على محطة المقبرة، و تحت لهيب الشمس، وقَفْتُ، انْتًظِر، واتَذَمَر من طول الوقوف. من بعيد، لمحها المتلهفون، بنظراتهم الزائغة، يتعطشون لوصولها الجليل، تأتي الحافلة، او" التوبيس"، كما نحب نحن المغاربة ان ندلعها، يتشدقون بكل شيء فيها، وكأنها نجمة مشاهير، يتزاحمون امام بابها الموصد، يتنافسون، ويتلاكمون في سبيل منصب، او عفوًا كرسي مريح.يُفْتَحُ الباب، يدخل المتلهفون، وهنا امام السائق، (او"الشيفور"، كما يحب ان يدلعه المغاربة باسمه الحركي)، لا يسعه سوى ان يستعمل جميع حواسه، ما ظهر منها وما بطن. لماذا؟ لأنه بكل بساطة، هو سائق و صراف و مراقب و فاتح للاًبواب، وغالقها طبعا، والاكثر من ذلك، فهو اِلى حد ما محاسب، اجل محاسب، ليس لتلك الدرجة التي تتصورونها، بل سائقنا عليه ان يحسب ما حققته الحافلة من مداخيل في اليوم، وان لا يسمح ابدا لأيٍ كان ان يقتحم الحافلة، واِن دخل الراكب، فعليه ان يدفع تلك الدريهمات، واِلا فعلى سائقنا الصراف ان يتحمل مسؤولية تقصيره واهماله لأرباح الشركة.
دخلتُ، بل وجدت من يدفعني من الوراء، ومن اليمين وآخر من اليسار، تماما مثل لقطة الفنان الكبير عادل امام في فيلم "الارهاب والكباب" ، حينما وجد نفسه وسط كومة من الاكتظاظ البشري تدفعه نحو مكاتب المصالح الحكومية.عادة ما كانت قسمتي ونصيبي، تصب في التمسك والتشدق بحديد معين، وحتى ان كنت محظوظا، كنت اجد نفسي واقفا مثل "الشاوش" عند الباب، واحيانا اَجد نفسي جالسا فوق عجلات الحافلة، لكن، هذه المرة، وبعد كفاح شرس مع المتنافسين، ومع كل من سولت له نفسه "الطيبة" ان يضع لي تلك المطبات، نلت مرادي، ونجحت في كسب الرهان، اجل..رهان، واخيرا حصلتُ على ذاك "المنصب"، كرسي مريح، وبمحاداة الزجاج، اتلصص على الطريق كما اشاء، واتأمل في هذه الكائنات"التوبيسية" ( التي أنا جزء منها) كما اُريد.
حافلتنا هذه، تنطلق من مقبرة، وسط مدينة تبعد عن اغادير ببضعة كيلومترات، تكثر المحطات، ويطول وهن الرحلة، وكأنها رحلة قطار، تعبر قارات من الاحياء السكنية، منها الشعبية، والفقيرة، والمنسية، والريفية، والراقية والميسورة.حافلة استطاعت ان تزيل مفهوم صراع الطبقات، وان تذيبها الى مجرد راكبين، يتساوون في مصير واحد، ويتزاحمون في سبيل كرسي مريح، تلتهم المنتظرين وترميهم في مواقف "توبيسية"، تختلف باختلاف الاشخاص، فهناك من يبتغي الوصول لعمله، بالحي الصناعي، وثان، يبتغي النزول للحرم الجامعي، وثالث لمعهده المهني، ورابع لغرضه الاداري، وخامس لسؤاله عن مريضٍ في المستشفى الاقليمي، وسادس واخير، تائه، لا بداية ونهاية له، لا اول ولا لآخر له، لا عنوان له، ولا محطة ولا موقف "توبيسي" له، بل هو مجرد راكب غارق، في يم الطلب والسؤال..عن صدقة او احسان.
على محطة المستشفى، وبعد صراع مرير مع الايادي و الاَكتاف و الاجساد، اِنْفَلَتُ ببدني النحيل، وبمراوغة كروية، تجاوزت خطوط الليزر البشرية، وخرجت من ذاك الاكتظاظ، معطوبا، معوج الاضلع والاطراف.لأجد نفسي مرميا في المستشفى اللاعمومي، وهناك ابتدأت سطور قصة اخرى، لاتنتهي.
&هذه هي رحلتنا، قطعة من العذاب، ترميك بين مقبرة ومستشفى، ذهابا.وايابا، من مستشفى، ترجعك، باهثا، مصفرا، وبلا الوان الى تلك المقبرة، تنتظر جسدك المنهك في الحافلات، ليُوَاَرى الثرى عليه، بفاتحة تنهي كفاحك مع الازدحام، ويبقى منك مجرد تذاكر ضائعة، مرمية، على رصيف المحطات.

[email protected]