عبد الجبار العتابي من بغداد: للمرة الثانية في تاريخهم الحديث.. عاد العراقيون ليحتفلوا بيوم الرقص العالمي، انسجموا مع اليوم الذي تهتز فيه المشاعر الانسانية لترقص على طريقتها الخاصة، فرحا، خوفا، أملا ـ تفاؤلا او انتظارا للمقبل، رقص ربما يصل الى حالة الارتجاف ذعرا او القفز سعادة، فهو رقص وبالتأكيد ليس ذلك الرقص المبتذل الذي يقوم على الاسفاف ويقعد على السذاجة، عاد هؤلاء الشباب يتقدمهم مدربهم الفنان طلعت السماوي ولكن هذه المرة بعيدا عن خشبة المسرح الوطني التي ما زالت تئن من رقص الخراب على اشلائها، قريبا من ابو نؤاس الذي تمايل طربا على وقع خطى المارين منه الى المركز الثقافي الفرنسي الذي اكتظت قاعته بالحضور سفراء وادباء ومثقفين واعلاميين وفنانين وغيرهم.
بدأت الاحتفالية بهذه المناسبة العالمية بموسيقى راقصة جميلة قدمها الشباب عمر ضياء الدين، جاسم محمد جبار، احمد عوني وسرمد شهيد، عزفوا على آلات مختلفة، وترية وايقاعية، انتهت بقراءة قصيدة للشاعر شاكر السماوي ابتهجت بالرقص، ثم ألقى الشاعر سعد صاحب قصيدة تراقصت فيها كلماته وعباراته على ايقاعات شغفه بالرقص الذي رسمه على امكنة كثيرة من الحياة وغنى له، ثم عرض فيلم (رقصة الليلة الاخيرة) للفنانة طلعت السماوي مع فنانة سويدية، قبل ان يرتقي خشبة المسرح مجموعة من الشباب يستحقون ان تذكر اسماؤهم على حرارة التصفيق وهم: عبد الله سعدون، علي الكعبي، ضرغام البياتي، محمد اكرم، رياض حمزة، حيدر الكعبي، سامر الطائي، عبد الغفار عواد، سجاد حمزة، عقيل سعدون، بشار عصام، سعد قيس وحبيب محمد، ارتدوا ملابس سود ورقصوا على خشبة ربع مضاءة لانهم توهجوا واضاءوا المكان بحركاتهم الصعبة العجيبة التي تفننت فيها لياقتهم البدنية العالية، كانت مساحة الخشبة صغيرة جدا قياسا لعددهم وللحركات التي يؤدونها لكنهم انسجموا تماما، رسموا لوحاتهم دون ان اي سهو او غلط، ودون اي ارباك او تراخي، كانت خطوطهم تتسابق امتدادات لبعضها البعض لم تنكسر ولم تتعرج الا لاظهار انبهارات ممتعة، لوحات معبرة عن نضال الشعوب من اجل الحرية، سمعنا صراخات بالايماءات وشاهدنا عذابات بالاشارات وشهدنا صراعات تتعالى فيما الفرح كان في انتظار ان يضيء المستقبل مساحاته.
وابدى الحاضرون اعجابهم بما شاهدوه وعبروا عن سرورهم بالاحتفال بهذا اليوم العالمي، فقال نقيب الفنانين العراقيين صباح المندلاوي: شيء مفرح وجميل ان نعيش مهرجان الرقص العالمي في بغداد وللمرة الثانية، وقد كشف العرض الذي شاهدناه عن طاقات ومهارات في الرقص والايماءة والاشارة والحركة وكان فعلا مرآة لنضالات الشعوب وصراعاتها من خلال الحركة، فكان ما قدمه الشباب مفرحا ويبعث على الاعتزاز وهو ما يجعلنا نقدم الف تهنئة من الاعماق لهؤلاء الشباب المبدعين.
من جهته قال الفنان طلعت السماوي، مؤسس الرقص الدرامي في العراق: أردناها أن تكون السنة الثانية عراقية و عربية في مناسبة ثقافية دولية غير متعارف عليها في الفضاء الثقافي العراقي و العربي في يوم 29 أبريل / نيسان 2012, اليوم العالمي للرقص، وضعنا في حقيبتنا الفنية بهذه المناسبة عملين هما (صفر + صفر يساوي صفر ) و (وجوه القمر), و وضعنا في سعينا هذا إستمرارية الإنتاج ضمن مفهومين مترافقين و متكاملين و هما ماهية التكوين في المشروع الثقافي, و التفاعل في العملية الأبداعية.
واضاف: في الاحتفالية الاولى قدمنا (0 + 0 يساوي.)، لأجل إنسانيتنا إخترنا تخطيط.. تنفيذ.. تحقيق..، لأننا نؤمن بينبوعنا الحضاري و موروثنا الثقافي, لكي نكون كما أردنا أن نكون من أجل التواصل مع ذواتنا و مع من هو منا و مع الأخر هناك, لكي تتسع بقعة الضوء الإنسانية، إن فن صناعة هندسة الجسد بكل منهاجه العلمية التطبيقية و التقنية (الرقص, اليوغا, الأكروباتيك, الفنون القتالية...إلخ) هو لنقل الجسد من مادة الى لغة مختزلة تصور لنا عوالم الإنسان والطبيعة لتوصلنا بالآخر..، لأجل إنسانيتكم رفضنا تأخير.. تأجيل.. تلغيم... لأننا لا نريد أن نكون خارج قانون الزمن.
وأوضح: في العمل ثمانية راقصين، محرك التفاعل للفكرة والصراع في العمل هو الجسد الذي تعبر عنه حركات الراقصون في الدخول والخروج من والى بقعة الضوء البيضاء بتنوع تقنياتهم، وهذا الصراع الحركي يتطور بين الراقصين، ليتحول الى صراع بينهم من أجل مكان البقعة المضاءة وازدحامهم في داخل تلك البقعة لحين أخفاء درجة الضوء لحد الظلام القاتم، موضحا ان العمل يمثل صور رمزية للرغبات الأنانية لدى البشر الذين يصارعون من أجل القيمة المادية ولكن لا يتعايشون من أجل القيم المشتركة.
وختم حديثه بالقول: شكرنا و تقديرنا الى المعهد الثقافي الفرنسي و الى وزارة الثقافة العراقية و معهد الفنون الجميلة لرعايتهم المشروع و كل المشاركين من فنانين و إداريين و تقنيين و لكل من سعى لإنجاح مشروعنا الثقافي بالحرص و النصيحة و الحب.
الدكتور محمد حسين حبيب، المخرج والناقد المسرحي العراقي كتب كلمة العراق بهذا المناسبة والتي جاءت بعنوان (الرقص لغة السلام) قال فيها: (في البدء كان الرقص.. ثم كانت الكلمة الناطقة..، من زمن الحب والجنس ابتدأ الرقص.. من زمن الكهوف والطقوس والأساطير ولد الرقص.. في المعابد والساحات العامة والحدائق والقصور.. على أرصفة الفقر والتشرد والضياع.. في لحظات الموت وفي الولادة.. في ايام القحط والجفاف.. في مواسم الصيد والحصاد وسويعات المطر.. وفي قلق الانتظار والخوف من المجهول.. كان (الرقص).. هو ذلك الملاك و الملاذ الآمن للجميع، الرقص صلاة.. أنا ارقص إذن أنا أفكر و أرسم و اعزف و اكتب الشعر و أفلسف الحياة بلغة جسدي الراقصة الصامتة.. وبها فقط أتواصل مع العالم بحثا عن اللغة الموحدة.. لغة الجسد الراقص..، وحين يتصل الرقص مع (الموسيقى).. ومن ثم مع (الدراما) يكون السحر.. يكون ما هو ذاتي وما هو موضوعي في قمة التفكر والجمال و الجلال.. في فضاء الروح.. في فضاء القبض على الحقائق الغائبة و المغيبة.. تلك هي فضاءاتنا المنتظرة.
واضاف: ها نحن أيها الأصدقاء.. نحتفل ثانية بيوم الرقص العالمي في العراق.. التاسع والعشرون من نيسان 2012.. تواصلا مع حفريات المعرفة الجمالية العالمية.. وتواصلا مع بعضنا أيضا.. إيمانا منا بان لغة الرقص الدرامي.. لغة السهل الممتنع.. لغة الفكر والجمال والدراما المحلقة عاليا.. لغة التحاور مع الآخر.. لان الرقص هو لغة السلام.. لغة الحرية في العراق.. في بلد الحضارة والثقافة والشرائع الأول.. بلد أصناف التحولات القديمة والمعاصرة.. بلد الأطياف والمذاهب والانتماءات.. نحتفل بالرقص.. لأنها لغة الجميع.. لغة الإنسان الإنسان.. مثلما هي لغة الحيوان أحيانا، بالرقص و بالإيماءة و بالتعبير الجسدي.. لنتصافح جميعا.. إعلانا منا بوطنيتنا التي أربكتها لغة الحوار الناطقة كثيرا.. لا ملجأ لنا أصدقائي إلا لغة الرقص النقية النبيلة.. حيث لا انتماء لها إلا إلى أجسادنا الفانية وأرواحنا الخالدة.. وكل عام وانتم وأجسادكم بألف خير وسعادة.
وكذلك فقد قرئت في الاحتفالية كلمة يوم الرقص العالمي 2012 ndash; رسالة احتفالية الذكرى 30، وصاحب الرسالة idd لهذا العام هو الكوريكراف الفلامنكي المغربي السيد العربي شير كاوي، التي حملت عنوان (أحتفالية فن الرقص الذي لايتوقف مدى الحياة) وفيما يأتي نصها: عبر الزمن والعصور الشيء الذي استمر حتى الان هو في الغالب الفن، فالفن موروث إنساني، سواء من خلال فن العمارة والكتب واللوحات والموسيقى، أو فن حركة الجسد و الرقص ومن هذا المنطلق، اعتقدنا أن الرقص في عصرنا هذا, هو اعظم درس وجد في التاريخ حتى هذه اللحظة، كما له علاقة متواصلة مع أحداث في الماضي، وما يمكن ان يحدث في الحاضر، الرقص ايضا، بطريقة او باخرى، لا يعترف بالحدود بنفس الأسلوب الذي تعترف بها الفنون الأخرى, حتى أننا نرى نجد انماط معينة تحاول الحد من اطاره، حركة الحياة، الفن الخاص بالرقص وحاجته للتدفق، تقوم هذه الاشياء بالسيطرة بسرعة كبيره، مما يسمح لانماط معينه من ان تختلط مع الاخريات، كل شيء يندمج في كل شيء، بطبيعة الحال، والرقص لا يستقر الا في الفضاء الذي ينتمي اليه ndash; الحاضر المتغير باستمرار، اعتقد ان الرقص قد يكون واحد من اكثر اشكال التعبير صدقا و بالنسبة لنا أننا نعتز بهذا، لانه عندما يرقص الناس، سواء من اداء البالية، الى رقص الهيب هوب، عرض راقص في مكان غير معروف او في مرقص، نادرا ما نرى اتشار الاكاذيب او لبس الاقنعة، فالناس يعكسون انفسهم باستمرار، لكن عندما يرقصون، في الاغلب يكون ما يعكسه بعضهم لبعض هو لحظة الصدق تلك، عن طريق التحرك مثل الناس الاخرين، او عن طريق الانتقال مع اشخاص اخرين، وبالنظر اليهم يتحركون، افضل مما يمكن ان نشعر به هو عواطفهم، والتفكير بافكارهم والاتصال بطاقتهم. ربما، بعد ذلك نستطيع ان نصل الى معرفة وفهم واضح لهم، اود ان افكر في اداء رقصة باعتبارها احتفالا لكل الوجود، وسيلة لاعطاء وفسح المجال والوقت لبعضنا، فنحن نميل الى نسيان هذا ولكن الجمال الكامن في الإداء هو انه المقام الاول، التقارب بين مجموعة من الناس، الجلوس واحد قرب الاخر، الجميع يتبادلون لحظة واحدة، فليس هناك شيء خاص حول هذا الموضوع، لكل تجمع هنا من اجل هذه الشعائر، التي تربط بيننا وبين هذا الاداء، والروابط بيننا تكون مع الحاضر نفسه، اتمنى من الجميع الكثير من الرقص في عام 2012. دون ان ننسى كل ما لديهم من مشاكل في عام 2011، بالرقص من حولها يعكس كذلك شعور التصدي لتلك المشاكل بشكل خلاق, و إيجاد وسيلة للتواصل مع بعضنا البعض والعالم, و مع الحياة كجزء من فن الرقص الذي لا ينتهي ابدا. الرقص يرسلنا للعثور على الصدق ونقله، و عكسه الى الاخرين والاحتفال به.