الى الفنان quot;ستار كاووشquot;

برشلونة: حين شاهدت الفيلم طفلا كنت، لم أفهم شيئا، اعتبرت ذالك حينها ضياع وقت، كنت مدعوا الى السينما مع عائلة من الجيران، حينها كنت احب بصمت ابنتهم، قبلت الدعوة بفرح شديد و أمالي خابت بعد قليل في دار سينما غرناطة، لم يكن ذالك من أفلامي المفضلة، لا طرزان، و لا quot;كاوبويquot; و لا مدافع، رغم ذالك كنت سعيدا بسحر طقوس دور السينما انذاك، سينمات بغداد الانيقة، أتذكر في الستينات كان هناك أربعة أسعار تختلف في قربها او بعدها عن الشاشة. و الاغلى كان quot;اللوجquot; العائلي. تلك الليلة كنت في quot;لوجquot;، اتذكر كل شئ، المقاعد. الجداريات الجميلة، دكان الفلافل الفلسطيني في مدخل الصالة، ومن الفيلم لا أتذكر غير روعة الوانه. و أستغراب من اسم الفنان،،، quot;كوخ.quot; حينها ربطت أسمه بـquot;اكواخquot; كانت تبدو على الشاشة، و بجدارة استطعت أخفاء تناقض مشاعري في الطريق الى الحي بينما كان يسألني عم الصديقة عن أنطباعي عن الفيلم.
سينمائيا يعيد المخرج الرائع quot;فنسنت مينيلليquot; 1903-1986 تركيب السيرة الذاتية لاحد اكبر رسامي الفن الحديث quot;فنسنت فان كوخquot; 1853-1890، سيلاحظ القارئ التشابه في الاسماء والوجوه خلال المقال و نحن في البناء السينمائي لهذه الشخصية القلقة دائما، و المعذبة دائما، وباستمرار في بحثها الفلسفي في متاعب وجودية و روحية لم يتمكن الفنان من حلها ولو جزئيا. متاهة quot;كوخquot;كانت بالغة التعقيد من كل الجوانب، فبعد اخفاقه في تجربة خدمة الانسان في بعثة تبشيرية، و اخفاقه المريع في اول علاقة عاطفية جعل من اهتزاز افكاره و شكه في قيم الاشياء قاده الى النشاط الفني الذي سيخوض غماره بجدارة رغم فشله في بيع لوحة واحدة في حياته، quot;ربما واحدةquot;.
رؤيا الفنان quot;كوخquot;الفطري في البداية، و ثقافته ساعدت دخوله عالم الفن المعقد، خصوصا في تلك الفترة التي كانت تجرب انفعالات، و تحولات جذرية على كل اصعدة الثقافة و الفنون، و نلاحظ هذا في رسائله المحيرة و المتعددة الى أخيه quot;ثيوquot;، و هو كان في غمارها لان ثقافة ذالك الشاب كانت تفوق كل معاصريه من الفنانين، لكن صراعه الداخلي و عذاب روحه، و لا انتمائيته سد كل السبل أمامه، أو هو سدها متعمدا مقتنعا بعدم جدوى وجوده، و يحسم الامر في
انتحاره رغم ان زاوية في قلبه المعقد كانت تنازع الحياة، هنا نرى معنى، عنوان الفيلم quot;الرغبة في الحياةquot; المأخوذ عن الرواية بنفس العنوان التي كتبها quot;أرفنغ ستونquot; 1903-1989 في عام 1934، و منذ نشرها تنازع حقوقها السينمائية العديد من الشركات و المنتجين، كانت quot;وارنرquot;في المقدمة.
في عام 1956 تنتجه شركة quot;متروquot;بعد تعاقدها مع quot;مينيلليquot;، أسمه الاول quot;فنسنتquot; الذي سمي سيدا للون السينمائي في منتصف القرن الماضي، وهذا يجند كل عبقريته في صنع فيلما مشرقا في الوانه، وبالذات اللون الانطباعي في كل بهائه، و يعالج بذكاء في العديد من اللقطات صنعة العمل الفني التشكيلي و حيرة المبدع في أمره في لحظات الخلق و جدوى هذا اللون و كثافته.و حساسية الضؤ، ثم علاقة الفنان بمحيطه، و في الكثير من الاحيان تقترب الكاميرا لتسجيل خطوات الابداع وعكس الانفعال من الغضب الى الاحباط.
و يبدأ الفيلم مع الشاب quot;فان كوخquot; في كل تألقه و شبابه متحمسا لقضايا فقراء الارض و يتطوع للخدمة في مناجم الفحم في quot;بلجيكاquot;و سنرى على طول الشريط كيف يتمكن المخرج من تفكيك شخصية الفنان ليختصرها في النهاية الى لا شئ، الى العدم.
يختار quot;مينيلليquot;أثنين من عمالقة الاداء، و لا أدري اذا كان الاختيار بسبب الشبه مع أبطال القصة التأريخية، يختار quot;كيرك دوغلاسquot;1916.الذي فعلا ترى فيه شبيها بquot;كوخ بطلا للفيلم، و يختار كممثل ثانوي quot;أنتوني كوينquot;1915 -2001 الذي أعتاد الاداء الجيد في أدوار صعبة، والذي لم ينسى دروس quot;ايليا كازانquot; أثناء العمل في فيلم quot;فيفا زاباتاquot; أمام عملاق اخر، هذا كان quot;مارلون براندوquot;حيث كان المخرج يزرع الخلاف بينهما متعمدا في قصد أشعال روح المنافسة في الاداء بين الاثنين، والغريب ان quot;كوينquot; كان يشبه quot;بول غوغانquot; الذي يلعب دوره في الفيلم والذي فاز فيه على جائزة الاوسكار الوحيدة التي حصدها الفيلم بعد 4 ترشيحات.
قصة الفيلم تتحدث سفر الالم الذي عاناه quot;فان كوخquot; في تسلسل مأساوي، و فشل متواصل في كل جوانب حياته الاجتماعية والدينية والفنية، يفشل في اول محاولاته مساعدة عمال المناجم، ويثور على ترف و بيروقراطية الدين الذي تطوع التبشير به، ثم يفشل عاطفيا في قصة حبه الوحيدة مع أحدى قريباته، و لو لا مساعدة أخيه quot;ثيو فان كوخquot; الذي سيبقى ملاك رحمته حتى النهاية، كنا سنحرم من هذا التراث العظيم الذي تركه الفنان، و الجدل المتواصل خلال القرن الاخير حول أهميته كأحد أهم رموز الثقافة العالمية على الاطلاق. هذا الدور قام به الممثل quot;جيمس دونالدquot; 1917-1993، دور ثانوي، ولكنه يغطي كل الشريط. quot;ثيوquot; كان واعيا مأساة أخيه و لا يتورع في مساعدة أخيه في كل الشروط.ثم يساعد أصدقائه ايضا، وبعد تجارب فنية عديدة quot;فاشلة؟؟quot; يسافر الى quot;أرلسquot; جنوب فرنسا على كلفة أخيه بعد فشل علاقة الحب الثانية مع أحدى المومسات او من نساء الهوى، يعيش سعيدا في البدء و يرسم أجمل لوحاته من الطبيعة و من حياة البسطاء، و المزارع و الفلاحين و أكواخهم المشرقة بالضوء وكثافة الالوان، و شخصيات المدينة، و باراتها و شوارعها الليلية و منزله الاصفر، و يفرح بخبر وصول quot;غوغانquot; للعيش معه quot;على حساب الاخ ثيو، بالطبعquot; لانه كان يعتقد بأفكار quot;غوغانquot; الذي يشاركه في فطرية الفن، ولكن هذا الاخير لم يكن رحيما مع صديقه الوفي فهو كان عنيفا و متهورا في طبعه، و خلال العيش المشترك لم يطيقه، لا شخصيا و لا فنيا، والجدال العنيف كان طبقهم اليومي و كان غوغان يعنف quot;كوخquot; في بذخه الوانه، ثم يعنفه أصراره الخروج لرسم الطبيعة في يوم ريح قاسي، هذا الاحباط الجديد يسرع في تدهور صحة الفنان العقلية، و هذا يقوده في ليلة مجنونة قطع أذنه مما عرضه الى استهزاء شعبي و سخرية لا تطاق، و الفنان الملعون quot;غوغانquot;يترك صديقه لحظه و يهرب مرة اخرى الى البحار الاستوائية.
يتواصل الفيلم بعد ذالك في مصحات عقلية بين فرنسا وهولندا، حيث ينتهي على يد الدكتور quot;غاشيتquot; بهذا الدور يقوم الممثل quot;ايفيريت سلوانquot; 1909-1965، و هذا يظهر في العديد من لوحات الفنان، و هذا الطبيب كان معروفا بأعتنائه العديد من فناني تلك المرحلة، و كان هاويا و جامعا لمعظم الرسامين الانطباعيين.
موسيقى الفيلم كتبها quot;مكلوس روشاسquot; 1907-1995 الهنغاري الاصل، ولكن باعتقادي ان العنصر الحاسم في نجاح الفيلم كان المصور الرائع quot;فريدي يونغquot; 1902-1998 الذي يصور فيما بعد اجمل افلام المخرج البريطاني quot;ديفيد لينquot;، مثل quot;لورنس العربquot; و quot;الدكتور جيفاكوquot; و quot;أبنة رايانquot; و يفوز جائزتين اوسكار على الفلمين الاولين.
في الاخير، أعتقد ان الترشيح لجوائز الاوسكار هو نوعا من الحظ.و الاكثر حظا من يفوز بها، لا أشك أبدا أستحقاق quot;كيرك دوغلاسquot; هذه الجائزة، فأدائه كان في القمة، و لكن أداء quot;انتوني كوينquot; كان في قمة القمة اذا سمح لي التعبير، فيلم لا أترك مشاهدته كلما يعرض في القنوات التيلفزيونية، ولكن جماله يزيد في شاشات بعض دور السينما التي بين فترة و اخرى تعيد عرض بعض الافلام الكلاسيكية الخالدة.