يبقي الظاهرُ / ما يتمظهرُ لنا في متن اليقظة / عاديّاً ومستهلكاً.
لكنّ اصطيادَ لحظات الحلم / رصدَ لقطاتها، والقبضَ على الصور/ صعبٌ عسير اذا لم يكنٍ مستحيلاً.
بعضُ الرسّامين لهم القدرة ُ على ذلك، لذا تجيءُ رسوماتُهم حُلمية،هبابية، ضبابية. الوجوهُ ليست وجوهاً، لكنّها أيضاً وجوهٌ. واللحظة ُ سرابيّة ٌ، مع ذلك يُمسكون بها. وينقلونها كلاً أو بعضاً الى فضاء اللوحة. وربّما نسألُ: لمَ يلجأُ الرسمُ الى التمويه لا الى التصريح؟ التمويهُ، قصداً، خارجَ منظور المعقول، فالتاً من المقاييس والقياسات الهندسية. فيرى التشكيليُّ أنّ ما يُمكنُ نقله من الحياة مُكرّرٌ ومستهلكٌ، ومطروقٌ ومبتذلٌ أحياناً. لكنْ أنْ تُشركَ سواك في سريرة حلمك وسيرورته أمرٌ لا يتأتى لكلّ أحد. كون الحلم مملكة َ العُزلة والسرّ المكين لا تلجُها الّا قدما انسان، وليس بوسع أقدام مُشاة عابرين غشيانها. بل لكلّ حالم دنياه الحُلمية لا تفتحُ مغاليقها الّا لصاحبها. وحين تنقضُّ شبكة ُالرسامُ على مخلوقات حلمية / برمّتها أو بمقدار منها / ينحصرُ جهدُه في رسمها ونقلها الى سواه، وسواه يراها في متون لوحاته، ويتنوّعُ الخلافُ ويتسجّر بين راءٍ وراءٍ. وقد ترى الباصرة ُ شيئاً، لكنّ ما وراءه يظلّ لغزاً عصيّاً ووعاءَ تأويلات شتى. هنا تكمنُ جمالية ُ الإبداع وتتضاربُ الهواجسُ جرّاء تماهيات الحلم اللامعقولة أصلاً. لن أتحدّثَ عن احلام القصّاصين / وانا احدُ قنّاصيها ومُكرّسيها في قصصي /... في القصّة الحلمية تتراجمُ التأويلات وتتراشق في الإختلاف، وتخضعُ لخلافات نقدية. لكنّ الحلمَ في اللوحة يتمرآها الجميعُ / بمجمل تماهياته / ويخضعُ لردّ فعل الإختلاف وتشظي الأراء بين شخص وشخص. وكلنا نرى وجهاً فيه عينان، وحاجبان أو من دونهما، وأنفٌ وفم ٌ.وحولهما اذنان، ثمّ جبينٌ وشعرٌ. هذا ما يتفقُ عليه الجميعُ، لكنّ هذا الوجهَ الخارج على قانونه الفيزيائي والبايلوجي يُقيمُ جدالاً ووجهات نظر لا تخلو من اللهب والدخان. ويغدو الوجهُ المُصطاد في حقل الحلم بسوريالته وتماهياته مُثار جدال يتجمّر حيناً ويُحرِقُ حيناً. ولا يكونُ الحلمُ حصراً على الانسان وأعضائه، بل يُزاحمه فضاءُ المشهد المحيطُ به من بيت وشجرة وحيوان وماء وسماء وغيم ومطر وجبل وراءه افقٌ. الحلمُ لا يكون مُغلقاً على كائن من دون سواه، بله منفتحٌ على كائنات اخرى، قد تشكل لدى القصاص قصة ولدنِ الشاعر قصيدة كما الحال مع الرسّام.
ففي لوحة مارك شاغال/ الحدث/ مشهدان يتجاوران: احمرُوعاتمٌ، الأولُ ينطوي على كائنات محورية وملحقة بها. امرأتان زرقاوان، واحدة ٌ تواجهنا وهي تحملُ طفلاً كما لو أنها تودّ محادثتنا وترينا الطفل،على ميسرتها عنزة ٌ واطفالٌ وبيتٌ من باب ونافذتان ووراءه بيوتٌ واطفال. والمرأة الثانية تُعطينا جنبها الأيسر حُبلى بطفلين حاملة بيديها ديكاً، ولصقها ولدان. وقُبالتها رجلٌ اخضرُ يحمل قيثارة هؤلاء مخلوقات المشهد الأيمن من اللوحة. امّا المشهد الأيسر فمُعتم وكائناته العلوية ضبابية مُتداخلة. بينما الديكُ الذي تحمله المرأة ُ الثانية هو نفسه في اسفل هذا المشهد. لكن الغريبَ انّ في داخل احشائه عروساً يحتضن خصرَعروسته. وكائناتٌ اخرى هنا وهناك يصعبُ حصرُها. اذن، لم يكتف شاغال بعرض شخصَيْ حُلمه / المرأتين / بل استقدم ما في مخزون ذاكرتيهما وعرضه علينا. وسوّق الى لوحته / بلْ الينا / احلام شخوص حلمه. وهذا سبقٌ فنيّ فلسفي لم يطرقه سوى القليلين. وكأنّي بالمشهد الأيمن من اللوحة عراه حريق ما زال يلهبُ، والى يساره جوّ من الدخان. ولكل منهما خلائقه وكيانته.
وليس الحلمُ حكراً على ذلك الذي يتمرآه النائمُ خلل منامه، بل يجاورُه حلم اليقظة في الطريق والعمل وقبل الاستغراق في النوم، وثمة حلم اشدّ واثقل يراه المريض، وكذا مَنْ فيه مسٌّ من جنون/ فان كوخ مثالاً /. فمن هذه الأحلام يغترف الرسم مادته، ويُصارُ الى تجسيده ومنحه السمات والملامح. ثمّ لا ينبغي التعميمُ انّ كلّ ما ذكرتُه يشملُ عمومَ الرسم والرسّامين. وما قلتُه عن الوجه / تحديداً / لا يشملُ الأفضية والأشجار والورد بكل خلائقه الزاهية، والناسَ والسوق والدرب والنهر...الخ. فقد أرى نهراً لايتصلُ بالأنهار بأي وشيجة، بل هو خيط ازرق متينٌ أورفيع.. وكذا الحال مع بقية الأشياء التي ذكرتُ.
اللوحة ُ المُنتمية ُ الى جبهة الواقعية او الإنطباعية لا تُقيمُ جدالاً مثلما تُثيره بقية المدارس الفنية. وقد تندرج ُ السوريالية والتعبيرية والتجريدُ الى ضفاف الحلم انطلاقاً من غرائبيتها وغربتها وعُزلتها ولا معقوليتها. وكلُ ضربة فرشاة على مسطح اللوحة هي نتاج العقل. والحلم ليس خارج اسوار العقل بله دربٌ من دروبه يخوضه كلُّ أحد منا، لكنّه سيكون من حصّة النسيان. الحلمُ حياة ٌ ثانية تتمشّى / مثل ظلالنا / الى جوارنا، نخوضها احياناً ونحن نرتدي اقنعة لا تُرينا الأشياء كما ينبغي، بلْ نُحسّ بنبضها وديناميتها يرفّان حولنا. وقد يُمكننا أن نتلصص على أجواء مرئياته من خلال ثغرات في اقنعتنا العاتمة. أونكون /غالباً ما /عُشُوّا تتضببُ رؤانا. وهذا النظرُ العشوائي لدى الرسّام هو حلم يضوء ويعتم في آن. لذلك حين يتأبط ُبعضَه ويُصيّرُه كينونة على مُسطح لوحته يكون قد خرج على المتداول والمألوف ويغدو رسمُه مناظرة تكثرُ فيها ضرباتُ المطارق والسكاكين النقدية. فمَنْ اسعفتْه ثقافته الفنيّة يرَ فيه بُغيته فيُعامله وفقَ منظور فلسفي. لكنّ عابري الفن وسلفييه سيستهجنون العمل ويُعدونه هرطقة فنية لا يؤطرُها معنى ولا يُعيرونه ايّ اعتبار.
والفنُ الجليلُ الجميلُ ايّاً كان ايقاعُه هو الذي يُسجّر خلافاً وتنوّعاً في الرأي. وكلما تغرّب وأوغلَ في فردانيته فجّر احتفاًءً في الرؤية وخلافاً في الرأي، حتى ولو تماهى في بدائيةٍ ساذجة / في منظور الرائين / تُلامسُ السهلَ المُمتنع، ويُقالُ عنه: إنّه هشٌّ مُسطّحُ. فهل رسوماتُ شاغال وكاندينسكي وبيكاسو ودالي وروسو ضعيفة ً تُبخَسُ مكانتُها؟ برغم كونها شظايا حُلمية عشوائية خارجَ ذائقة مستهلكي الفن المُعتادة. كلّ اؤلئك / ومَنْ على شاكلتهم / استقدموا مخزونات احلامهم وجموحهم وجنونهم وخلّدوها في رسوماتهم. الإنفصالُ عن السرب سمة التجديد والحداثة وانفلاتٌ خارجَ القوالب الماضوية الجاهزة. هو اجتياح المستقبل، غشيان اللامطروق، خوض فيما لم يلدْ بعدُ. اطلالة على مشارف المجهول. مغامرة ٌوخروج على اليومي المُتداول.
__________________________
ملحوظة: في طفولتي المبكرة كنتُ اسمع الكبار يتداولون احاديث عن الأحلام، وأكّدُ بعضَهم ان ساحة الحلم لا تنطوي على أيّ لون، بمعنى آخر أن ما يتمرأى لنا عبرها بالأبيض والأسود وحسبُ. وهذا خطأ شنيعٌ فكيف ارى في المنام ثياباً حمراً، وأشجاراً خُضراً وزهوراً بألوانها الزاهية؟......
ومعذرة ً، فلم استطع نقل لوحة شاغال بألوانها الحقيقية التي نوّهتُ عنها، وفي مُكنة القاريء أن يعود الى أصلها.
التعليقات