محمد مهدي الجواهري

بغداد: في مثل هذا اليوم27 تموز(يوليو) من عام 1997، نعى الناعي رحيل شاعر العرب الأكبر، محمد مهدي الجواهري، عن عمر 98 عاما في أحد مستشفيات العاصمة السورية دمشق، وها هو اليوم يشير الى الذكرى الخامسة عشرة لهذا الرحيل الممتزج بالغربة، الرحيل المبلل بالدمع، المنقول على أجنحة وسائل الاعلام بشهقات نزلت توجعات على محبيه وعشاقه في بغداد وما حولها من المحافظات، فيما راحت العيون ترنو الى الفضاءات المغرورقة بالاسى الذي كان صوته يفرش أصداءه على مساحاتها.

وإذا كانت ذكرى الرحيل لا تتوقف في بغداد الا بمصاحبة الخوف والخشية في سنواتها الخمس الاولى، الا ان السنوات ما بعد 2003 قد اختلفت تماما وعاد الجواهري بكل ما يملك من خلود ومحبة وتقدير، عادت ذكراه لتستقبلها العيون والقلوب والالسنة بمهرجانات واستذكارات وتحيات ليس لها نظير، واذا.. لا بد ان نستذكر الجواهري اليوم فلابد من وقفة مع الاستاذ رواء الجصاني، رئيس مركز الجواهري في براغ، الذي هو ابن شقيقة الجواهري، وحافظ ذكرياته وأسراره، وكي تكون الوقفة مميزة فقد ذهبنا اولا في استذكار الجواهري وعلاقته بالمرأة، اية امرأة، فضلا عن كلمات اخرى.

* اي علاقة ربطت الجواهري بوالدته وفق ما كان يتحدث به، وهل كتب عنها شعرا؟
- كما هي حال الجواهري دائماً، فقد أرخ ليس لأحداث وشؤون وشجون العراق، والأمة، وإنما لمواقف ورؤى ومحطات حياته، الأبرز طبعاً... ومن ذلك عن والدته... وأبرز ما يمكن الاشارة له في هذا السياق، ما احتوته ميميته الذائعة، عام 1951:

(تعالى المجد يا قفص العظام، وبورك في السجود وفي القيام
فيا شمسي اذا غابت حياتي، نشدتك ضارعاً إلا تغامي)

*- تزوج الجواهري مرتين، هل كان زواجه بالاثنتين زواجا عاديا ام عن حب، كيف تم ذلك، هل ارخ لذلك شعرا؟.
- زوجة الجواهري الأولى، ابنة عمه quot;مناهلquot; وقد أنجبت له أميرة، وفرات وفلاح... وكانت العلاقة بينهما أسمى حتى من الحب المعروف... ولعل قصيدته في رثائها عام 1939 حين توفيت على أثر مرض طارئ، تشي ببعض مؤشرات عن العلاقة بينهما... ولربما ثمة بيت واحد من تلكم الدالية الفريدة يكفي لمعرفة باقي الأبيات :

(قد يقتل المرء من احبابه، بعدوا عنه، فكيف بمن أحبابه فُقدوا)

وبعد وفاة quot;مناهلquot; تزوج الجواهري من اختها quot;أمونهquot; وأنجبت له: نجاح وكفاح وخيال وظلال... وأستشهد هنا أيضاً ببيت واحد فقط من قصيدته لها، وعنها، وفاء وحباً، عام 1975:

(إني وعينيك لا امنى بداجية، إلا وانت لي الاصبح والفلقُ)

* وكيف كانت علاقته بشقيقاته؟
- له أخت وحيدة، نبيهة، فقد وثق ذلك بالشعر أيضاً، فنشير الى القطعة التي اهدى بها ديوانه إليها، عام 1977، ومن أبياتها:

(يا فرحة العمر ظلي بسمة عَمَرت، بالذكريات، تواسيني، وتسليني)

* ماذا عن علاقات الجواهري العاطفية، من خارج quot;أهل البيتquot;؟
- هو كاشف عنها في أكثر من قصيدة وقطعة وبيت... فتلكم هي quot;أنيتاquot; الباريسية المحبوبة quot;الأبرزquot; للجواهري على ما نزعم، وقد كتب عنها أكثر من قطعة وقصيدة أواخر أربعينات القرن الماضي ومنها:
(أنى وجدت quot;انيتاquot; لاح يهزني طيف لوجهك رائع القسمات
ألق quot;الجبينquot; أكاد أمسح سطحه، بفمي، وأنشق عطره بشذاتي)
الجواهري يتأثر بتلكم العلاقات، ولكن ليس الى ذلك المستوى الذيquot; يهزهquot; لفترة طويلة... واظن ان العلاقة الاوثق، والتي اثرت فيه quot; عشقاquot; هي انيتا، وقد بقي يشير الى تلكم الحال ولسنوات طويلة.. وفي المجالس خاصة، انها المحطة الأبرز، في شعر الجواهري في باريس وعنها، فهي رائعته غير التقليدية بأجزائها الأربعة 1948-1949، عن quot;انيتاquot; حسنائه الفرنسية، حواء الثانية، كما يصفها في ذكرياته، وقد طالت وتشعبت قصته معها، وقصتها معه... ويكفي البوح هنا عن عمق العشق، ورسوخ الافتتان بتلكم الساحرة الغنوج، انها لم تغب عن بال الجواهري، ولم ينقطع هيامه بها، والإيحاء عنها، وحتى بعد نحو أربعين عاماً... ونحن هنا شهود عيان، حين تراءت له، أو خيالاتها بتعبير أدق، في حسناء تشيكية مرت سريعاً أمام مقهى كنا من جلاسه معاً في براغ ذات نهار ربيعي عام 1987... ومما يقع تحت أيدينا بصوته عن قصيدة أو قصائد quot;أنيتاquot;...

ان وجه الدجى quot;انيتاquot; تجلى hellip;عن صباح من مقلتيك أطلا
وكأن النجوم القين ظلاhellip;في غدير مرقرق ضحضاح
بين عينيك نهبة للرياحhellip;ورياض المروج اهدتك طلا
رشفة مج عطرها وتولىhellip;حيث هذا الرأس الجميل تدلى
والفراش الذي به يتملىhellip;خصلات من شعرك الذهبي
كنت فيه الثريَّ، اي الثريّ

* هل كانت لديك نساء من قبيل (ما ملكت ايمانكم)؟
- لا اظن ذلك على ما ازعم... ولكنه تزوج في الاربعينات ndash; رسميا ndash; من إحدى الفاضلات السوريات ndash; اللبنانيات، ولكن لم يدم الامر طويلا، ولم ينجبا اولادًا من ذلكم الزواج، كانت له علاقات حب في براغ، وقد سجل ذلك في شعره، وقصائده، ولكن ضمن الحدود الانسانية الطبيعية، دع عنك quot;اجتهاداتquot; وquot;مزاعمquot; محبين وكذلك مدعين حاولوا ان يطالوا الجواهري عبرها، اذكر لك ما كتبه في هذا الشأن في الثلاثينات، عن علاقة انسانية مع من احبها :
كلانا عارفان بما.. حوت الثياب وضمت الازرُ
ومغفلٌ من راح يقنعه، منك الحديث الحلو والسمر
فعلام quot; تجتهدينquot; مرغمة... ان تستري ما ليس ينسترُ؟؟؟

* والنساء الاخريات من العشيقات؟
- هنالك (جين) اللندنية التي عشقها في الأربعينات أيضاً وكتب عنها:

ما شاء فليكتب عليّ الدهر اني لا أبالي،
ان كان كأسي في اليمين وكان خصرك في الشمال

ثم هناك أكثر من حسناء quot;تشيكيةquot; تغزل بها الجواهري ونبرز في هذا التوثيق العجول، ما كتبه عن إحداهن عام 1972 فقال:

لمّي لهاتيك لمّا وقربي الشفتين
لما على جمرتين، بالموت ملمومتين...
يا بنت هذا البدين، يتيه بالاغيدين
فويقه وquot;الدوينquot;....

كما ونتوقف في محطة أخرى، وهذه المرة عن البلغارية الفاتنة quot;اكليكquot; وقد أرخ عن علاقته معها عام 1973 حين كان معها في مدينة quot;فارناquot; فقال:

(... ونديمي وجهٌ صبوح وكاس، غودرت في مزاجها الصرف صرفا
... انت quot;اكليكquot; يا طفيفاً من اللحم على العظم كاد ان يستشفا
الف quot;الفنquot; صورة منك تناهت في الحسن لطفا وعنفا)

وإذ يطول الحديث في تلكمquot; الشؤونquot; ويعرض، ويعلو، نشير أيضاً الى ما أرخه عن نفسه في حب الحياة والجمال والمرأة مطلع السبعينات، وكان هو quot;السبعيناتquot; أيضاً:

(لجاجكَ في الحب لا يَجمل، وانت ابن سبعين هل تعقل؟
تقضى الشبابُ وودعته، ورحتً على لحده تعولُ)

و أخيراً، فلننقل هنا ما أباح به الجواهري عام 1979 للأديبة الكويتية ليلى العثمان في مقابلة تلفزيونية، على الهواء مباشرة، إذ جدد تعظيمه لـ quot;نسائهquot; ولكل النصف الآخر، الذي يبقى الأجمل والأهم في الدنيا، ولا يتكامل الوجود من دونه، بحسب رأي شاعرنا، والذي لم يبرح التأكيد عليه، على مدى حياته.

* أليست هناك امرأة حبيبة بكى لفراقها لجفائها؟
- الجواهري لا quot; يهتزquot; بمثل تلكم الحالات... اجدد: ربما اقسى quot;معاناةquot; كانت حين حلّ الفراق مع الحبيبة الباريسية، انيتا، معاناة الفراق... سجلها شعرا... ذكريات عنها، مرهقة احيانا، وحتى بعد عقود... عام 1986 كنت معه في مقهى في براغ، واذ به ينتفض، وقال هل تصدق، لاحت لي انيتا، والحديث هنا، بعد حوالى نصف قرن من الفراق، كان شبه مُفاجئ.. اضطرب بشكل بيّن، قام من كرسيه قليلا... وانظاره اتجهت نحو امرأة جميلة، كانت تجتاز الرصيف المقابل لمكان جلوسنا وسط العاصمة التشيكية براغ... ثم راح يتذكر كم تألم من الفراق، وكيف قضى الاشهر الستة معها، وكما قلت، بعد حوالي نصف قرن من الحدث، ومن ابرز ما كتبه عن فراقها :
(ههنا، ههنا، مكانُكِ أمسِ
ههنا، مسّ أمسِ رأسُكِ رأسي
ههنا أمسِ، أمسِ، ذوّبتُ نفسي
في يبيسٍ من الشفاهِ الظّوامي
تتساقى مِن القلوب الدّوامي)
و....
(رفّ جُنْحُ الدّجى ((أنيتُ)) عَليّا
رفّةً خِلتُ وَقْعَها في عظامي
كان أحنى، وكان أشهى إليّا
لو طَواني عنه جَناحُ الحِمامِ
لو تعوّضتُ ثَمّ عن مُقلتيّا
مُقلَتيْ هانِىءٍ تعرّى فناما
و تناسى اللّذاتِ والآلاما)

رواء الجصاني الى جانب الجواهري

- من المرأة التي كان ايروكسيا في تغزله بها؟
اعتقد ان ابرز ما يمكن ادراجه في هذا المجال، قصيدته افروديت، إلهة الحب والجمال عند الاغريق..وهي قصيدة- بانورامية واحدة، نظمت عام 1932
(مَنْ أتى أمسِ..؟
خبّريني....؟
ألا تدرينَ..؟
كلاّ فلستُ أُحصي الرّجالا..!!
أ جميلٌ فلم أُمَـتّـعْـهُ
إذ نِمْتُ عميقاً ممّا لقِيتُ الكلالا؟
ومتى راحَ..؟
في الصباح..؟
ألا يـرجـعُ..ماذا أبقى..؟
أغـادَرَ شـيّـا..؟
ناوليني أساوِري
فـأتَـتْهـا بصُـنَـيْديقَ.. أودعتْـهُ حُـليّـا
رفعتْ عندَها ذراعينِ
سُبْحانَ الذي يَخْلُقُ الجمالَ السّـويّا!!
وتمشّتْ مهتاجةً.. يتمشّى العُجْبُ
والحسنُ في الدماءِ غزيرا
نحوَ حَمّامِها تَرى مِنْ خلال الماءِ.. فيهِ
ما يَستثيرُ الغُرورا..!
جسمَها اللدْنَ.. والغدائرَ تنسابُ
كما أرْخَتِ العذارَى سُتورا!
وخـريـرُ الميـاهِ في السـمعِ كالـقُـبلةِ.. حـرّانـةً
تَهيجُ الشُعورا..!
عبـدَتْ نـفسـهـا.. فداعَـبَتِ النّـهـدينِ بالشّـعْر
غِبطةً وحُبُورا..!
نَثَرَتْ شَعْرَها على كَتِفَيْها
نثـرةً خـيرَ ما تكونُ لديـهـا
واستدارتْ وَهْناً على عَقِبَيْها
فبـدا جـانـبٌ..
ولَـوّحَ ثـاني
وأرتـهـا المرآةُ لَـمْحَ بيان
عن خيالين..
ثـمّ يـرتجفانِ
وبقايـا ظِلّيْنِ يَصطَرِعانِ
* * *
ثـم لَـمّـتْ فُـضَـولَه بيـديـهـا
فَمَشَتْ لمّـةٌ على نَـهـديْـهـا
فتمشّى الضِرامُ في حَـلْـمـتَـيْها
فـأطـلا....
وثْـبـاً من الذِروتينِ
مثلَما صكّ عاصِرٌ حبّتينِ!)

* حين تستذكر الجواهري، ماذا تقول عنه الان؟
- اقول : يطبق quot;الموت اللئيمquot;على ذلك المتفرد الذي شغل القرن العشرين على الأقل، ابداعاً ومواهب، ثم لتروح الرؤى والأحاديث والكتابات تترى بعد الخبر المفجع، عن عظمة ومجد الراحل العظيم:-
- المتميز بعبقريته التي يخشى أن يجادل بشأنها أحد...
- السياسي الذي لم ينتم ِ لحزب، بل كان حزباً بذاته، يخوض المعارك شعراً ومواقف رائدة...
- الرمز الوطني الذي أرخ للبلاد وأحداثها بأتراحها وأفراحها من داخل الحلبة، بل ووسطها، مقتحماً ومتباهياً: -
أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه اشطار
- وذلك الراحل العظيم نفسه : حامل القلم الجريء والمتحدي والذي quot;لو يوهب الدنيا بأجمعها، ما باع عزاً بذل المترف البطرquot;... ناشر صحف quot;الرأي العامquot; وquot;الجهادquot; وquot; الانقلابquot; وquot;الثباتquot; ورفيقاتهن الأخريات...
- منوّرٌ متميزٌ من أجل الارتقــاء على مدى عقـود حياته المديدة، مؤمن: quot; لثورة الفكر تاريخ يحدثنا، بأن ألف مسيح دونها صلباquot;
- صـاحب quot;يوم الشـهيدquot; وquot;آمنت بالحسينquot; وquot;قلبي لكوردستانquot; وquot;الغضب الخلاقquot; وquot;الفداء والدمquot;... شامخ، يطأ الطغاة بشسع نعل ٍ عازبا...
- والجواهـري ايضا وايضا: متمرد عنيد ظـل طـوال حياتـه باحثاً عن quot;وشـك معترك أو قرب مشتجرquot;، كي quot;يطعم النيران باللهبquot;!...
- مبدعٌ بلا حـدود في فرائـد quot;زوربـاquot; وquot;المعـريquot; وquot;سـجا البحـرquot; وquot;أفروديـتquot; وquot;أنيتـاquot; وquot;لغة الثيابquot; وquot;أيها الأرقquot; وأخواتهن الكثار...
- وهو قبل كل هذا وذاك: quot; أحب الناس كل الناس، من شبّ ومن شابَ، ومن أظلم كالفحم، ومن أشرق كالماسquot;..
- كما هو quot;الفتى الممراح فراج الكروبquot;، الذي quot;لم يخل من البهجة داراquot;...
- رائدٌ في حب وتقديس من quot;زُنَّ الحياةquot; فراح يصوغ الشعر quot;قلائد لعقودهنَّquot;... وquot;يقتبس من وليدهن نغم القصيدquot;..
- وديع كالحمامة، ومنتفض كالنسر حين يستثيره quot;ميتون على ما استفرغوا جمدوا..quot;
- وهو لا غيره الذي قال ما قال quot;ولم يصلّ لغير الشعر من وثنquot;... فبات الشعراء يقيسون قاماتهم على عمود قامته الشامخ...
- انه وباختصار: ذلكم الطموح الوثاب الذي كان، ومنذ فتوته quot;يخشى أن يروح ولم يبقِ ذكراquot;... فهل راحت قصائده - فعلا - quot;ملء فم الزمانquot;!! وهل ثبتت مزاعمه بأن قصيده quot;سيبقى ويفنى نيزك وشهابquot; وهو الصادح:
(وها هو عنده فلك يدوي..... وعند منعم قصر مشيدُ
يموت الخالدون بكل فج ٍ.. ويستعصي على الموت ِ الخلودُ
ترى هل صدق بما قال... التاريخ وحده من انبأنا
وينبئنا عن الامر، ويا له من شاهد حق ٍ عزوفٍ عن الرياء).

* حين تخلد الى الهدوء ويتراءى لك الجواهري ما الذي يدور بينك وبينه او ما تقول له؟
- أظن ان الامر قد صار في الماضي... اعني ان اتذكر الجواهري، انا لم انسه لكي اتذكره،...، ربما احزن لاني لم اكن معه كل الوقت في براغ، طوال 12 عاما 1979-1991، اذ كنت انشغل ساعات عنه،ولابد أن لقاءاتي - اليومية- معه، خلال تلكم الاعوام، قد أدخلتني عوالم تقمص الشخصية الجواهرية، فضلا عن quot;الخؤولةquot; التي أتباهى بها.

* ما رأيك بقيام امانة بغداد بتحويل بيت الجواهري الى متحف؟
- جاء القرار الاخير بتحويل البيت الى متحف وكأنه بعض وفاء للرمز الثقافي،العراقي والعربي الابرز، في القرن العشرين على ما نزعم... وهكذا هي حال الامم والشعوب المتحضرة في العالم، ولسنا اقل منها - لو شئنا طبعا - واتمنى ان تستكمل المتطلبات لإتمام quot; المتحفquot; وبالشكل الذي يتناسب والجواهري.