برشلونة: كان همي الاكبر بعد انهائي الدراسة المتوسطة، هو الانتساب الى quot;معهد الفنون الجميلةquot; ولكن معارضة والدي كانت شديدة، رغم محاولات الفنان quot;محمد القبانجيquot; افناعه لان والدي في تلك الفترة كانت تربطه بالفنان علاقة صداقة وعمل. فهو كان مقاولا لاحدى عماراته.. وكل هذا لم ينفع واصر على تسجيلي في quot;اعدادية الاعظميةquot; لانه كان يعتبرها ثانوية نموذجية، للقبول في كلية quot;الهندسةquot; بعد انهاء القسم العلمي فيها.
كان والدي يعتقد ان نسبة كبيرة من ميزانية مقاولاته كانت تنتهي في جيوب المعماريين.. وهذا كان صحيحا بشكل ما. لذلك كان يريدني quot;معمارياquot;. رغم ان همومي الدراسية كانت على ضفة اخرى. فقد كنت رساما هاوبا، ومشاهداتي لاعمال الفنان العظيم quot;فايق حسنquot; كانت تثير فيّ انفعالات متناقضة، بين رعشة خوف، واندهاش غامض، وكنت خلف معارضه ومساهماته الجماعية اينما كانت في بغداد، وحين وجدتني في الاعظمية، وأنا ابن quot;الكرخquot; غسلت يدي من املي في دراسة الرسم.
عزائى فقط كان جمال المدينة وروعة عمارة الاعدادية بين المقبرة الملكية. وquot;جامع ابي حنيفةquot; وفي الوسط حدائق النعمان. وهي من اعداديات بغداد العتيدة. فهي من القليلات التي كانت تحتوي مسرحا. كبيرا وصالة عرض للسينما.. ومرسما. وناديا رحبا للرياضة. وكنني كنت اتابع خطى quot;فايقquot; اينما كان نشاطه.
شاء القدر ان يتوفى ابي بعد سنتين، وحينها اصبت بأول كآبات حياتي، فتركت الدراسة، والاعظمية وأعداديتها. ورسبت في كل المواد،. و بقيت سنة لا أحرك ساكنا.. وتحت الحاح امي عدت الى الدراسة، ولكن هذه المرة في quot;اعدادية الكرخquot;
فايق حسن، لم يكن يمارس غير quot;أستاذيته، وفنهquot; فقط. فلم تؤثر فيه كل الغليانات السياسية في بداية السبعينات. فكان هو الشخصية العارمة.. كل ما كان يهمه هو مشغله وطلابه. وحسن ادائه التربوي. الشخصية المسيطرة على كل اجواء quot;أكاديمية الفنون الجميلةquot; وفجأة وجدتني معه في مشغله.. انا الذي كان حلمي التقيه ولو بالصدفة. ولكن حزنه كان بالغا حين الغى النظام البعثي طريقة القبول في الاكاديمية، كان كافيا ان تكون عضوا في حزب البعث او مزكى من قبل احدى منظماته المحلية. فالغي نظام الفبول السابق الذي يعتمد على اختبار وامتحان، عملي ونظري، بهدف تغيير الخارطة السياسية وتناسب فواها، فحزبالسلطة كان اقلية واظحة ففي ذالك الزمن الاكاديمية كانت تسمى quot;قلعة الحمرquot; وسنة بعد اخرى تحولت هذه الى مؤسسة بعثية.
كنت في حضرة quot;فايق حسنquot; ومنذ الايام الاولى شعرت ان علاقتي به ستكون صعبة، ولكنني حسبت حساباتي لكي لا يحدث ذالك. لان احترامي له كان فوق كل الاعتبارات، مرة دخل على مشغل السيدة quot;نعمة محمود حكمتquot; التى كانت تدرسنا مبادئ الالوان في الاشهر الاولى من السنة الاولى. وهي سيدة محترمة من خريجات اميركا، ولكن علاقتها بالفن لم تكن بتلك الحميمية، كانت قد عينت في الاكاديمية بسبب quot;اكادميتها النظريةquot; وكفنانة لم تكن ذات مستوى عال،، وهي بدورها لم تبذل جهدا لتكون كذلك، وحين دخل ldquo;فايقrdquo; المشغل كعادته، دون نقر او دق على الباب، وحين القى نظرة على quot;باليتquot; زميلتي quot;فاطمة لوتاهquot; ووجد فيه لونا اسود احتقن وجه الاستاذ وصار دخان غليونه اسودا ايظا، اقترب مني ورأى نفس اللون الزيتي عندي. وعند كل الطلبة كنا أكثر من 17 طالبا، كنت انظر السيدة quot;نعمة محمودquot; ووجها كان يعبر كارثة ستحصل، وحصلت، فهي كانت تراقبه وهو يكرف بيديه المجعدتين كل الوان الزيت الاسودوكانت، ترتعش تحت ldquo;بدلةrdquo;عمل ناصعة البياض، وكأنها طبيبية، كانت على وشك الاغماء عندما بدأ فايق حسن يدهن ويفرك تلك البدلة الجميلة ويلطخها بكل سواد الالوان قائلا (كم مرة قلت لك ان اللون الاسودلايستعمل لتدريس الرسم مع المبتدئين؟؟. وغادر المشغل تاركا السيد نعمة كما لوحة متحركة من اسود وأبيض.
حينما انتتقلت الى الصف الثاني، كان هو استاذي اليومي في الالوان، وبيننا بدأت علاقة غريبة من الود والغضب، ولكنه بطريقته كان لايتوقف عن شرح الاشياء ببطء، متحدثا من خلف غليونه العتيق الذي لا يترك فمه ابدا الا لتنظيفه. هو الذي علمني كل ما ما اعرفه،، ووجد بي مادة خام كان يريد صقلها على طريقته الخاصة. فلا مثيل له في اسلوبه وتكنيكه، في استعماله الالوان. فهو، quot;الوحيدquot; منذ بداية تأريخ الفن المعاصر في العراق الذي حفظ الالوان في ذاكرته، كما يحفظ اي نص عن ظهر قلب. التوناة (التدرجات اللونية) في رأسه، وريشته لم تكن بحاجة لنوع من التعامل، فأصابعه، وراحتي يديهه كانوا بألوان ابدية، في حضرته، كانت مطيعة، حارة مرات وصارخة ودافئة مرات أخرى.

في ذالك العام قرر مطبلو النظام اقامة معرض حزب quot;البعثquot; الاول،. وزمروا له وطلب من كل فنان المساهمة بعمل او عملين، quot;مقابل مكافات ماديةquot; عدد قليل من الفنانين الرائعين وعلى ر اسهم quot;فايق حسنquot; حاولوا بأدب تجنب شرف المساهمة في هذه المناسبة الفنية البعثية. ولكن حين عرفوا ذالك أجبروه ليلة قبل افتتاح المعرض اجبروه على ان يقدم. هذا ما اخبرني السنة التالية. فبضغط من المنظمة الحزبية التي كان يقودها، نزار الهنداوي، عصام البزاز ومديري، المتحف الوطني للفن الحديث quot;العبيديquot; ومدير مركز quot;صدامquot; المختار. وواحد اخر نسيت اسمه لحسن الحظ. لم يبق امام quot;فايق حسنquot; غير رسم عمل في نفس تلك الليلة. والعمل كان بورتريت لـquot;ميشل عفلقquot;. منقول عن صورة خرجت من حقيبة احدهم.. المسكين فايق اراد تجنب كل هذا، وأنظروا اين انتهى به الامر. راسما عفلقا. واللوحة طرية لان الزيت يحتاج اياما لينشف. وهي اخر لوحة علقت قبل الافتتاح بساعة.. وكان السيد quot;ميشيل عفلقquot; ينضح دهن الكتان من جبينه. ومن يد بقلم ذهبي كانت توقع بعض الوثائق على المنضدة،، من يدري ماذا كان يوقعquot; قرارت سجن ياترى؟.
كلنا عرفنا ما كان يعنيه الفنان، كان واضحا انه قد اجبر على رسم هذا العمل بالذات... كان عملا رائعا كمنجز فني، اراد منه الفنان اظهار ضبابية الشخصية وغموضها.
في اليوم التالي، حاولت اخبار استاذي، بأن عمله الزيتي الرطب quot;لعفلقquot; كان جميلا رغم عدم حبي له وعدم اتفاقي معه عقائديا. حينها كنت كما لو اني طفل يسأل فنانا عملاقا مثل quot;فايقquot; انتبهت بسرعة الى غضب مكتوم. وغيض مكظوم غطى وجهه، فوضع غليونه على المنضدة وأدار لي ظهره ليصحح وضع الموديل الذي كنا على وشك البدء في رسمه. وبينما كان يطلق دخان غليونه، طلب مني بود غير معهود منه ان لا اعود لهذا او الحديث عنه، وهكذا فعلت والان وبعد اكثر من 38 سنة رأيت من العدالة ان اكتب هذا الفصل الكئيب من حياة الفنان.. لان ذالك ضايقه كثيرا. ففي كل وسائل الاعلام. كانت لوحته في الصفحات الاولى.. وفي التلفزيون. وكان يشعر بإحراج.
بعد ذالك بأسبوعين، طلب مني الجلوس كموديل ليرسمني الطلبة.. ورأيته يهيئ quot;الستاندquot; الخاص به.. فعرفت انه كان يريد ان يرسم لي quot;بورتريتquot;، انهاه خلال 3 أيام فرسمني الفنان بعمل جميل، فأخذته الى بيتي قبل ان ينشف. لانني كنت خائفا من فقدانه. هذا كان بعد أسبوعين من صورة عفلق، ولكن رسمي كان طوعيا ووديا:، ولكن بعد هروبي من العراق في منتصف السبعينات. وتورط quot;صدام حسينquot; في حروب مدمرة وقمع ظالم. خلال الحصار ولظروف اقتصادية صعبة، اضطر واحد من اخواني بيع اللوحة لسيدة مقتنية لاعمال فنية، بمبلغ لا يتجاوز الالف دولار، وحينها كانت هذه ثروة quot; الان هنا اتوسل من يملك اللوحة ان يرسل لي صورة لها. عن طريق quot;ايلافquot; ممنونا له سأكون،
وهكذا كانت علاقتي مع فايق حسن، تتمرجح بين ود وكره وغضب وحتى غيرة. فبعد اكتشافي وشغفي بالكرافيك والطبع في quot;استوديوquot; الفنان غالب الناهي الذي يقع بالضبط فوق مشغل quot;فايقquot; والذى يفصلهما سلم خارجي، كنت أستغل فترات غيابه مع غليونه لاصعد خلسة للتطبيق في تكنيك الكرافيك. وحين يعود ولا يجدني في مشغله كان يستشيط غضبا، ويصعد السلم راكضا ويأمرني النزول بعد ان يعنف quot;غالب الناهيquot; لسماحه لي بذالك.. وفي احدى المرات انزلني السلم وهو يجرني من أذني. وفي الصف الاخير كنت قد انشغلت برسم جدارية quot;فريسكوquot; في مدخل الاكاديمية. وكانت واحدة من كبريات الجداريات المنتشرة في بغداد، كلفني برسمها استاذ quot;مادة الجدارياتquot;. الفنان quot;غازي السعوديquot; ولكنني كنت اشتغلها ليلا وحتى احيانا كنت انام في الاكاديمية. وهذا لم يكن يضايق الاستاذ quot;فايقquot;. بالعكس، كان معجبا بالعمل. ولكن الذي اغضبه بعد فترة هو تكليفي برسم جدران، مسرح الاكاديمية من قبل الاستاذ quot;سامي عبدالحميدquot; الذي كان يعد مسرحيته العظيمة quot;جلجامشquot;. فوافقت ذالك، عارفا ان هذا سيثير امتعاض فايق.
وبدأت العمل، بنفس الطريقة التي امارسها في مشغل الكرافيك، مستغلا غياب فايق للعمل برسم كل جدران المسرح بين شخصيات quot;الملحمة الاسطوريةquot; وكتابة بعض النصوص الاصلية كما وردت في ترجمة الدكتور quot;طه باقرquot; فصارت صالة المسرح وكأنها معبد سومري، او بابلي. وعاد النزاع مرة اخرى مع quot;فايقquot; ولكن هذه المرة فاز الفنان quot;سامي عبدالحميدquot; الذي توسل استاذى ان يسمح العمل في اعداد المسرحية ولو بضعة ساعات في الاسبوع في البداية رفض، رغم ان quot;ساميquot; كان عميد الاكاديمية... اخيرا وبعد الحاح هذا الاخير وافق على مضض. رغم انه يجد الحجج لتعنيفي على طول اسابيع لاعداد quot;جلجامشquot;. ولكن بشكل اخف.
هكذا كان ldquo;فايق حسنrdquo; فنانا ورجلا رائعا. ربما طال الموضوع ولكنني اختصرت الكثير من الاشياء. وبعد تخرجي مباشرة كنت الوحيد من كل خريجي دورتي تلك املك شهادتي مترجمة ومصدقة ولم يبقى علي الا عبور quot;جسر زاخوquot; بينما كان زملائي في اصطفاف عسكري امام عريف في احد معسكرات بغداد.
قبل سفري الليلي بأيام. عزمني في بيته على غداء نباتي. هذه المرة كنا اصدقاء. واخر حديث بيننا قال ldquo;كل هذه السنين كنت اعرف منو وشتفكر ldquo; قال هذا مبتسما وفي قلبي لم يكن له غير الود. كنت على وشك اخباره بمشروع هروبي من العراق. وكنني فضلت عدم إقلاقه في موضوع اخر. قبلت رأسه وخرجت الى محطة الباص.

ملاحظة: هذه المقالة سبق ان نشرت في إيلاف اوائل 2010