عبد الجبار العتابي من بغداد:
بعد غربة لمدة خمس سنوات عن بلده العراق، عاد الفنان التشكيلي سعدي الكعبي الى بغداد للمشاركة في فعاليات ملتقى الفنون التشكيلية التي اقامته دائرة الفنون التشكيلية التابعة لوزارة الثقافة، والذي اختتم مؤخرا، واعرب الكعبي، مواليد النجف عام 1937، ان الغربة التي عاشها في اميركا اثرت على اعماله الفنية، مؤكدا على ان ما يفرحه هو وجود جيل يشعر انهم لم يغادروه، فيما يحزنه عدم اهتمام بالدولة بالفن وهؤلاء الفنانين، موضحا انه في لوحاته يتناول نفسه والحالات التي يعيشها، مشيرا الى ان المدارس الفنية انتهت.
*ما اخر نشاطاتك الفنية قبل المجيء الى بغداد؟
الفن التشكيلي نحن جزء منه، والنشاطات عبارة عن حركة يومية لمن مارس العملية الفنية، لم اقل يوما طوال عمري انني فنان، والنشاط هذا هو الدواء في الغربة، انه يعطيك حالة من التواصل ولو كان في الخيال، والشيء الاخر يكون جزء من العائلة الاجتماعية، لانك في غربة وفي وحدة ايضا، وهذه الوحدة بسبب انك لا تمكل اصدقاء ولا عائلة كبيرة ولا جيران، الكل منشغل في نفسه، فالعملية الفنية تكون هي المعوض، وكل فنان يستطيع ان يرى الوسيلة في التعويض خاصة بوسائل الفن التشكيلي المتعددة، فمنها الرسم والنحت والخزف والكرافيك، والانسان يتنقل بين هذه وتلك بالشكل الذي يجد فيه ضالته، فأنا خلال السنتين الماضية توجهت الى عمل الكرافيك وعملت سلسلة، في السابق كان عندي مغلف رقم واحد يحوي خمسة اعمال، والمغلف الثاني يحوي ايضا خمسة اعمال، وبعد ان وجدت نفسي محتاجا الى ان اشتغل كرافيك اكملت المسلسل بعمل المغلفين الثالث والرابع، وعلى الرغم من الجهد الا ان في العمل متعة واعطاني نتائج اشعر ان بها نوعا من الرضا.

*ما الذي تناولته في الكرافيك؟

- انا اتناول نفسي دائما وظروفي والحالات التي اعيشها انا، ثم ان الانسان لا يستطيع ان يفسر الاشياء، فمن الصعوبة ان تذهب الى لوحة وتفسرها، تفسير العمل الفني يحتاج الى انسان يتجرد ويفسر او يأخذ بابا من الابواب التي يعطيها الرسام للعمل الفني، في هذه الحالة الفنان يعجز عن ان يفسر عمله، لانه عندما يبدأ بالرسم يبدأ بالتألق، وتتألق اللوحة، ومن ثم يجب ان يعّود نفسه على غيبوبة واعية، حتى يضيف تاريخه الفني مع العمل، فتراه بعد مدة من الشغل وقد اضاف اشياء ما كان يقصدها، وبالتالي العمل ينتهي بأشياء ليست كلها مقصودة، اي هناك قسم مقصود واخر غير مقصود، مثل اللون او الفرشاة او التأمل او الذكريات، فبعد ان ينتهي الرسام من لوحته يهبط مستواه الى الحالة الطبيعية، اي يكون طبيعيا، ويبقى العمل متألقا، فمن الصعب ان يفسره، لانه وضع اشياء ما كان يدركها.
.
* هل تؤكد ان الفنان يذهب في غيبوبة حينما يرسم؟
- الغيبوبة الواعية، نعم، خذ مثلا: هناك من يقود سيارة وفجأة يقول انه الى اين ذاهب، ومن ثم يستدرك نفسه انه ماشي في طريق صحيحة وغير ضائع ولا عمل حادثة، هذا بالسياقة مموع ولكنه في العمل الابداعي مرغوب، ان يدخل الرسام في داخله ويشتغل، وهذا لا يأتي عن طريق دراسة او عن طريق كلام، بل انه يأتي عن طريق الممارسة والايمان، الايمان بالاشياء عندما اشاهد شخصا جالسا في البحر ويلعب يوغا، اذا.. متى يتنفس هذا، فالعملية صعبة لكنه مرن نفسه على هذا الشيء، فالفنان يجب ان يمرن نفسه على ان يدخل في داخله، وبالتالي هناك مضامين لا حصر لها في داخل الانسان.
.
* هل هذا يعني انك تتعمد رسم لوحة ما او انها تأتي بشكل عفوي بعد ان تمسك الفرشاة؟
- اللوحة في البداية يكون الرسام واعيا الى تكوينها، وهناك حافز يدعوه الى ان يرسم، او حينما تأتيه حالة يرغب فيها بالرسم، انا اشعر بهذه الحالة عندما يكون لدي قلق، لا اريد ان اجلس ولا اريد ان اخرج ولا اريد ان اصعد الى سطح البيت ولا اعرف ماذا اريد ان افعل، هذا معناه ان لديّ رغبة في العمل فأكون قد جهزت في مرسمي كل اشيائي، وعلى الفور اشتغل، فعندما يأتي الخيط او عندما يخرج عمل فيه شيء احبه ويكون فيه نوع من الرضا سرعان ما تتوالى اللوحات، فأنا دائما ارسم لوحة واحدة، احاور فيها ذاتي، وربما ارسم عشرين لوحة ولا احقق ما اريده، فتكون معرضا وانا لم ازل احاور ذاتي، وفي هذه الحالة تكون للمعرض ثيمة واحدة وهي (حوار مع الذات) وانظر كم انا حاورت نفسي.

* خلال سنوات الخمس في مغتربك الاميركي هل اقمت معرضا؟
- اقمت معرضا شخصيا واحدا في (اراغون) وشاركت في معرض في واشنطون، وهناك مشاركة في معرض في احد المتاحف هنا قريبا جدا.

* ما الذي افرزته الغربة في داخلك على لوحاتك؟
- اصعب شيء ان يفارق الانسان بلده، ولكنني خرجت بالعزيزة نفسي، معناه ان اللوحات صارت درجة ثانية، انا هناك رسمت ذاتي وهذا ما اعمله دائما سواء كنت فرحانا او حزينا او احب او اكره او مهزوما او مسجونا او لدي حريتي، هذه المشاعر التي في داخلي هي في العمل.

* الا تربطها مع امتدادات الماضي او عذابات الهجرة او الغربة مثلا؟
- هذه الاشياء تطلع لوحدها ولكن في العمل هناك ثوابت، الان هناك الاف الفنانين ان لم اقل ملايين في العالم، لابد ان يكون لكل واحد منهم اسلوب واضح وفكر واضح ولوحة ذات هوية معينة، فكيف تخرج هذه الهوية الى الوجود الفني، واذن.. على الفنان ان يضع بعض الرموز من الموروث الحضاري، بمعنى ان لا ارسم (حمورابي) ولا (اشوربانيبال)، هذا ليس موروثا حضاريا بل استنساخ، فـ (سومر) الاسلوب العام لاعماله فيها عواطف، و (بابل) الاسلوب العام وكثير من تماثيل الالهة فيها سحر، و (اشور) يتميز بالتقنية العالية والنحت البارز اضافة الى الاختام الاسطوانية، اما الاسلام فهو حضارة كبيرة وعظيمة امتازت بالخط والزخرفة والخزف (التزجيج)، ومن غير المعقول ان يأتي رسام ويرسم اوربا، فإذن هذه خزين تراثي من البلد، يجب ان تظهر رموزه، ثم ان محلية الفنان، هو من اين؟، من مصر او لبنان او العراق او اي بلد، او في غابة او صحراء او جبل او بحر، هذه بيئة، فلابد ان تكون هناك رموز لها في العمل، الشيء الاخر ثقافة الفنان، هناك فنان فطري والخر مثقف ومدرك ولديه اشياء كثيرة وتجربته واسعة، فلا بد ان تظهر في العمل، ثم الرؤية المستقبلية للفنان وكيف ينظر للمستقبل، هذه يجب ان تظهر في العل، هذه كلها بمجموعها تعمل هوية للعمل.

* هل هنالك فرق بين ما رسمته في بغداد وما رسمته في اميركا، ما الذي تغير عندك؟
- انا لا استطيع ان اوضح او حتى ارى الاشياء المتغيرة، انا اذا اتغير فعملي يتغير، وان كنت غير متغير فعملي لا يتغير، الاشياء تأتي بالمؤثرات، فالمؤثرات من الممكن ان يشاهدها شخص اخر، ولو اوضحنا شيئا اساسيا، ومع اعتذاري للقاريء فأن العملية الفنية للخاصة.. الخاصة وليست للعامة، ولما تكون للخاصة الخاصة يجب ان يدرك الاشياء التي ذكرتها، فأن ادركوها فلا احتاج ان افسر اي شيء، وان لم يدركوها فلا احتاج ان افسرها ايضا.

* ألم تؤثر فيك الغربة لترسم اثارها عليك؟
-اي حدث يمس الفنان اوحياته يحفزه وينبهه ويوعيه، هذا الوعي يأتي اما من حادثة او من هجرة او انتقال قسري او ظروف جديدة تطرأ على الفنان او الانسان فتراه متحفزا، اذكر لك حادثة صارت لسيارة نقل ركاب انقلبت امامي، وفجأة احسست انني حي، انا بعيد عنها ولكنني تلمست يديّ ورجليّ، فالفنان او الانسان في الغربة او في المشكلة دائما متحفز، يلم شمله، ينتبه لجسده، ينتبه لمستقبله واولاده وعمله، ودائما متيقظ، ليس شخصا جالسا في بيته واموره ماشية بانسيابية والروتين يأكله، لا.. هناك يجب ان تكون واعيا، وهذا الوعي يجري على العمل الفني ايضا، فعملية الوعي تجعلك تضيف بعض الاشياء باللاوعي طبعا، لا ان تقول انا غريب وسوف اضع هذا الشيء، هذه في اللاوعي تظهر، والذي يفسرها اكثر هو الناقد، لذلك انا ابتعد عن تفسير شغلي، انا اعطي العمل للاخرين وهم يقيمونه.

* ان كنت تتابع التشكيل العراقي، كيف ترى واقعه؟
- اتابعه دائما ويفرحني وفي الوقت نفسه يحزنني، يفرحني وجود جيل اشعر اننا لم نغادره، اعطيناهم الثقة والاساتذة الذين درسوهم اكفاء والبيئة الخاصة التي عاشوا فيها تقريبا مكنهم، فالييئة العامة لم تنصرهم، اقصد الدولة والمشرفين الذين لا يدركون العملية الفنية ولم يقتعوا بها، وهذا ما يحزنني، وهذا في كل تغير للسلطة او النظام اول من يتأثر الفنان، لانهم يريدون منه تفاسير، والسياسي ليست عنده معرفة بالفن ولا هم يحزنون، فيتأثر الفنان خاصة من الدولة اقتصاديا، بعى انه يحتاج دعما اقتصاديا وهذا الدعم لا يمكن ان يكون اذا لم يدرك المسؤول قيمته، فهو لن يعطي فلوسا لانه غير مقتنع، وهذه هي الطامة الكبرى، وانا لا اقصد بالدعم ان يعطى الفنان فلوسا، بل ان يرسل عدد من الفنانين الى الخارج، اقيم له مؤتمرا او مهرجانا والكثير من الوسائل لتشجيع الفنانين، فضلا عن الظروف العامة الان لا تخدم الفنان، احدهم يجر بالطول والاخر بالعرض فتضيع الكفاءة ويضيع الفنان، ثم ان المجتمع تغير، وانا يحزنني ان نتاج الفنان لا يوجد من يقيمه، وما يسعدني انهم الفنانين العراقيين ابطال وما زالوا يمارسون العمل الفني وما زالوا ينتجون رغما عن كل واحد، وهذا شيء لم يأت عبثا، فالفنان رغما عني عنده يد ورأس لان الفن عملية كائن وجود خاصة عند العراقيين بالذات، فهذا الكائن الموجود التي هي الموهبة او العملية الفنية تفرحني لان في غير مكان اي حالة من حالات الاتكاسة يترك الفنانون العمل.

* هل شعرت بوجود قطع عند الفنانين الحاليين والاجيال التي سبقتهم؟
- احسست انه بمقدار ما نحن كافحنا فهم يكافحون بمقدار ما حاولنا ان نكوّن شيئا، هم يحاولون ان يكوّنوا شيئا، واتمنى ان يكملوا المرحلة التي بدأت منذ الحركة التشكيلية العراقية التي قادها فنانون كبار وبفكر عظيم، والى حد الان نحن نحمل افكارهم، فمن كان يعرف يحيى الواسطي ان لم يذكره لنا جواد سليم وبعض الفنانين يذهبون لكي ينقبوا، وبعض المهرجانات اكدت على هذه الاعمال ليحيى الواسطي وعبد الله الفضل والمدارس الفنية السابقة، والان اجد ان الفنانين تمكنوا من قراءة الاشياء التي مرت بنا.

* قلة قاعات العرض التشكيلية هل تؤثر في مستوى الفن؟
- وجود القاعات الفنية هو من مسؤولية الدولة ولكن بشكل مباشر، وانما يجب عليها ان تنظر حال المجتمع، وان وجدت المجتمع تائها، وليس لديه قدرة على استثمار الفن، عليها ان تتحرك وتؤسس قاعات وغيرها، يا ترى هل نرفض الفن؟ الفن عملية حضارية، من الممكن ان اابني جسورا وعمارات، هذه مدنية، ولكن الفن حضارة، فتمازج المدنية بالحضارة يخلق دولة، فأن لم يدرك السياسي ان هذا الفن جزء من الحضارة واستمرار لحضارة البلد أقرأ السلام عليه.

* قلت ان المدارس الفنية انتهت، ما الذي أثر عليها لتنتهي؟
- شعر الفنانون انها قيدتهم، مثلا المدرسة الانطباعية تمتاز برسم المناظر والخروج من المرسم وتتميز بالالوان المتلألئة واللحظة اساسية عند الفنان الانطباعي، هذه الاشياء ما عادت تنفع، الان عاد الى الفن الى كونه عملية فكرية، وليست عملية مشاهدة شجرة او غيرها، وهنا علينا ان نقف ونتساءل: ما هي العملية الفكرية؟ كيف تفكر، عملية تفكيرك والمباديء التي عندك هي جزء من العمل الفني، وانت يجب ان تعطي هذه الاشياء في اللوحة، واللوحة تستفز المشاهد وتقول له: انا هكذا.

* سمعت انك تبرعت بلوحات لدائرة الفنون التشكيلية بماذا تبرعت؟
- البلد من الناحية التشكيلية يبكي ويفتقر ولا توجد قناعة عند المسؤولين بأن هذه مهمة، قد يقولها بلسانه من الممكن ولكنه بعيد.. قلبا، وهذا البعد يحزن، هناك عدد من الفنانين اهدوا لوحات ولكنها (لا تداوي جرحا)، فهنا اتذكر مرة ان السفير العراقي في الاردن دعانا، فلما حضرت وجدت انه متفق مع البعض ان يقيموا معرضا وهذا المعرض بعد ان يبيعوه يشترون اعمالا مسروقة، فأنا عارضتهم وقلت يجب ان تعملوا معرضا لكي نثبت للناس اننا مثقفون وحضاريون ولكن ان تشتروا اعمالا مسروقة فهذا حرام، لان احد رؤساء الوزراء اشترى قطعة ارض في عمان بثمانية ملايين دولار، ومن الممكن ان يشتري لنا بمليون واحد كل اللوحات المسروقة، وانتم احوج الناس الى الفلس، فكلها كذبة في كذبة في كذبة، والمشكلة الكبيرة انهم عندا يتكلمون في التلفزيون يتصوروننا لا نفهم، اما الذي تبرعت به فهو شيء بسيط، لوحتان كبيرتان من الكرافيك جلبتها معي من اميركا.

*لماذا ترفض ان يطلق عليك صفة فنان؟
- تسمية الفنان الاجتماعية انه يعيش على فنه، والانسان اذا عاش على فنه يخرب الفن، فيرضي هذا ويرضي المدير العام وغيره، وبهذه الحالة يصبح الفن تجارة، فأنا هاوي واعمل ما يعجبني.

* وانت على الطائرة الى بغداد، اية انثيالات كات في نفسك بعد هذا الغياب؟
- صار عندي اندفاع للحضور، الاعلام يضخم الاحداث يجعل من الحبة قبة كما يقال، قلت يجب ان نذهب، اولا انه بلدنا، ولست متفضلا عليه، وحالي حال 30 مليون عراقي، فمن انا امامهم؟ لذلك شعرت برغبة للمجيء خاصة في هذه الظروف القاسية هذه، وثانيا نصرة لمن قام بمهرجان ملتقى الفن التشكيلي.