تعنونُ الشاعرة سوزان إبراهيم ديوانها بعنوان ملفت، يومىء مباشرة إلى عالم التشكيل، هو: " أكواريل" هكذا في كلمة واحدة مجردة، تطلقها ككون شعري صغير، سيكون له أشياؤه، وأسماؤه، ومخلوقاته الشعرية التصويرية، وسيماؤه الدالة.
إن حدث العنونة المجرد هنا يقرن بين الشعر والرسم، فالأكواريل هذه المادة اللونية المائية هي التي ستشكل هنا، واللغة هي التي ستكتب. هو إذن تشكيل باللغة، وإن كان الرسم أو التشكيل لن يكون بعيدا، بل سيبقى وامضا في الخلفية الإدراكية للقارىء.
وتقتنص الشاعرة هذا البعد المائي للأكواريل لتنسج لنا حالة شعرية متميزة تعيد فيها تسمية الأشياء، مازجة ما هو رمزي تعبيري بما هو سوريالي لأنها لا تقف كثيرا عند منطق الأشياء بل تندفع لإبراز صورتها وتعبيرها الشعري دون توقف متجاوزة مسألة البحث عن معنى إلى البحث عن تأويل.

ماء. أكواريل. شعر:
تصدر الشاعرة السورية سوزان إبراهيم ديوانها بفقرة عن الماء من كتاب " التاو" تقول:" ليس تحت السماء أكثر نعومة وليونة من الماء، وعلى الرغم من ذلك، فما من شيء أقدر منه على مهاجمة الصلب والشديد، الضعيف يمكنه التغلب على ذي الباس ويمكن للأخضر أن يقهر اليابس. كل من تحت السماء يعرف هذا لكن ما من أحد يضعه موضع التطبيق " . / ص 5
هنا الماء يتشكل ليأخذ دوره الحقيقي فهو ليس هذا العنصر الكيميائي الذي لا لون ولا طعم ولا رائحة له، وإنما هو الذي يعيد تشكيل الأشياء وصياغتها، والدلالة عليها أحيانا، وهنا تنشغل الشاعرة كثيرا في أغلب الديوان بفتح فضاءات التسمية الدلالية لكل دال تذكره عبر نصوصها الراسمة، لتعيد نسج هذه التسميات واستقصاء جوانياتها عبر استقصاء دلالاتها العميقة.
من هذه العلاقة الرمزية بين الماء والأكواريل تصنع الشاعرة بنى ديوانها المختلف، فتقسمه إلى أربعة أقسام هي: أكواريوم، وأكوامارين، وأكوا دي أورينت، وأكوا دي جيو، وهي تقسمات تومىء إلى عالم الكتابة والمياه والبحر، والأكواريوم Aquarium هو الحوض المائي الذي يتضمن عرضا للكائنات البحرية، فيما تعني بقية الكلمات الأحجار الكريمة الملونة، ثم تحمل الشاعرة عبر نصوصها دلالات الكتابة عن الذات والوطن وتفاصيله، والكتابة عن المأساة السورية.
وتستهل الشاعرة بعدد كبير من القصائد الفلاشية التي تبدأ بتسميات الماء من جديد تسميات دالة:
ليس لي يد فيما أنا الآن
إنه الماء
***
هو الذي
لا لون
لا طعم
لا رائحة
هو الذي يحب
***
هو الذي لا قبل قبله
لا بعد بعده
هو الواحد المتعدد
المتغير . الأزل
ال " كان" الباقي
***
الماء
دم الغيم النقي
البخار:
رماد الماء .

تتأمل الشاعرة كثيرا، لا حس جماليا فقط هو الذي يهيمن في هذه التسميات ، بل ثمة حس تأويلي يأخذ طريقه أيضا إلى صنع علاقات دلالية، بسياقات سوريالية وأنطولوجية وجودية خاصة حين نتوغل أكثر في النصوص ، ونستقصي سلالاتها الدالة. حيث تعيد الشاعرة تسمية الماء بمختلف دلالاته وكأنها تلون به العالم من جديد، كأن الماء هو لون الحياة الذي تتشكل به، ويتشكل به كل شيء حي أو غير حي – تبعا لرؤية قرآنية- لهذا فإن: الماء، البخار، الجليد، الغيوم، المطر، النهر، البحر، الندى وغيرها لها تسميات مختلفة لدى الشاعرة. كأنها في الاكواريوم تصنع مخلوقاتها وكائناتها الشعرية الخاصة.
&الجليد:
ماء خاشع يصلي
ماء رأى اللا نهاية
فتوقف قلبه.
الجليد ماء
دعي إلى حفلة الثلج التكرية.
الجليد
ماي في المنفى
الجليد
أوثان الماء / ص 13

الندى:
بنات الغيم المراهقات
تسللن عبر نوافذ الهواء
للتسكع في شوارع الفجر
الندى
عرق على جسد الليل الفائر
دغدغته
يد الفجر الباردة / ص 14
وهكذا يأخذ القسم الأول أو يرتكز في تشكيله على التسمية، على الجمل الاسمية التي تعيد تلقيب الأشياءن لا من أجل تثبيتها وتسكينها ولكن من اجل التحديق فيها، ومعايشة ما تكنه من تأويلات.
وبذا يصبح الجليد ماء متوقف القلب، والندى عرقا، وفي مشاهد أخرى تسترسل الشاعرة في رصد جل ما له علاقة بالماء، فالمطر : بريد السماء وفاكهة الماء الناضجة، وهو:
قبائل غجر
تحط الرحال
أنى شاءت
لتبدأ كرنفال الموسيقى / ص 15
فيما تسترسل في وصف وتسمية الزخات الرعدية، وبرك الماء المتناثرة، والسدود، والزبد، والجزر، واللؤلؤ، والصنبور وهو :" وسيلة مبتكرة لتعذيب الماء" والمظلات والمرايا وهي " ماء مقطر" / ص 21 / لتنتقل بعد ذلك إلى وصف علاقة الذات الشاعرة بالآخر وما يظللها من وجدان وحنين وفقد وعاطفة مكتنزة بالمواقيت. في نصوص الأكوامارين.
مازجة هذا الوصف بابعاد سوريالية من قبل:" ذهبت إلى الحذاء ليرمم نعل عقلي" أو :ط كل صباح يغادر جسده ويأوي إليه في المساء . هذا الصباح خرج أغلق باب جسده ولم يعد" / ص.ص 30/31

استقصاء الدال:
تقوم الشاعرة بفعل أسلوبي بين يتمثل في آلية: الاستقصاء، فالشاعرة دائما تستقصي دوالها المبسوطة في نصوصها، لا تتوقف عند المعاني كما ذكرت، ولكن عند التأويلات. ولعل أوضح نص للاستقصاء لديها هو نص تستقصي فيه دالة:" الشرفة" / ص 33 ومنه:
الشرفة
صندوق في الهواء
عروة في جسد المكان
نموذج مصغر لعراء مشتهى
مصيدة للضوء
لسان عين فضولية
الشرفة
موعد لقهوة صباح محلى بزقزقة العصافير
حبل لنشر الغسيل النظيف
فللمتسخ منه أدراج سرية
الشرفة
-&عند بعضنا-
ستائر تحجب كل ضوء
خشية عين تجوس بحثا عن
برعم أنوثة يتفتح. / ص 33

وفيما تمزج الشاعرة نصوصا لها بين التراثين العربي والغربي، وتعيد تلقيب بعض الدوال وتغيير مدلولاتها بسياقات جديدة، كما في أكوادي أورينت، حيث تتحدث عن الجفاف والرمل والسراب، والكلمات والجسد والروح، في نوع من " التعشيق الدلالي " بين الكلمات ومناطقها القصية، بعيدا عن مترادفاتها أو متضاداتها، مانحة إياها أجواء دلالية جديدة ( الروح حبر الله السري، الجسد أداة تظهيرها، الروح نيكاتيف الصورة، الجسد صورتها النهائية...إلخ ) ص 65 /
فيما تفعل هذا المزج، تنتقل بحس مأساوي مفارق ساخر عبثي سوريالي لوصف المكونات اللازمة لقصيدة وكأنها تقدم " طبخة شعرية" في أكوا دي جيو، والقصائد التي تندرج تحتها في قصيدة بعنوان:" قصيدة بنكهة القرفة" ثم أخرى بعنوان:" يحدث في مدن القصيدة" / ص.ص 76/83 مواصلة السخرية من العالم كرد فعل على ما يجري من مآس على الأرض السورية، في نصوص متعددة مثل: كأنني أموت الآن، ملحق وصية، بيان ختامي للجنون، حيث ترصد الشاعرة لقطات نصوصها المأساوية بشكل مغاير لما قدمته في القسمين الاول والثاني من فرح بتشكيل الحياة، وكأنها تقدم صورة الذات الشاعرة بمختلف ملامحها وخواصها بين الفرح والمأساة، وبين أحاديتها الغنائية وتعددها وتشظيها. تلك التي تصوغها في نصوص درامية موجعة كما في :" ريثما يكمل ارصاص ما بدأه، وقميص الورد، وحديقة أطفال. موتى. والشوارع حيث " لم يجد الرجال طريقة لبناء آلاف الأعشاش في بلادنا أسرع من القذائف" / ص 114 وريثما " يكمل الرصاص ما بدأه يغسل جاري أوراق الليمون في حديقته تطلق طفلة عنان ضحكتها" موجهة في النهايات صوتها إلى دمشق:
دمشق قولي لريحانك
أن يعفو عني
فأنا غفرت للشذا خطاياه
آه. تعبت منك دمشق
لكن
لا تفلتي أصابع قلبي. / ص 108

&كثافة التجريد:

كثافة التجريد واحتشاده، رؤية جمالية عميقة الأداء لدى الشاعرة سوزان إبراهيم التي لا تكتب كثيرا ولا تستطرد في جملها الشعرية، ولكن ترى أبعد، ترى إلى ما وراء الأشياء كلمات القصيدة عندها لا تبحث عن المعنى إنها تستقطره وتشف عن مساراته القصية. الكلمات عندها ليست مجرد أداة لابتكار معنى ما، بل أداة للتحديق، يمكن أن تكون عيونا لها قدرة كبيرة على النظر هناك إلى حيث تتلاقى المخيلة بالمطلق، حيث البصيرة، حيث الرؤيا لا الرؤية.
سوزان إبراهيم تتمسك بالتأويل كمعنى، لا بالمعنى كشرفة للتأويل. لهذا فإن قصائدها المكثفة لأبعد مدى لا تهتم بحركية الاشياء قدر ما تهتم بتسميتها ، لنقل بالأحرى إعادة تسميتها كأنها تخلقها من جديد، وهي إذ تفعل ذلك تميتها عن سياقاتها القديمة، وتعيد بعثها من جديد في محرقة التخيل لتكتسي تشكيلا آخر ومعنى مختلفا. وهي حين تقول فيما تنشره على صفحتها بالفيس بوك :" التأويل تخصيب خارج رحم المعنى" فإنها تعي ذلك تماما تنجذب لهذا التأويل لا المعنى وللقارىء أن يرى ما يؤوله .. لا أن يرى ما يصل إليه من معنى.
هنا تصبح الدائرة أكثر قابلية للوصول بمطلقها الكثيف الذي لا يتحدد بجهة ما، أو باستقامة ما لمعنى أو دلالة، تقول الشاعرة:
إنها الدائرةُ بتوقيت الضوء
وفي تمام العري
ارتَدتكَ.

الدائرة ترتدي عريها. الذات ترتدي عريها، الكلمة ترتدي عريها.. إن نسق التجريد يتيح ذلك، ويتيح للكلمات أن ترى بعدها القصي .. كأنها كلمات الروح التي تتلاقى في أعماقها المترادفات والمتضادات معا.
وفي نص آخر قصير وأكثر كثافة .. لا يتسنى لنا أن نقبض بالمعنى السطحي للتلقي على معنى ما، لابد أن نجرد وأن نكثف وأن نلج إلى فضاء الروح وبالتالي فضاء التأويل، تقول:
الوصولُ
بَدءُ تلاشِ
نهايةٌ مشتهاةٌ
تعششٌ في الأبدية.

إنها دلالات متقدمة في جدتها لأنها تمرئي الأشياء في طاقة دلالية داخل طاقة دلالية، كأنها مشكاة تأويل لا مشكاة معنى.
هل نقف هنا على رؤية جديدة وهاجة أو دفاقة حين نتخلى أكثر عن الفكرة التقليدية بأن هناك معنى أول ومعنى ثان وثالث وهكذا لنضيء فكرة جديدة عبر شعرية سوزان إبراهيم بوجود تأويل أول وثان وثالث وعاشر؟
إن شعرية سوزان إبراهيم تحفزنا على ذلك فنصوص ديوان " أكواريل" تحفز إلى البحث أبعد وأعمق، ومن المؤكد أن ما هو تأويلي سوف يشكل الطريق الأمثل لقراءة هذه التجربة التشكيلية الجمالية السوريالية الخصبة.