاً..فصل في العراك مع البوق، الكتاب الثالث: لانصّ معي ولا أشمُّ ملائكةً ولكني أحفر، الكتاب الرابع: الزنبقة، الكتاب الخامس: إنك بشع وغير كوني، الكتاب السادس: ليليث، الكتاب السابع: نهر النحيب، الكتاب الثامن: هو الذي رأى الله، الكتاب التاسع: غسق البتول،الكتاب العاشر: أجنحة هرمس، الكتاب الحادي عشر : صحائف آدم، والكتاب الثاني عشر: م.
يقول الماجدي عن كتابه أنه عملٌ شعريٌّ غنوصيّ (عرفاني) بمجمله لكنه يعدّه أيضاً نصاً مفتوحاً من حيث الإجراء، حيث ينسج (الأسطورة الشخصية) له، في هذا العمل، بصبر ودأب قلّ نظيرهما. وهو إذ يستبطن تاريخه الروحي فإنه يستلهم من تراثه الرافديني شحنات القاع الأكثر عمقاً في العمل،كذلك يفتح عينيه على التراث الغنوصي والمندائي والهرمسي ويجعل منه هيكلاً شاملاً للعمل يمكن القول أن هذا العمل هاضمةٌ كبرى لأنواع شعرية كثيرة ولمذاقات قديمة وحديثة كانت النواة لأعماله السابقة واللاحقة، ففيه السحر والأسطورة والجنس والفولكلور والحروفيات والتصوف واللذّة والغناء والرسم والصورة والرموز..إلخ، وهو يجمع الغموض مع الوضوح في تواشج كامل. ومهما اختلفنا في تقييم هذا العمل لكننا لن نختلف على ما يحمله من الشعرية وقوة الروح والوعي والبصيرة النافذة، ويمكن الاشارة الى ان (خزائيل) عملٌ منفذٌ باثني عشر كتاباً لكنه نصّ واحد متّصلٌ في حقيقة الأمر، ملحمةٌ عرفانية تسجل سبقها الفريد في تاريخ الشعر، وتأخذ الشعرَ إلى عوالم لا عهد له بها وهو ما يجعلها قابلةً للقراءة في كلّ عصر مثل الأعمال الكلاسيكية رغم حداثتها المتطرفة.. وهذه هي مفارقتها الكبيرة.
سبق للشاعر أن أصدر الأجزاء الثلاثة من أعماله الشعرية من نفس الدار، وقد ضم المجلد الأول ست مجاميع شعرية مكتوبة كقصائد نثر.أما المجلد الثاني فقد ضمّ سبع مجاميع أغلبها من قصائد التفعيلة، وضم المجلد الثالث ست كتب شعرية كنصوصٍ مفتوحة، والماجدي كاتب مسرحي صدرت له الاعمال المسرحية بجزئها الأوله، وله أكثر من 27 كتاباً في حقول الحضارات والأديان القديمة والمثولوجيا.

وفيما يأتي حوار مع الشاعر الدكتور خزعل الماجدي لتوضيح ما جاء في النص الذي طالما اثار جدلا :

* ما هذا (الغنوص) الذي قام عليه عملك الشعري؟
- الغنوصُ هو مفهومٌ ديني يرتكز على أساسِ فكرةِ الخلاص من الخطيئةِ عن طريق المعرفةِ، وكانت هذه المعرفةُ هي الماضي، حصراً، وهي المعرفةُ بالإله وأسرارِه وقواه بل والاتحاد معه وتمثلّهُ إذا تطلب الأمر ذلك وهو أقصى أشكال الغنوص حيث تعرف النفسُ أو الروحُ أنها جزءٌ من الإله فتعود الى أصلها وتتحد به.كان الغنوصُ مفهوماً شرقياً بدأ، تحديداً، مع حضارتي العراق القديم ومصر القديمة ثم ظهر في أديانِ الشرقٍ الأقصى وبقية أديانِ الشرقِ الأدنى، ثم رحل الى الإغريقِ وعاد معهم الى الشرق، في العصر الهيلنسي، وكأنه عاد الى أصوله ليظهر تيارٌ من العقائدِ والأديانِ والفلسفاتِ اسمهُ )الغنوصية.

* ما اصل الكلمة وأية انتماءات اخرى متعلقة بها؟
- غنوص (gnose) كلمة يونانية الأصل مأخوذة من (gnosis) ومعناها (المعرفة) وقد استعملت أيضاً بمعنى العلم والحكمة وتترجم الى العربية بصيغة (العرفان) وهي شرقيةُ الأصلُ، لا في شكلها اللغوي اليوناني هذا، بل في معناها ووجودها كمسعىً وحالةٍ حيث ظهرت في الأديان العراقية والمصرية والشامية والفارسية وعبرت عنها اللغةُ الآراميةُ بكلمةِ (مندا) التي صارت اسماً لطائفةٍ دينيةٍ آراميةٍ كانت كلّ ديانتها تقوم على أساس العرفان وهي (المندائية) ثم ظهرت في الأديان الهندية والصينية ولم تصل الى الإغريق الا بعد أن قطعت شوطاً طويلاً من الاختمار والنضوج حيث شاع اصطلاحها الإغريقي gnose وعُرفت به، أما الغنوصّية (gnosticisme) فهي تيارٌ أو مذهبٌ ديني / فلسفيّ / علميّ ظهر في القرن الثاني للميلاد تحديداً وحاول أن يعطي الغنوصيةَ إطاراً أديولوجياً وعقلياً وروحياً متماسكاً واستعان هذا التيارُ بالتعاليمِ الهرمسيةِ التي انحدرت اليه من أزمانٍ بعيدةٍ في الشرق أيضاً وتحديداً من العراق ومصر. ونرى أن الهرمسيةَ هي العمود الفقريّ للغنصويةِ كتيارٍ ومذهبٍ، وأنها مع هرمس (الشخصية شبة الأسطورية التي تتطابق مع إدريس النبي) كانتا توأم الغنوص الشرقيّ القديم، إن هرمس والتعاليم الهرمسية القديمة وجهٌ آخرٌ للغنوص ومذهب الخلاص من الموتِ والخطيئةِ. ثم أصبحت الهرمسيةُ جوهر الغنوصية في القرون الميلادية الأولى عندما ظهرت كتيارٍ ومذهبٍ قائمٍ بذاته ومجاورٍ للغنوصية.

* اية علاقة للغنوصية اليونانية بتاريخنا القديم لتجعل منها شكلا لقريحتك الشعرية؟
- ظهر الغنوصُ في الشرق القديم داخل النظام المثولوجي لعقائده فكان (دموزي) السومري ثم (تموز) البابلي ثم (أوزريس) المصري ثم (أدونيس) الفينيقي ثم انتقل هذا الغنوصُ الى بلاد الإغريقِ مع (ديونسيوس) و(آتيس) الفريجي وطال (أورفيوس) ثم (هرمس) رسول الآلهة الإغريقية وظهر الغنوص في مذاهب الأسرار الإغريقية التي كانت منجمَ فنونِ الشعرِ والمسرحِ والموسيقى والتصوير. إن اعتقادَنا الراسخَ أن الغنوص، كحالة شعائرية، نشأ منذ السومريين وتحديداً من أسطورة دموزي ونزوله الى العالم الأسفل وصعوده إلى العالم الأعلى وإن توصلنا الى أن هرمس الأول كان سومرياً وهو أحد ملوك ما قبل الطوفان في سومر، كلّ هذا، يقودنا الى تتبّعِ المرجعيات الشرقيةِ القديمةِ للغنوصية.. وهي مرجعيات نصوصٍ توضحها الأساطير، وهكذا حفل التراث السومري والبابلي بها ثم التراث المصري القديم متجسداً في أسرار أوزيريس وأساطيره وفي شخصية الحكيم إمحوتب وشخصية الإله تحوت ثم تأتي بقية القائمة التي ذكرناها.

* هل هناك شعرٌ غنوصيٌّ قديم؟
- هذا السؤال محيرِّ ويحتاج جواباً متأنياً، كان أكثر الأسئلة إثارةً وأهميةً لأنه يتعلق بجوهر الشعر وعلاقته بالحقول الأخرى المحيطة به أو المشتبكه معه.في البداية لا بد من القول أن الشعرَ الغنوصي القديم لم يكن نمطاً خاصاً أو منعزلاً من الشعر فقد كان هذا النوع من الشعر يرقد في أنسجةِ الأساطيرِ أولاً، ففي طيات أساطيرِ الجحيمِ والفردوسِ ودورات الهبوط والصعود المثولوجي مثل صعود وهبوط إنانا ودموزي (عشتار وتموز) وهبوط أوزيريس وهبوط أدونيس وأتيس وأورفيوس كان هناك غنوصٌ شعري في نصوص الأساطير ولم تكن هناك نصوصٌ شعريةٌ غنوصيةٌ. كذلك ظهر مثل هذا الغنوص الشعري في النصوص الإسكاتولوجية (ما بعد الموت)المصرية وهي نصوص جنائزية كان أهمها (كتاب الموتى) وكتاب (البوابات) وغيرها وهي التي تصف رحلةَ الروحِ والجسد الى العالمِ الآخر، وكان هذا الغنوص الشعري مثقلاً بالتفاصيل المهولة عن عوالم الجحيم والفردوس، الشعر الغنوصي، ليس كالغنوص أو الغنوصية، فهو لايهرب من العالم ولا يشكي ولا يجنح الى تضخيم الذات والأنا، بل هو يواجه العالم وينفذ الى أعماقه، ولا يبقى على سطحه، يدخل في شبكة أسراره ولا تنكفئُ ذاتُ الشاعرِ في عزلةٍ تحيطها الأوهام بل يتغلغل الوعي الشعري لمسك ومضات الحقيقة الصاعدة من ظلمات أو قاع الكون والإنسان. ليس الكون والعالم والجسد شرّاً، كما تدعي الغنوصية، بل خزائن محشدّة بالأسرار يتوقف عندها الشاعر الغنوصي لا ليكشف عن تكوينها وحركتها، فقد ترك ذلك لعلوم )الكوزمولوجيا، الفيزياء، البايولوجيا... الخ( بل ليتأمل شبكة التكوين المذهل وشوق الروح داخلها، الى الإنعتاق، وليتعرف على حنوّ الطبيعة على ذاتها من جهة واستغراقها في حركة التكوين المستعرة من جهة أخرى، وليلمس حركات التفريغ والإمتلاء للجسد وحركات النبض الكوني في التقلص والإنبساط.. تكرارٌ نقول، أحياناً، بخلوِّه من المعنى ونقول، احياناً أُخر، بمعانيه الخفية. الشعر الغنوصي يرى أن الروحَ تتشرب في مسامات الكون والعالم والإنسان ولذلك فهو يسعى من اختلاطه وفحصه للمادة تلمس الروح التي تنبض بين مساحاتها، لا يمكن فصل الروح عن المادة ولذلك يكون التسلّح المسبق بوعي أن الروح تتلبس كلَّ ذرات المادة الحية سيجعلُ خوضنا في طبقات العالم المادية أمراً مقنعاً.

* ما المثير لديك في هذه التجربة بعد ان اكتملت؟
- لقد وقعتُ، مندهشاً، في مناطق داخل نفسي أطلّ على المشهد العرفاني الباذخ الذي تجثم فوقه الطبقة الدسمة الدهنية من المعرفة الظاهرة المتداولة بين الناس وبين الأدباء ومنهم الشعراء. كانت معاولُ الخلاص تذوبُ في يدي، وكنت أزداد تأملاً في الخلاص نفسه وفي شرك الذات الإنسانية السجينة في أغواره.. في الزمن الوامضِ السريعِ الذي يكشف كلَّ هذه الفراديس والجحيمات دفعةً واحدةً ثم يتركنا نذوب أسىً لمعرفتها أو الحديث عنها سريّاً بالسكر الروحي أو الجسدي.. أو الشعر. لم تمنحني الغنوصية ألاّ الطريقَ أما آلياتها فتركتها في الأرض القفر التي أتعبت آلاف الكهنة والمتصوفة والإشراقيين وربما الشعراء الذين ظلّوا الطريق إليها. كنتُ أجوبُ هذا الطريقَ، وهذه الطرق، وأنا مدمىً بالأسئلة الكبرى والصغرى ولا خلاص لي سوى الهذيان وقطف التماعِ جُملِ الأسرارِ وجُملِ البرق فكانت تجربة خزائيل رجماً أو هتافاً بالغموض وصرخات اليأس وتلعثم الفم. لم يكن هناك أملٌ بشيء، رغم نشوات الجسدِ الطافحةِ، مثل بقع المستنقعات، ورغم الفرح والجذل الحسيّ لكنّ خزائيل كان أكثر نصوصي يأساً رغم أنه يبدو الأكثر وعداً بالخلاص وهذه هي المفارقة. لا أدعى أن نص خزائيل يمثل الشعرَ الغنوصى بشكله النموذجي ولكنه أحد احتمالاته، لقد سعيت ان اقدم نصا شعرياً غنوصيا لكنى لا أزعم أن أدوات ووسائل التنفيذ كانت مثالية، ولذلك أترك مهمة تقييم ذلك لغيري وللزمن. لكن ما أودّ الاشارة اليه هو أنني حاولت كتابة هذا النص ما بين عامي ( 1980 ndash; 1988 ) ونشرت بعضه في كتابٍ وبعضه الآخر في صحفٍ ومجلاتٍ متفرقةٍ، ولكني هنا أنشرة كاملاً مع هذه المقدمة النظرية، وكذلك أود أن أشير إلى دوافع وظروف ووسائل كتابة هذا النص علّها تكون مفاتيحاً لسبر أغواره ومعرفة مراميه.

* متى بدأت التفكير بكتابة خزائيل؟
- بدأتُ التفكيرَ بكتابة خزائيل في مطلع الثمانينيات عندما وضعتُ، فجأة، في جبهة الحرب العراقية الايرانية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أواجه فيها الموت مباشرةً، كان الناس يتساقطون مثل أوراق الشجر وكان الموتُ يجوب ساحات الحرب، وكنتُ غير مستعدٍ لقبول هذا المصير.. كان عليّ أن أصرخ. قلتُ أن الموتَ آتٍ لا محالةَ ولذلك عليّ أن أصرخ صرختي الأخيرة القوية العنيفة الطويلة، لاضدّ الحرب فقط بل ضدّ المصير البشري كلِّه: نولد لكي نموت.. فقط!! كنتُ في ريعان شبابي عندما ذهبتُ إلى الحرب.. ولم تكنٍ أسئلة الموت قد نضجت فيَّ بعد، فكيف تُراني سأعبر عن أسئلة الموت والحياة شعراً وأنا على حافة الهاوية. قلتُ ببساطةٍ: لأكتب ذاتي. نعم.. هذا هو الجواب الوحيد على الحرب وعلى الموت عموماً، أن أكتب ذاتي وأصرخ، مهما طال زمن صرختي، احتجاجاً وغضباً وألماً، أكتب تلك المغاورَ البعيدةَ وارتجافَ المصيرِ الإنساني فيها، أكتبُ الحزنَ الدامي الذي يلفّ جواهرنا، أكتبُ النشوات السريعة التي نقطفها.. أكتبُ الجنونَ والعقلَ متزاحمين للإطلالةِ على الحياة، أكتبُ الطيرانَ والخرابَ داخل الأعماق، أكتب الفردوسَ والجحيمَ في الجسد، أكتبٌ الوردَ والسماءَ.. ولا أكتبُ عن الحرب مباشرةً. كان قراري هذا صعباً إذ كيف يمكن أن اكتبَ عملاً كهذا. كنتُ، قبل ذلك، قد فكرتُ إنني ربما سأكتب في نهايةِ العمرِ عملاً فريداً، مثل خزائيل، فيه سيرتي الداخلية الشعرية. فكيف سأسحب، الآن، مشروعاً يقع في نهايةِ العمرِ إلى أيام الشباب؟ كيف سأعبرِّ عن صرخةِ الشيخوخةِ والخوفِ من الموت وأنا أعيش أكثر سنوات حياتي حّباً وشباباً؟ كان الأمر يبدو متناقضاً. بات عليّ إيجاد طريقةٍ لكتابة هذا العمل الذي رأيته، آنذاك، مستقراً براحةٍ في آخر حياتي، لكنّ هاجسَ الموتِ الذي حفرتهُ فيّ الحرب وهاويتها هو الذي جعلني أبدأُ بكتابة عملٍ كنتُ قد خططتُ له أن يكون العملَ الأخيرَ لي في شيخوختي لأنه يمثل خلاصه حياتي. وهكذا مددتُ يدي إلى شيخوختي، وأنا في عمر الثلاثين، وسحبتُ منها (خزائيل) العمل الذي طالما حلمت به خاتمةً لحياتي في الكتابة. وذُعرتُ، في البداية، إذ كيف أستطيع كتابةَ عملٍ من هذا النوع بل وكيف أستطيع أن أضعه في تفاصيل حياتي آنذاك وأحمّله بها، إلا يبدو ذلك ضرباً من الجنون أو المستحيل؟ المسألة تحتاجُ إلى الكثير من التجربة الحياتية والثقافة النوعية والنضج الشعري.. و.. و.. الخ، ناهيك عن الشعور بالأمان والراحة والتفرغ الكامل لكتابة مثل هذا العمل، وكان واقعي آنذاك لا يمنحني جزءاً بسيطاً من هذا الجوِّ. لكنّ هاجسَ الموت كان أقوى من كلِّ شئ، فقد قررتُ بعد عودتي، ذات مرة، من (الموت) في إحدى جبهات الحرب أن أبدأ بالعمل مهما كلّف الأمر إذ من سيمنحني، في المرة القادمة، حياةً أخرى فقد تُغيّبني جبهة حربٍ أخرى إلى الأبد وأنا لم أكتب شيئاً بعد من هذا العمل، وهكذا أصبحتُ أراوغ الموتَ ويراوغني وقد وقفتُ على حافاته عدة مرات لكنني كنتُ أعودُ سالماً، حتى مرت الأعوام الثمانية من الحرب وكنتُ آنذاك على وشك الانتهاء من هذا العمل.

* هل كانت ثمة (غنوصية) كانت في رأسك وانت تكتب النص؟
- عندما بدأتُ كتابةَ خزائيل لم أكن أحملُ مخططاً غنوصياً شعرياً معي لكني كنتُ منجذباً إلى الغنوصيةِ بعامةٍ رغم قلّة مرجعياتها وكنتُ مولعاً بالأساطيرِ الشرقيةِ القديمةِ التي فتحت لي باب الغنوص عندما اتصلت بالفلسفة. كان أول مشروع لي في بناء (الغنوص الشعري) الذي أحلم به هو نبذُ فكرة أن الشعر نوع من أنواع الأدب، والوصول إلى قناعةٍ راسخةٍ إلى أن الشعرَ هو طريقة كاملة للنظر إلى العالم، إنه نوع من الدين ولكنه ليسَ بديلاً عن الدين، إنه دين دنيوي، ولكنه ليس نوعاً من الأدب في جميع الأحوال. كيف يمكن أن اقتلع الشعر من البديهية التي رسّختها المعرفةُ الأدبيةُ وجهود الأدباء والشعراء في جعلة نمطاً أدبياً؟ وكنتُ أنظرُ إلى نظريات الأدب والنقد بالكثير من الريبة والإزدراء. كيف، إذن، يمكن ترحيل الشعر من شركِهِ الذي أوقعه فيه تاريخُ المعرفة وليس تاريخ الشعر نفسه؟ كان الأمرُ يبدو لي معقداً وأنا أُناطحُ ببعض مقالاتي الصغيرة وأفكاري الشعرية هذه الحصون الكبيرة التي وضع الشعر داخلها سجيناً. ولذلك تركتُ ذلك فوراً واتجهتُ إلى العمل الشعري ذاته، وأنا أقبضُ في داخلي على هذا التصور الجديد إذ يجب أن أثبتَ لنفسي أولاً أن الشعر ليس أدباً بل هو أكبر من ذلك بكثير وأن أكتب ما أراه أنا نصاً لاأفكاراً. وهكذا بدأت.. ومع الزمن وبمرور السنوات والتقاط التفاصيل الكثيرة نضحت من النص الشعري نفسه (خزائيل) أفكارٌ تدعوني لبناء هيكل شعريٍّ غنوصي.. وهو هيكلٌ مقترح لايطابقُ بالضرورة ثيمات البناء في خزائيل ولكني لم أتمكن من كتابته ووضعه على الورق إلاّ في السنوات الأخيرة، الأمرُ الأكثر إثارة ودهشةً هو مااستطعتُ تأويله، من خلال نظرة غنوصية، لنصٍ أسطوري / ملحمي عراقي قديم كان بديلاً عن هيكل غنوصي شعري متكامل وظهيراً عميقاً لخزائيل وهو (جلجامش)، لقد قرأت هذا العمل الملحمي الكبير بطريقة غنوصية ورأيت في سيرة جلجامش مايمكن أن يفسر سيرتي، كما رأيت في رحلته للبحثِ عن الخلودِ رحلةً غنوصية بأدق معنى الكلمة فهي رحلة للخلاص من الشر والموت والبحث عن المخلِّص والخلود.

* هل باستطاعة كل شاعر ان ان يكتب الشعر الغنوصي هذا؟
- هذا هو السؤال الذي ظلّ يشغل بالي وهو: هل يمكن لكلِّ شاعر أن يصبح شاعراً غنوصياً؟ ولقد ترددتُ في الإجابة عن هذا السؤال ولكني أجيب عنه الآن بصورة حاسمة وأقوال: كلا. فالحاسّة الغنوصية هي حاسّةٌ استثنائية لا توجد عند كل فرد، أغلب بل معظم الناس لا حاجة لهم بها، وهل لا يعرفون ماهي وما فائدتها، وإن وجدت فهي ظامرةٌ، لكن الفرد الذي تتملكه هذه الحاسّة يرى مالا يرى غيره، إنها أقرب لأن تكون قوةً باراسايكولوجية تتمتع بقدرة هائلة على الإتصال بالعوالم غير المنظورة (ليست روحية أو ماورائية بالضرورة ) ويمكن أن تعطي الشعر لوناً فريداً، إن كان صاحب هذه الحاسة شاعراً، بل هي يمكن أن تعطي الحياة كلَّها لوناً فريداً لأنها تتصل بأعماق الظواهر لابسطوحها.

* الى اي الاشكال الشعرية ينتمي خزائيل؟
- كنصٍ شعريٍ ينتمي، إجرائياً، إلى النصِّ المفتوحِ، ولكنه، شكلاً ومضموناً، شعرٌ غنوصي تشكّل فيه رحلة الخلاص والمستوى الداخلي ودورات الصعود والهبوط للروح والنفس إيقاعاً متواصلاً لا ينقطع منذ بداية النص حتى نهايته، بل إن النصَّ بأكمله عبارة عن دورة واحدة كبرى تخوضُ فيها ذات الشاعر رحلةً في الزمان والمكان للوصول إلى أقصى مايمكن من نقاط المستوى الضمني للنفس والكون التي وصل إليها الشاعر.

* الا ترى ان القاريء سيجد صعوبة في فهم النص؟
- لاحاجة للكشف عن آليات النصِّ في تحقيق هذا الهدف، فالقارئ الذكي والصبور والدؤوب سيكتشفُ ذلك، لكننني وضعت بعض المؤشرات والعلامات التي رأيتها ضروريةً لكي تقود القارئ في غياهب النصِّ من ناحية وتضيء تجربةَ الشاعر من ناحيةٍ أخرى والتي تتوزع على الكتب الإثني عشر التي تكوّن نص (خزائيل).
* هناك أكثر من إشارة في الكتاب لمفهوم سعيت إليه بثبات وقوة وهو تأسيس (الأسطورة الشخصية )، ماذا تعني به وكيف يستطيع الشاعر أن يؤسس أسطورته الشخصية بعد أن غرب زمن الأساطير العامة؟
- الأسطورة الشخصية هي البنية التي يكوّنها الشاعر من نسيج حياته الذي كان مادةً لشعره، وهي لا تتشكل دفعةً واحدةً بل مع مرور الزمن..ومع قدرته على انتخاب ثيمٍ وأحداثٍ ونصوصٍ تمشي في هذا الإتجاه، أسطورة الشاعر الشخصية ليست بالضرورة مادةً لتمجيد حياته بل هي تراجيديا مروره بالحياة وهي سرّه الروحي ومذاقاته الخاصة وتطلعاته وأشواقه، ولعلّ أهم ثيمات هذه الأسطورة الشخصية تكمن في الحب وفي شوقه الروحي الذي يسعى لربط روح الإنسان بروح العالم كلّه وكذلك نظرته للموت. وهكذا يكون الحب والروح والموت أهم عناصر هذه الأسطورة وماتبقى منها تفاصيل ثانوية.
ليس كلّ شاعر يسعى لتكوين أسطورته الشخصية فهناك من يرفض ذلك وهناك من يرى أن الأمر لا يستحق كل هذه المبالغات في نظره، لكن هناك من يسعى لها بدأب.
وربما كان سبب نهاية عصر الأساطير (العامة ) سبباً للحاجة إلى عصر الأساطير (الخاصة ) وهو ما أراه، يمكن للروائي والسارد عموماً أن يفعل ذلك بفاعلية أيضا.

* لماذا خزائييل، وماذا يعني ضمن التجربة الشعرية هذه؟
- خزائيل هو الجذر الآرامي لاسم الشاعر (خزعل) ويتكون من مقطعين هما (خزا بمعنى يرى أو رؤيا) و (إيل بمعنى الإله أو الله) وبذلك يكون معنى الاسم (رؤيا الله) أو (يرى الله ) أو (الله يرى) وهو بهذا يشبه في التركيب الأسماء الآرامية الأخرى الحاوية على مقطع (إيل) مثل يشمع إيل أو إسماعيل بمعنى (يسمع الله) ومن هنا جاء اسم الكتاب الثامن في هذا العمل وهو (هو الذي رأى الله) الذي يدل على خزائيل، وذكر اسم (خزائيل أو حزائيل) لأول مرةٍ في التاريخ، وكان يشير إلى الملك الآرامي خزائيل (842 ndash; 805) ق.م، وهو أهم ملوك مملكة آرام دمشق الذي عاصر النبي اليشع )كما تقول المرويات التوراتية(. ويعدّ خزائيل الآرامي أقوى الملوك الآراميين الذين تصدوا للآشوريين فقد قاد الحلف المكوّن من ( 16) ملكاً بوجه الآشوريين وصمد أمام حصارهم ولم يستسلم، وكان خزائيل الآرامي هذا معروفاً بعداوته الشديدة لليهود وقد بكى النبي أليشع أمامه وحين سأله عن سبب بكائه فروى له أليشع بأنه يتنبأ ببطشه بأهل إسرائيل ويهوذا وهذا ما حصل فعلاً، كما ورد ذكر إسم (خزائيل) العربي في الحوليات الآشورية باعتباره ملكاً لقيدار شمال جزيرة العرب قرب دومة الجندل الذي حكم قيدار في حدود ( 690 - 676 ق.م) وهو الذي قاد تحالفاً كبيراً مضاداً للملك الآشوري سنحاريب لكنه اندحر. العمل الشعري (خزائيل) لا علاقة له مطلقاً بهذه الجذور التاريخية للإسم فهو عمل يستبطن السيرة الروحية والشعرية للشاعر (خزعل الماجدي) مع استلهام للتراث الغنوصي بشكل عام.

* الآن.. وبعد مضي أكثر من ربع قرن على كتابة ونشر القليل منه سابقاً..كيف تنظر إليه بمناسبة ظهوره كاملاً؟
- كأنه إبن ضاع مني فوجدته الآن..تعجبت وأنا أتصفحه منشوراً، كأن هناك من كان يكتبني أو يملي عليّ كما يقول رامبو،كيف امتلكت ذلك الصبر وتلك القوة التي كنت عليها، فقد شعرت بأني كسبت الزمن عندما كتبت هذا العمل في عزّ شبابي، وقد شعرت بأن تلك الطاقة التي كتبته هي التي أسست لطاقتي التي استمرت حتى هذا اليوم تعمل بقوة. أنا مندهش مما حصل.. ويسعدني كل حرف فيه لأنه جزء من مدونة روحي التي سعيت أن أضعها في الشعر ومازلت، لكن خزائيل له طعم آخر غير كلّ كتبي الشعرية، ثم أن ظهوره كاملاً كان يمثل حلماً كبيراً لي طالما سعيت اليه لكنه لم يتحقق إلاّ الآن.

هنا.. شيئٌ من المقطع الأول من خزائيل:

ن ن ن
ن ن
ن
وحيداً أطلعُ من النونْ
وحيداً ترفعني من الماءِ
وحيداً أشقُّ زَبَدَ ميم
وحيداً.. وحيداً
أقفُ بينَ فصَّ الرمادِ ومشيمة الشمسِ، أَكسرُ بمعاولي الأزلَ، وأشقُّ أغشيتَهُ لأشمَّ ماءَ الظلامِ تحت هجعتِهِ وأَغطسُ في ينابيعِهِ الحارةِ فكيفَ علّمتني أن أخوضَ فيكَ أيّها الزَبَد؟
كيفَ وأنتَ شفرةُ الزوالِ التي تخفقُ في لَبَنِي ومعدنيِ وبركي الخفيّة؟ كيف أيّها اللوتس المتدلّي من بركة الأتونِ ومنْ رهج الدِنانِ البخوريةِ ومنْ براطمِ المساءِ وهى تجرُّ على صالاتِي لعابَها الأزرقَ الثقيل؟

كيفَ أيُّها الأُقنوم؟
حين رفَّ الوردُ على هندسةِ الطبيعةِ
حين رفَّ الوردُ على هندسةِ الطبيعةِ المضطربةِ كانت أغصاني تتهدلُ فوقَ البرارِي وكانَ فجري الغامضُ يُطلقُ من أباريقِهِ رتلاً من النجومِ والخلايا وحروفي تتجزأُ مثلما يتجزأُ السمندلُ وهوَ يركب المجرّة.
فلا تقطعُوا بأنه عقد العزمَ على أنْ يضرب بأزاميلهِ الجاليات الخفية.. لا.. بل تعالوا إلى سفرهِ المباركِ يرنُّ تحتَ أقدامِنا حصى سواقيِه وتلمعُ في أصابعِنا خواتمُهُ الماسيةُ وتينهُ الأحمر الذي يتساقط مخضّباً على صفائحِنا.
يا لتِلك الغيومِ الممزقةِ كعينِ الديكِ ويا لتلكَ العصافيرُ التي تطعن الذهب وتمضي!
ها هُوَ البياضُ الطريُّ يغطى لُبَّ الظلامِ ويدهن بأجنحتهِ صدفةَ الفجرِ وذيولَ القططِ الخفيّةِ التي تتجولُ في مساربِ الكونِ راسمةً مصائرَنا وعلاماتِ إِبادتنا.