&

الموت: الرصاصة؟
أم رصاصة الموت؟ إنه ابتكار الألم، ووحشته، ومأساويته . العزلة مع الحداد، في هذا السياق تصدر الشاعرة السورية طهران صارم& التي سبق أن أصدرت:" لحن الغريب" 2012 ، و" بيدر فواصل" 2013 ، تصدر ديوانها الثالث:" على مرمى رصاصة" ( الهيئة العامة السورية للكتاب، أبريل 2015) في (70) صفحة من القطع المتوسط، لتدون هذه المأساة التي لا نظير لها في التاريخ السوري، حرب لا تنتهي وموت لا ينتهي يقطف المكان واللحظة، ومن يحيا داخلهما. هو قطف أبدي يومي للحياة. هكذا هي الحرب .
فما الذي يفعله الشعر في زمن الحرب؟
الشعر يوقد التأمل، يعطي طاقة النور، لا يرصد الموت بل يترصد له ليحاول أن يخفف من أثر الماساة بالروح التي تهجرها الحياة، هنا تصبح الكتابة الشعرية نوعا من المغامرة لأن الحدث أفدح واكبر من الكلمات. جثة قتيل واحدة أضرمتها نيران الحرب أكبر من الأبجدية ذاتها، لكن الشعر يحاول أن يخلص أكثر لرؤيته، أن يتسامى عن المأساة لينتقل إلى مأساة الكلمات التي تحل هنا بوصفها أقنعة جمالية رمزية مضرجة بدم المعنى، ونزيف الصورة.
في ظل هذا الأفق المأساوي تقدم الشاعرة في ديوانها الجديد (55) نصا شعريا مكثفا، كتب ما بين عامي 2011-2013 أي في وقائع سنوات الحرب داخل سورية التي ما تزال في حريقها الدامي تحصد الأرواح السورية، دون تفرقة ما بين قابيل أو هابيل .
وتستهل الشاعرة طهران صارم الديوان بهذه الدالة المأساوية التي لها موروثها الفاجع في الأدبيات الإنسانية: " الموت" وفعله الأول هذا الغياب، وهذا الفراق الذي يصعد فيه الغائب إلى السماء، ويا للمفارقة، عبر الأرض التي يسكنها وتسكنه، تقول الشاعرة في النص رقم (1) :
&مرة قلت لي:
لن يفرقنا إلا الموت
اليوم
فرقتنا الجبهات . / ص 5
&الموت صار متواريا، لكنه بالتحليل الأخير هو موت يقظ، حتى إنه لا يفرق بين إنسان وإنسان وحدهما، ولكنه يفرق أيضا بين الأمكنة والجهات والجبهات. الشاعرة تستهل بهذه البداية المأساوية كنافذة أولية على ما سيأتي بعد من نصوص قد اختارت أن ترقمها في (55) نصا من دون عناوين. كأن عنوان الديوان وحده :" على مرمى رصاصة" وهو عنوان موتي، كاف لأن يعنونها جميعا في ظل هذه المأساة السورية التي لم تتوقف عن طحن الوجوه والأشياء والأرواح بعد.&
&
لقطات للقصف:
يتشكل ديوان الشاعرة طهران صارم من (55) نصا، اختارت له أن يؤدى على شكل لقطات ومشاهد مكثفة، في جمل شعرية قصيرة مسنونة وحادة، على الرغم من مباشرتها أحيانا،& كأنها يوميات مفارقة للحرب، تظهر فيها بعض الشخوص وتفاصيل الأمكنة، ولكن وهي تتعرض للقصف لصوت الموت القادم من مختلف الجهات. هذا الموت الذي يؤدي إلى طريق العدم، ولكن من دون أن يكون له هوية أو ميقات. إنه يأتي مباغتة ولا يرحل إلا بعد أن يحصد ما يشاء من أرواح في الحياة، كما تعبرالشاعرة.
&في ظل هذا الأفق فإن الشاعرة تستثمر دالة " الموت" الناجمة عن دالة " الحرب" وهي في هذا الاستثمار الشعري تعبر عن أمرين:
أولهما : عن الذات الشاعرة المتألمة المطعونة بأوجاع الوطن، وثانيهما: عن موت الأشياء .
&الشاعرة السورية طهران صارم لم تهاجر من أمكنة الموت، ولم تترك الوطن وحده يقاسي. إنها تلتزم أبجديتها وتسكن أمكنتها وتلحظ هذه الرصاصات العابرة، وترقب هذا الحصاد المأساوي:
المرأة التي تقف خلف النافذة
تصرخ بالأولاد : اقطفوا ورد الرصيف
لا تتركوه يموت على غصنه
تتمنى أن يعلو صراخهم بالحي
تشتهي أن يكسروا زجاج بيتها
وأن يسبوا شعرها الأبيض
أن يقذفوها بكرتهم الملونة / ص 6
هي تبحث عن حياة أخرى في مواجهة الموت: الأطفال والورد، ولعب الكرة. كأنها تخاطب المستقبل ليحث الخطى بالعودة إلى المشهد أو إدراكه. المستقبل حلم بالخلاص من المأساة. أو أنها تقاوم الموت ببراءة الأطفال. متكئة في تعبيراتها الشعرية على حقول دلالية بسيطة، يومية، وعلى ابتكار المعجم الرومانسي أحيانا المترع بالحلم، والذاتية، واقتطاف الجمالي في وردة أو شجرة أو طائر أو غيمة، أو عطر،& لكي تقاوم الموت، ثم تقاومه أيضا بعدد من المشاهد الأخرى التي تنظر للموت على أنه مجرد حالة رتابة وضجر:
المرأة خلف النافذة ، ملت الصمت، ملت حديث الرصاص ورتابة الأشياء / ص 7

الذات تنتصر على الموت:
يتكاثر الموت في معظم نصوص الديوان، خاصة في 12، 19، 20، 21، 26 ، ويتوارى ويحضر بشكل مباشر أو غير مباشر في بقية النصوص. وتتكاثر دلالات: الموت، الرصاص، والحرب، والبكاء، لكن رتابة الحرب وضجر الموت يظل فضاء دلاليا منتشرا لدرجة أن الأحوال تصبح عادية تماما :
من أطلق علي الرصاص
لم يصبني في ذاكرتي
ولم يغير لون عينيّ
هو فقط أصاب رأسي
سال دمي وانتهى
وأنا الآن ميتة . / ص 9
&وفي نص آخر تؤكد على هذه الاعتيادية والألفة التي اعتادت الموت والحرب، وكأنها تسخر من الموت، من وقائعه الدامية، تتجاهله تصيبه هو أيضا في مقتل.
&لقد أصبح الموت جارا يشاهد يوميا بل كل لحظة، لكن مع ذلك قد تصده الذات الشاعرة باستدعاء الطرف الندّ للموت: الحياة:
&في حينا
حيث يسكن الموت
كجار قريب
أخرج كل صباح
أزور الشوارع والأزقة
أطمئن إلى الحياة وأعود. / ص 17
ففي مشاهد كثيرة تسعى الشاعرة إلى الانتصار على الموت، على كسره، بتجاهله أحيانا، أو باستدعاء الدال المضاد :" الحياة" أو برصد الانتصارات الصغيرة ولو بشكل مأساوي على هذا الموت العرم، فالعجوز الخرساء تقتل بمقشتها كل صباح رائحة الموت، أو تعود لحكايا الجدات عن غول الزمان وغد البشر، أو تقاوم بالبيوت الخاوية التي لا يجد الموت فيها أحدا يصافحه، أو بالحلم بالتغيير كما في النص (27) ، ولو على شفا المستقبل:
أنادي أطفالي الجياع
أرسم لهم ما طاب من الشجر
وأزرع في أحلامهم سنابل صفراء
وأقول : ها مدينتي القديسة
ها مدينتي البيضاء
فضاؤها معطر
شمسها ناصعة
ووجهها صبية
تعاند القدر / ص.ص 40-41

أو بمصاحبة الأشياء ومحاورتها، حيث تنتقل لمنطق التجريد ، وتشخيص الشيء في أفق استعاري جلي، استشعارا للحظة بعيدة خارج رتابة المأساة وحصارها الأبدي:&

الشجرة الواقفة
على مفرق الطريق
همست لي اليوم باسمي
سألتها تعرفينني؟؟!
قالت: مازالت حروفك محفورة في نسغي / ص 66
إن اعتيادية الموت، ببذخه المؤلم، وفداحته المأساوية، واعتياد الحرب التي أسقطت ما أسقطت من شهداء وجرحى ودمرت من ما دمرت من مدن، وأدخلت الوطن في روزنامة عدمية لم تعبر بعد، جعلت الموت حالة اعتيادية، والرصاصة التي تخمن عن وجود ما هنا أو هناك لكائنات حية صارت صديقة، وصار صوتها أكثر صمتا، صارت المفارقة عبئا عليها وعلى حضورها.
ولهذا تحلم الشاعرة بأفق آخر، ستظل تمارس حياتها العادية، اليومية، الأليفة، ستظل تتمسك بمواقيتها، ستنتصر حياة الشعر وحياة الكلمات ويبقى المستقبل مفتوحا على نصاعة جديدة خارج منطقة الألم:

في انتظار الحرب
في انتظار الموت أو الحياة
على شرفتي التي ربما تغدو
عدما بعد قليل
أو تبقى ليزهر ياسمينها
أجلس هادئة في كرسي
أطلي أظافري بالأحمر
أرد خصلة شعري عن وجهي
أردد أجمل ما أحفظ من الشعر
وأعلم أن هناك طفلا من بلادي
سيحبو غدا على أرصفتها
يشم عطرها
ويقول : هنا كانت صبية
تحب هذا التراب& / الديوان ص.ص 10-11
إن ديوان :" على مرمى رصاصة" سيظل شاهدا جماليا وتعبيريا على مأساة قدر لها أن تولد في هذا الزمن الأكثر تشظيا والأكثر ضلوعا في ارتكاب مشيئة الألم لتعانق لحظات من المؤكد ستقترفها الأبجدية وتكابد أحزانها بكل سهولها ومفازاتها المسنونة الجارحة.
&