1 - جَابو


تخبّط ٌ هنا وهناك، ارتباكٌ يحشرُ وجوده في كلّ مكان وآن. أناسٌ يجيئون ويروحون على غير هدى او باختيار وقصد. وأنا عابر ٌ طاريء، كنتُ أرنو الى زوجين انتهيا من التسوّق. هو اسمرُ من اصل افريقي وهي بيضاء اوروبية. كانا يحملان اكياساً تنطوي على ما تبضعاه من السوق. استغربتُ، بل أدهشتني نصاعة بياض قميصه وسرواله، وبياض جسد المرأة نصف العارية. قلتُ في نفسي: سبحان مَنْ جمع النقيضين. مضيا في طريقهما، ومضيتُ في طريق آخر. لكني كنتُ افكر فيهما، في ثقافتين تتعايشان تحت سقف واحد. تُرى: ايستمرُ هذا التعايشُ بين النقيضين. فلقد رأيتُ واحدة ً يوم كنتُ اتعلم اللغة السويدية في مُبتدأ أربعينياتها حاملاً في شهرها الأخير. بصحبة فتى افريقي جاءت به ليتعلم اللغة السويدية. التقينا مصادفة اثناء الاستراحة. طلبت مني أن أدلها على أحد يسهل أمرها. اخذتها الى غرفة المدرسين، اشرتُ الى ماركوس / مدرّسنا / فخفّ نحونا بسرعة. وقفنا في الممرّ. وتكلمت المرأة عن زوجها / الفتى الأفريقي /: إنّه زوجي، اريد ان يتعلم لغتنا في مدرستكم. قال لها باسما بعد أخذ وردّ ٍ: أنتِ أفضلُ مدرسة، يستطيع أن يتعلم في بيتكِ لغتنا في شهرين. / ردّت عليه: لكني اريدُ ان يُتقنَ الكتابة والقراءة / اذن تعالا معي /... وغادروني الى غرفة التسجيل وأخذني الممرُّ الطويل الى / الكافتريا / وضعتُ كرونتين في الصحن الزجاجي، ملأتُ لي قدحاً من القهوة، ولم أكد اجلسُ حتى ازدحم مكاني بالشباب الذين يُفضلون الجلوس الى جواري. اسمعُ الى أحاديثهم ويسمعون الى أحاديثي.
بعد أيام كان الفتى الأفريقي يجلسُ الى جواري في الصف. وخلال الفرص والفراغات يجلس معنا في الكافتريا وقد تبرعتُ بدفع كرونتين عن فنجان قهوته الأول. واستمعتُ اليه: انّه من غانا، كان يعملً في احد المطاعم. فاستهوى المرأة َالسويدية. تحادثا، وتفاهما، والتقيا وتعمّقت العلاقة ُ الى ما وراء اللقاء العابر. ثمّ تزوجا. وعادت هي الى بلدها وانشغلت باتمام الإجراءات المعقدة لسحبه الى الوطن.
- هل اكملتَ دراستك؟
- لا، كنا فقراء، تركتُ المدرسة في آخر المرحلة الأبتدائية.
- لكنك تتقنُ قليلاً من الإنجليزية.
- تعلمتها خللَ سني العمل في الفنادق وورشات العمل.
ظلّ / جابو / معنا اسابيع، ثمّ ترك المدرسة، وقد يتعلم السويدية في البيت افضل من المدرسة كما نوّه بذلك ماركوس. وعليه أن يبقى في الشقة يعتني معها بالطفل الأول.
قال ماركوس بعد خمس سنوات، وكنتُ تقاعدتُ حسب القانون السويدي حين بلوغي الخامسة والستين. التقينا من دون موعد، جلسنا في المقهى نحتسي القهوة، وكنتُ نسيتُ / جابو/ ولم ارَه ابداً على الرغم من أن لوند مدينة صغيرة. لكنّ ماركوس فاجأني:
- لقد انفصل صديقك عن زوجته، هي طلقته.
وازدحم حلقي بالضحك، لم اسمع ان المرأة هي التي تطلق زوجها. ولأنّ المرأة كالرجل في جميع حقوقها، فهي تطلب الزواج وتطلق حين تتأزم الأمور بينهما. استغرق كلانا في الضحك. قال مازحاً:
- حين رأيتهما أول مرّة عرفت أن هذا الزواج كالبالون الملوّن سرعان ما ينفجر. لقد حظيتْ منه بطفلين جميلين، هي أخذت حق رعايتهما وتربيتهما، هو عاطل عن العمل. وحين التقيتها سألت عنه:
- لقد غادر السويد ولا أعرف عنه شيئاً.
مرتْ هذه الصورُ ببالي كلمح البصر وأنا الج بوابة السوق. لا للشراء، بل لأتمرأى المكان المخصص للكتب والصحف، ومنها العربية. اجيء كلّ يوم لأرى الجديد القادم.
أين جابو الآنَ؟ ذلك الفتى الأفريقي العامل في احد فنادق غانا والذي منح المرأة السويدية طفلين اسمرين جميلين، هنا لا يسألُ أحدٌ عن أبيهما، هما طفلان يحملان الجنسية السويدية، ولهما ام ترعاهما. ويحظيان بأفضل رعاية في العالم. جابو عاد الى التنظيف وخدمة الزبائن في ذلك المطعم المجهول في اكرا. ربّما التقى واحدة من بلده، وبوسعه ان يأخذها الى السويد.
فعلاً عاد جابو، لكن الى العاصمة، ووجد عملاً كمنظف في احد المشافي، والتحقت به عروسته الغانية، وانجبا اربعة ابناء،عاشوا جميعا عيشة سعيدة. ونسي جابو أن له ولدين من امرأة سويدية، كما نسي الولدان أن لهما أباً ما زال يعيش في مدينة أخرى. وجرى مسيلُ الحياة من دون مشاكل...


2 - غادرتْ كالأميرة

بعثرني حلمٌ بين ضلوع خلائقه، تقلّبَ بي من جبهة الى سواها. كنتُ مجردَ عابر رواق حلمي، لا أدري كيف التقينا، ولمَ صيّرتني المصادفة ُشريك سكن معه في غرفة ٍ واحدة؟ سريري جوار الباب، وسريرُه في الطرف الأقصى. نلتقي ليلاً نتحدّثُ هنيهة ً قبل أن يجرفنا النوم في مسيله. لا أعرف أين يعملُ ومَنْ اصدقاؤه. غرفتُنا تُشرفُ على ساحة مربعة مع بضعة بيوت على ميمنتنا وميسرتنا. ومثلها على يمين الساحة ويسارها. وقُبالتنا صفوف غرف. والغرف تتشابهُ كما لو كانت توائم. وعلى يمين ويسار الساحة بوابتان كبيرتان تُغلقان ليلاً قبل منتصف الليل. احياناً يمرّ قادمون داخلين وخارجين، لا الى الغرف، بل خارج الساحة التي يتوسطها حوضٌ دائري تسقسقُ نافورته بالماء. وتزدحمُ حافاته السمنتية بالعصافير والحمائم تجيء لتشرب ثمّ تغادر. كنتُ مُعتاداً على الدخول من البوابة اليسرى والخروج منها الى السوق المكتظ باناس يجيئونه من أقاصي المدينة. لم اجرّب البوابة اليُمنى أبداً، ولا أعرف مغزى ذلك. وبرغم اني احمل شهادة عالية في اللغة الّا اني لم أجد عملاً وظيفيّاً يُناسب مؤهلاتي. لذلك عملتُ نادلاً في مقهى اوزّع الشاي على زبائنه. فالتقي اناساً مختلفي الأمزجة والثقافات، لكنّي لم اطلْ معهم الحديث والمكث. المقهى كبيرٌ مُزدحمٌ دوماً. مُتعباً كان عملي، وزهيداً كان أجري، بوسعي دفعُ ايجار سكني، أمّا طعامي/ وجباتي الثلاث / فعلى صاحب المقهى الذي يُضمرُ لي ودّاً خفيّاً احسّه وحدي.
التقيتُها اولَ مرّة وهي تجلسُ وحدَها في الزاوية البعيدة، حين وضعتُ امامها فنجان القهوة وقدح الماء، رفعت عينيها عن الصحيفة ورمقتني بنظرة خاطفة مسحتني من رأسي حتى اخمص القدمين:
- انت جديدٌ هنا؟
- اجل، منذ بضعة أيام.
- من اين انت؟
- .......
- أه عرفتُ.
وخلال شهر كانت تجيء، تجلس في مكانها المُعتاد. لم تبادلني الحديث. تمضي قرابة ساعتين. ومواعيدُها مُحدّدة. في الرابعة تكون في مكانها وتغادر في السادسة قبل غروب الشمس. ولا اكتمُ سرّاً أنني كنتُ اشعر بسعادة حين تهلّ على المقهى. ويعروني حزنٌ يُعذبني حين تُغادرُ. بيد اني كنتُ أحملها معي، احضر خيالها، الى فراشي نتقلب معاً حتى يأخذني النوم الى عالمه السديم. ولأني اعود الى غرفتي في الحادية عشرة مساء ارى دوماً صاحبي نائماً في ميمنة الغرفة. هو يأتي ويخرج قبلي. لذلك لا نلتقي ولا نتحدّثُ الّا في حالات محدودة. غريبينِ كنا. في احد ايام العطل غشيني صداع ً فطلبتُ من صاحب المقهى ان يمنحني اجازةً بقية النهار. فوافق بمحبّة، وتمنّى لي الصحة. كنتُ انتهيتُ قبل قليل من تناول وجبة الغداء معه، من عادته ان يتغدّى معنا أنا واثنين من العاملين معه. اولجتُ المفتاح في الباب وانفرج. ويا لدهشتي فقد كانت تجلس على حافة سريري. ذُهلتُ، بل صعقني مرآها. لكنّ رفيقي في الغرفة، وقد انتهى من ارتداء ملابسه تقدّم تجاهي وصافحني بدماثة، والتفت نحوها قائلاً:
- خطيبتي زلال. سنتزوّج بعد اسبوع، وساترك الغرفة لك وحدك.
- تهنئتي. وكلاكما طيّبُ.
- اتعرفها؟
- من بعد، هي تجلس في المقهي وتستغرق في القراءة.
نهضت، مدّت يدها وصافحتني.
قال وهو يُوضحُ لها: دكتور جليل، عالم اللغة والأستاذ السابق في جامعة.....
- كنتُ أعرف انّه نموذج لا ينتمي الى ذلك العالم. الا أنّه وهجٌ غير عادي أضاء المقهى.
- معذرة، لدينا موعد ينبغي اللحاق به قبل أن يُدركنا الوقتُ.
من فتحة الباب رأيتهما يقطعان الساحة تجاه البوابة اليمنى. قامتاهما متقاربتان، بدأتا تتضاءلان حتى احتوتهما البوّابة ُ واختفيا. أمّا أنا فقد حملني الحلم الى جبهة أخرى، تركتْني غرفتي ولم أعد ابداً اليها والى ذلك المقهى. تُرى ماذا سيقولون عني بعد غيابي....؟


3 ndash; عزفٌ مختلف

هي ممالكُ الوحي تُسوّقنا الى ما نشتهي وما لا نشتهي. ذلك امرٌ فوق الارادة، هنا عالمٌ فوضويّ متعسّفٌ يجرفك خللَ مساره من دون أن تغرق. أذكرُ أنّي أرتدي بدلة ً بُنيّة جديدة ويعرفني كلُّ أحد. لم أكّ مجهولاً عائماً عبر النظرات والأشياء.
بدايةً التقينا في ملتقى ينطوي على جمع من صفوة الناس. كانوا يسمعون محاضرة او قراءة. هو يجلسُ الى جواري، نتبادلُ أحياناً حديثاً هامساً وسمعُنا يُصغي الى المتكلم. حرّاسُه يجلسون وراءه. انتهى الوضعُ المأزومُ وتفرّقَ الجمعُ. بيدَ أنّه كان مُحاطاً بوجهاء المدينة. مع ذلك لمحني وناداني باسمي، صرتُ الى جواره: / لا تنسَ أنت مدعو الى الغداء معي / ثمّ مضى ومضيتُ. ولا أذكرُ أنّي لبّيتُ دعوتَه. لكنّي رأيتُ مكان المطعم الذي كان على يساري وأنا أرتقي عدداً من الدرجات العريضة مع آخرين ماضين الى بغيتهم. وثمة أصدقاء اعرفهم كانوا يقفون مثل أدلاء ومرافقين. لم يحفلوا بي، لكنّي تجاوزتُ أحدهم فناداني، التفتُ اليه، وهو صديقٌ قديم توفي منذ سنوات. كان مدرّساً معي، أكاديمي جاد، خفّ تجاهي وعانقني بحميمية مفرطة. ورحبتُ به: / أين أنتَ؟ / هنا، وأنت / حملتني مصادفة ٌ ورأيتُني أجري مع الناس / والى أين ذاهبٌ؟ / الى تلك المكتبة، وقد أقتني بعض الكتب / أخذ بيدي تجاهها، كان الداخلُ مزدحماً، وثمة على الطاولات صحفٌ ذات اسماء غريبة، تناولتُ احداها واسمها quot; النهرُquot;. قال:: نشر لك موضوعٌ فيها / غشيتني ضحكة ٌ كتمتُها على مضض: / أنا لم اسمع بها فكيف تنشرُ لي؟ / ربّما اخذتها من صحيفة أخرى / حين تصفحتها رأيتُ كتابة ً لي استغرقت الصفحة العاشرة. كان انطباعاً عن كتاب صدر حديثاً، طويتها وتأبطتُها بغية شرائها. ومررتُ على جميع الصحف أقرأ اسماءها، كلها غريبة ٌ عليّ لم اسمع بها أبداً.
كانت على الجانب الآخر عددٌ من الرفوف تكتظ باصدارات جديدة / مجلات وكتبٍ / وجعلتُ أتصفحُ بعضها. وقبل أن اقتني أيّ كتاب أو مجلة، اختفى صديقي ووجدتُني بصحبة صديق آخر وفي مكان آخر. كان الوقتُ مساءً وبدا يشكو من صعوبة ايجاد مكان يبيت فيه ليلته. بادرتُه: / سآخذُك الى بيتي، لكن ينبغي أن نتعشّى اولاً / وقبل ان ارتاد مطعماً التقيتُه ثانية، وجهاً لوجه. كان بصحبة عدد من وجهاء المدينة ومرافقيه.فتح ذدراعيه واحتضنني: / لقد جئتَ في الموعد تماماً / أردتُ أن أقول له: أيّ موعد. الا أنه أمسك بيدي ومضيتُ معه. لا أدري أين صار صديقي وأين يمضي ليلته. بعدئذ ٍ غام المرأى واحتواني صقعٌ آخرُ. كان صديقي الذي تركته يقفُ امام باب خشب عريض متين بنيّ اللون، فتحه وولجناه معاً. لم يسألني لمَ تركتُه وأين أمضى ليلته. بل رحب بي كما لو نلتقي اول مرّة. المكانُ / الصالة ُ / أشبهُ بمكتبة، ينطوي على رفوف مصطفّة طولاً.تزدحمُ بمجلدات ضخمة، ذات أغلفة سود وبنيّة، وقفتُ لصقَ رفّ، مددتُ يدي وتناولتُ مُجلداً ذا غلاف أزرق غامق عنوانُه: / الحضورُ الواقعي والفنتازي في مرويات ابن قتيبة /والمؤلف: د. محمد جبار المعيبد. وهو من اصدقائي القدامي تربطني به علاقة حميمة. وتوفي في ظروف غامضة. لا أتذكّرُ أنّ لهذ الأكاديمي كتاباً بهذا العنوان. تصفحته، كان يربو على اربعمئة صفحة ٍ ونيّف. اعدته الى مكانه وتصفحتُ كتباً اخرى. عندئذ ٍ اقترب مني صديق كان يشتغلُ في تحقيق الكتب التقيتُه آخر مرة صيف عام 1997، خلال تحضيره شهادة الدكتوراه. صافحني وسحبني الى رفّ بعيد، مدّ يده وناولني الكتاب ذاته، لكنّ طبعته قديمة. قال: تستطيع أن تستعيره، جلنا خللَ الصالة ننتقل من زاوية الى اخرى ومن رفّ الى سواه. نلتقي اناساً اعرفهم ولا اعرفهم. ثمّ اختلطت عليّ الأمورُ، مضى صاحبي الى مكان، وتركني وحدي اتمتعُ بتصفح الكتب: رفوفٌ من رسائل الماجستير والدكتوراه لم تطبع بعد، تنام طي الغبار والنسيان. كنتُ في حاجة الى حمّام افرغ فيه مثانتي، وكلّ مَنْ التقيه يُؤشرُ بيده تجاهه. وهو ابعد من نجوم السماء. فجأة ً تركتُ فراشي واسرعتُ نحو حمّام شقتي، تاركاً كلّ تلك العوالم تتمتعُ بدفء السرير، وكان عليّ أن اعود الى كتاب صديقي المحقق لأقرأ مرويات ابن قتيبة في حضورها الواقعي والفنتازي.


4 - نصف دائرة

فجأة ً اندلقَ من من باب ٍأو من فجوة في الجدار، سحبَ نفساً عميقاً من سيجارته ثم رماها ومضى. هو ابنُ عمي. آخرمرّة رأيته كان يحبو، بصعوبة حملته وقبلته، مدّ يده يريد أدخال اصابعه في عيني اليسرى، امسكتُ بها ووضعته على البلاط المُترب. وغادرته، وذا هو شابٌ متين البنية يرتدي قميصاً اصفر وسروالَ جينز أسود. اخترق صفوف الناس المتجمهرين لغاية اجهلها. اختفى بينهم ثمّ ظهر واقفاً فوق سقيفة عالية. كان يتحدّث عن مسرحية ستعرض بعد قليل امام السقيفة. وعلى مبعدة بضعة امتار اجلسني احدُهم على الأرض فوق سجادة مفروشة. كان مكان جلوسنا على شكل نصف دائرة. جلستُ في منتصفه وعلى ميمنتي وميسرتي آخرون. ومن ورائي تسعةُ صفوف اخرى. وأمامنا فُرشتْ حصرانٌ تكتظ بصحون صغيرة من الكيك والآيس كريم. لم ادقق في وجوه الجالسين حوالي، كنتُ مهتماً بنفسي وحسب. نزل ابنُ عمي من مكانه وضاع بين الحضور. وبدأ عرض المسرحية، لكن لماذا كان بعيداً عنا، صحتُ من مكاني وانا ازدردُ شيئاً من الكيك: / اليس من الأفضل ان ينتقل الممثلان الى هنا، ويؤديا دورهما في هذه الفسحة امامنا. وسيكون بوسعنا وبوسع الواقفين رؤية العرض بوضوح أكثر / سمع الممثلُ كلامي،امسك بيد زميلته وتقدّما تجاهنا، وارتاح الجميع للمبادرة. كان الحوارُ سلساً وصوتُهما واضحاً يسمعه الجميع / الجالسون والواقفون / لم اتابع بدقة وبحميمية مجريات ادائهما وحوارهما. لكنّ الجسد والصوت والملامح والحركات والانتقالات كانت مدروسة ومُتقنة، والانفعال صاعدٌ ونازل. أمّا الأروع فهدوءُ الجمهور واصغاؤهم.
اذن ما الذي جاء بي الى قضاء الطوز، اذكر اني غادرته قبل ستين عاماً يوم كان قصبة صغيرة يجيئُها الفلاحون من اطراف قُراهم لبيع القمح والشعير والعدس والسمسم والشمّام والبطيخ الأحمر في اشهر الصيف. ثمّ يعودون مُحملين بالتمر والشاي والسكر والتبغ والأقمشة. بعدئذ، بعد شنّ طوفانات الحروب على القرى الكردية هجر سكانُها قراهم الى الطوز الذي زادت مساحتُه عشرات المرّات، فيما اندثرت القرى ومُسحت من الخريطة لا من الذاكرة، فما زالت: غرّة ُوقُري جاي والدراجي ونوجول وكرمك والصاليي وقرى اخرى نسيتُ اسماءها ترتعش امام باصرتي. لهذا اراني ارى ابن عمي quot;جميل quot;هنا. لكن كيف استحال هذا الطفل، الذي كان يحوم حوله سربٌ من الذباب ويسيل مخاطُه فوق الشفة العليا، رجلاً يتحدّثُ أمام الجمهورعن هذه المسرحية بلغة نقدية وعلمية. ثمّ... كيف تحوّل الطوز الذي يُسمع دويّ الانفجارات فيها بين يوم ويوم الى مدينة آمنة تحظى بآلاء الأمان. فليست ثمة رائحة ٌللخلاف والتناحر. كانت عيناي تذرفان الدمع، دمعَ الفرح، فهل تحظى بقية ُ مدائننا بما يحظى به قضاء الطوز بكل اطيافه المتآخية؟ لا ادري متى غادرتُ هذا المهرجان القدسي، لكنّي كنتُ في احدى عربات القطار التي تقطع الأفضية وتُثير عاصفة من الغبار وراء زجاج النوافذ وتحجب عني رؤية الخارج. رجة العربة فوق المقعد الخشبي جعلني استغرق في النوم. وتجيئني اسرابُ احلام، سربٌ يُفضي بي الى سرب. فيا الهي، دعني ارتعْ وامرعْ في سنا أمان بلا نهاية. وابعدْني عمّا يفتح في روعي جراحَ الرعب والألم. حين فتحتُ عيني لم يزلِ القطارُ يهدر، يتوغل في المديات المفتوحة.
فجأة ً رأيته، تتلقف شفتاه حلمة ثدي امّه. هو في الموج، فوق الموج،في البرج، لصق البرج. كان مثلنا يتأرجحُ، تقبض أنامله على دفء الحبّ، طفلٌ يحتضن ابتسامته التي لا تحتضر ُ.كان يرفس عباءتها، يمدّ يده صوبي. ويشمُّ فيها ريح طفولته. ليس كموسى يحمله الماءُ الى المجهول. ترك ثديها وتطلّع حواليه. جمع قبضته يضربُ الفراغ، فلا يُصيبُ سوى الهواء. تُدغدغه امُّه فيبتسمُ ويتنسّمُ عطرَ زمنه. سيرتدي منذ الآن ثوبَ أمان، لا شكسَ، لا تمرّدَ،هو الأن وليدٌ يرفع سبابته في وجهي: / تعال خذْني من أحضان امّي، علمْني كيف احتضنُ الماء. كيف اكون ابنَ زماني....
حين لامستْ قدماي رصيف المحطة اختفيتُ صرتُ خلف الشاشة انتظرُ مرّة ً اخرى دوري.....


5 - حجرٌ غريب

ترك سريره القاحلَ وشجنَه اليتيم، رأى الخارجَ كعادته ضاجّاً. غشيهُ الندمُ على تأخره في النوم. كان يسرحُ في مديات احلامه، حلم سبسبٌ يتبعهُ آخرُ ليس فية طراوة ٌولا سخونة ٌ ولا سنا. وحدَه يجتابُ الأفضية، لكنّ مرأىً عجائبيّاً صدمه، بل صعقه حدّ الجنون. رآهُ، رأى جاره يحملُ رأسَ طفل اشقر، محضَ رأس، مثل كرة كبيرة، ينطوي على العينين والحاجبين والأنف والشفتين المزدحمتين بابتسامة ساجية، والأذنين والشعر السنبلي. أين بقيةُ الجسد؟ / الا تراه؟ قال جاري، ينبغي أن تفحص عينيك / مرّ الى جوارنا شخصٌ لا نعرفه، نظر اليه ورأسُ الطفل في حضنه، سأله:/ أترى طفلاً احمله؟ / لا، محض رأس / ومضى من دون مبالاة. إبانئذ، حين تركتُ جاري حاملَ الرأس، وجدتُ حجراً مستطيلاً بلون العسل، ذا اطار ازرق، كان غريباً وأثيراً الى نفسي. همستُ: / هو ثروةٌ ينبغي انْ احافظَ عليه / لكنّ رجلاً أحمق خشن الملمح سيء المسلك رآه في يدي، انقضّ عليه وخطفه منّي. رفعه بموازاة عينيه وجعل ينظر فيه. انبهرَ، سحب نفساً عميقاً ثمّ اعطاني ظهره. التفتَ ثانية نحوي، مددتُ يدي اريدُ استعادته. بيدَ أنه وضع داخل كفي حجراً آخر مُفلطحاً ابيضَ تتخلله نقاطٌ زرقٌ وسود. اغلق كفي وغادرني. تبعته: / انّه ليس حجري، قفْ، اعده اليّ. لم يسمعني،اختفى في لمح البصر. والحجرُ الذي تركه عندي جميلٌ غريب، ورآه صديقٌ مرّ الى جواري فاستغرب: / ياله من حجر ثمين ؛؛ هو ثروةٌ احتفظ بها / لكنّ مرأى رأس الطفل أنساني ما في يدي. كان الآونة طفلاً طبيعياً يلعب مع اولاده الثلاثة. لم اجرؤ على القول: كيف صار للرأس جسدٌ؟ لكنّي صحتُ بعشوائية: / يا لك من محظوط، يبدو جميلاً وذكيّاً / اوافقك الرأي، وبرغم صغر سنّه فإنّه يدلّ اولادي على الصواب. يتحدّثُ بطلاقة، ويحفظ عن ظهر قلب مئات الأغاني: / تعالَ ننضمْ اليهم واطلب اليه أيّة اغنية تخطرُ ببالك فسيُغنّيها لك / كان يُضاهي اولاده طولاً مددّتُ يدي اربتُ على راسه، دفعها بعيداً و بادرني سائلاً: / جئتَ تطلب مني اغنية / كيف عرفتَ؟ / ضيوفُ ابي يجيئون لهذا الغرض: / اذن اسمعني: على بلدي المحبوب ودّيني لأم كلثوم / انّها من المفضليات لديّ / وغنّى، الهي ما اشجى صوتَه عذوبة وقوة ً، ما أدقّ اداءه، دمعت عيناي، رفعتُ اصبعي امسحُ دمعةً همِيَتْ من عيني اليمنى، يقولون: دمعتُها للمسرّة، واليسرى للحزن..... اختفى المرأى برمته، حتى الحجر الثمين فقدتُه، تُرى أينَه الآن؟
كان الصباحُ صبحَ العيد، عليّ أن ألتحق باسرتي، لكنّ صديقاً اتصل بي وطلب ان نلتقي في العاشرة امام المقهى. تُرى كيف اوزّعُ نفسي الى شطرين / نفس بصحبة عائلتي واخرى بصحبة اصدقائي / وكان لي ما أردتُ، وصلت الى عائلتي، عاتبتني زوجتي: / لمَ تتأخرُ دوماً وتجعلنا ننتظرُ، لقد ابحر القاربُ / لا بأسَ، سيرسو آخرُ بعد عشر دقائق. تعالوا نتناولْ شيئاً من الطعام الخفيف، كان صاحب الكشك يُلبّي طلباتنا، وما اكثر ما يُغيّراولادي رأيهم. بعد ربع ساعة كان حيزومُ القارب الذي حملنا يخترمُ الموج، وكنا على السطح نتمرأى الى الماء الأزرق والضفتين المأهولتين بالقلاع والحصون والأسوار والشرفات والنوافذ والشجر، وفوقنا سماء زرقاء تكتظُ بالنوارس.
غداتئذٍ كنتُ أيضاً مع رفاقي الثلاثة، لامني نزار: / دوماً تتأخرُ عن الموعد، لمَ لا تتركُ هذه العادة، ألم يكن موعدنا في العاشرة، وذا انت تجيء في الحادية عشرة / ردّ ابراهيم: / قد يكون عذرُه معه. وللعائلة حقٌّ عليه /.. احتوانا فضاء المقهى، وانهالت علينا القبلاتُ والأيادي بحلول يوم العيد ممّن نعرفهم ولا نعرفهم.حضرتْ استكاناتُ الشاي واطلّ علينا صاحب المقهى مهنئاً واضعاً امامنا معجنات العيد والحلوى، بعد نصف ساعة مدّ فريدٌ يده الى جيبه واخرج بضع ورقات: / اليوم هو دوري في قراءة قصتي، شحّذوا السنتكم معلقين وناقدين / كانت قصتُه رصينة قوية الإيقاع لغة ً ومضموناً، وكان يتحدّثُ عن حلم رأيتُه وحكيته عليهم، رواها كمَنْ يتحدّثُ عن لساني. كنتُ أنا مَنْ يروي تلك القصة. ايّة مصادفة هذه؟ اعترفُ انّ لغته متينة باذخة وشعرية ذات دوال ٍ عميقة..اختفى اللقاءُ والقراءة والتقريض. وأنا الآن مع عائلتي نزلنا في جزيرة، جلنا في ارجائها وتغدّينا في مطعم يُشرفُ على الساحل، عدنا مساءً، وكنتُ اتحدّثُ عن الطفل الخارق الذي حظي بانبهاري وامتعني وامتعتهم قصتُه في اول يوم العيد وتعمدتُ ان لا احدّثهم عن الحجرين الكريمين اللذين ضيّعتُهما. فقد وجدتُ عائلتي وحظيتُ برفقة صحبي في اول يوم العيد.