&
ربما هي المرة الأولى التي تستطيع شاعرة عربية معاصرة أن تبوح بجرأة شديدة وتطلق على ديوانها الشعري وصف:" قصائد إيروتيكية" هذا ما فعلته الشاعرة المصرية رانية خلاف في أول ديوان لها تصدره بعد تجربة فنية وسردية وتجربة مع الترجمة حيث أصدرت من قبل مجموعة قصصية بعنوان جسد آخر وحيد 1998، و& رواية حكاية الحمار المخطط عام 2009 عن دار الدار. كما شاركت في عدد من المعارض التشكيلية داخل مصر، فيما ترجمت عددا من الأعمال الأدبية عن الإنجليزية صدرت خلال الفترة ما بين 1998-2012 منها: الطفل المنبوذ لميلان كونديرا، ومذكرات جارة طيبة لدوريس ليسنج، وراحلة من إفريقيا لكارين بليكسن .
&الديوان الصادر عن دار آفاق بالقاهرة في طبعته الأولى& 2015 يحمل عنوان:" خرائط اللذة" بغلاف من الفنان التشكيلي وجيه يسي ، وهو يتقارب بشكل ما مع عناوين أخرى ظللت وجهات نظر متكثرة حول موضوعة : الجنس في الكتابة العربية.
&إن العنوان الأكثر جاذبية من العنوان نفسه هو جملة:" قصائد إيروتيكية" وهو عنوان مغو للقارىء كي يتقدم صوب قراءة نصوص مختلفة، تستثمر حالة من الشوق الإيروتيكي واللذة العبارية والدلالية التي ستقدمها شاعرة . فكيف قدمت رانيا خلاف هذا العنوان المحاط بخرائط اللذة؟
إن الشاعرة رانية خلاف تسعى في ديوانها:" خرائط اللذة" لا إلى تقديم حالة شعرية تتسم بالجرأة التعبيرية، أو للكتابة عن عوالم وأحاسيس وجدانية أو حسية بشكل تقتحم هذا العالم المتوتر بإيروسيته وشبقيته، ولكنها تسعى للتعبير عن هذه الأحاسيس والرغبات الإنسانية لا في صورتها الجسدية الحسية، ولكن في صورتها الروحية المتسامية. إن " خرائط اللذة" وهو يستنفر المفردات الإيروسية، وهو يعبر عن علاقات حميمة، لا يبدي هذا الشغف بالاستمرار في وصف هذه العلاقات أو الاسترسال في بيان جموحها المادي فهذا ما يمكن أن تفعله الكتابة إذا استسلمت الشاعرة للتداعي وللسرد الشعري لكنها تتجاوز هذه المسألة إلى مسألة أكثر فاعلية تتمثل في تجريد وتكثيف هذه المشاهد الحميمة، لتدخل إلى لذة الصورة ولذة التكثيف. إن تجربة رانية خلاف في :" خرائط اللذة" جديرة بالتأمل والمعايشة القارئة التي بالتأكيد سوف تقف على أسئلة إنسانية أكثر حراكا وأكثر مشهدية لتقود إلى هذا العالم الشعري الحيوي الحافل بالدهشة والخصوبة التعبيرية.
&إن الاقتراب من " خرائط اللذة" قد يكون مهووسا بفعل مسبق، من لدننا كقراء، بأننا سنبحث عما هو إيروسي، وسوف تستفزنا الكلمات المصابة بجرثومة الجنس، لنتيقن باختلاف الكتابة الشعرية هنا، بيد أن القراءة هنا لن تقع في هذا الفعل المسبق لأنها ستبحث عما هو شعري بالأساس، عما هو جمالي، وكيف قادتنا الشاعرة إلى كلمات نصوصها؟ وهل فعلا ينطبق عنوان الديوان على ما جاء من نصوص؟ وإلى أي مدى استثمرت الشاعرة البعد الإيروتيكي لإنتاج نصوص مختلفة؟

فاعلية الإيروتيكي:
النص الأول في الديوان يقلنا مباشرة إلى العالم الإيروتيكي بحسيته وخصوبته، لكنه لا يقدم لنا عملا شعريا مباشرا، لا يتكىء على ذكر المفردات الحسية لكنه يستثمر الحالة الدلالية للألوان، ويعيد تلقيبها ببذخ مجازي في النص:
بين الأسود والأبيض
هناك مساحة زرقاء
ذلك الأزرق الطفولي
الإلهي
هناك ستجدني دوما أتأرجح
فوق حبال اللخ اللينة المرحلة
نهدٌ هنا
ونهدٌ هناك
تارة أدخل بقعة سوداء
وأمتص رمادها الملغز
وتارة أنجذب للكستنائي
للأبيض البهي
أدخل رأسي التائهة
وأغسلها بعنف ساذج
أعود أتأرجح
وفي المنتصف
في البنفسجي المحيّر أقف ساعات
-&تأكلني الدهشة-
أسبّح بحمد الوفرة
وفرة الألوان الطازجة. / ص 10

ربما يتحول الإيروتيكي إلى تشكيلي، ربما تحدق الذات الشاعرة في ألوانه داخل النص، ربما تجتاح بنا كثيرا من التأويلات، لكن يبقى سؤال القراءة حافا بالنص، محاولا جذبه لهذا الفعل الإيروتيكي، وهو إذ يفعل ذلك إنما يفسر أو يؤول بشكل ضمني ما يريد أن يراه في النص. الشاعرة بالتأكيد نأت عن ذكر أية مفردات إيروتيكية، باستثناء:" نهد هنا ونهد هناك" وانصرفت على استثمار اللغة التي تومىء أو تشير من بعيد لتجعل القارىء في حالة يقظة قرائية لا صدمة قرائية باحثا عن يقينه الدلالي الحسي الرهيف.
بيد أن ذلك كله لا يمنع من وجود تجليات متعددة للحضور الإيروتيكي الفاعل في القصيدة، إذ إننا نعثر على مشاهد متعددة تقدم الوجه الآخر لما هو إشاري ورمزي ومجازي، كما نرى هنا في هذه المشاهد:
-&حينما تجذبني بسرعة من يدي
فأندفع إليك
وتضغط على صدري بقوة
مستأنسا بطزاجته
أرى عادة وجهك مذعورا
كأرنب جبلي هارب / ص 11

-&سيمنعني حيائي من تذكر لقائنا الأول
كنت عارية
شهية
سمكة طازجة
ناعسة في طبق أخضر مزركش
وأنت بملقاط بارد تنزع أشواكي
بلهفة تتجرد
وتغني بمرح:
" بيت العصفور أنا" / ص 30

-&هنا حلمتان ماكرتان
ثم شكل آخر منبعج
ربما كان جدار قلب مثقوب
أو...
لا أميز جيدا
أحتاج أن أطوف مرة ثانية
وثالثة لأجرب . / ص 14
-&أين راحت رغباتنا المرتعشة
وحركة عضوك المستطيل بشغف
الحر
الثائر
كما بدا لي
هل استقر هناك الآن
في بيتك الآخر؟ / ص 36

-&دعنا نفكر قليلا:
لو أنني مثلا منحتك النصف الذي اشتهته يداك
ولنسمه النصف (أ)
ومزقته أنت إلى شطرين
شطر لك
وشطر لحضوري النشط
في ذاكرتك الحارة
فماذا عساي أن أفعل
بثلاثة أرباع جسد
لازال ينبض؟ / ص 17&
ويحفل الديوان بمشاهد متعددة، ربما أكثر إيغالا في الهاجس الإيروتيكي، حيث تتكرر مفردات العري، وأماكن الشهوة، والأعضاء التي تتللص لابتكار لذتها، كما تتكرر كلمات: الجسدن الفخذان، الظهر، الحلمة،
فيما تتحول آلية اللذة إلى عمل آلي ضجرحين يصبح النهدان مجرد " حمالة صدر سوداء ساذجة" / ص 25 في مقابل : البيت، السرير، الغرفة، فيما تلتئم حقول دلالية متكثرة خاصة في نصوص:
رفيقة مملة جدا ص 24 / علاقات ص 45 / نحت في الفراغ ص 72& ، خرائط اللذة، لكنها تتجاوز هذا كله أحيانا لتومىء إلى فعل رومانتيكي حسي:

تغرق في نهري الأبيض
أسبح في محيطك الرمادي الغائر
ولا نلتقي
ربما لهذا
لم تعجبني الفودكا
التي
لم تلامس شفاهنا معا
ليس هكذا تشرب الفودكا
ليس هكذا يكون الحب
هل تسمعني؟ / ص 35
ومن توضيب عالم الألوان شعريا وإيروتيكيا عبر القصيدة، تنتقل الشاعرة إلى تأثيث آخر، بتشكيل علاقة ما بين البيت والمرأة، كلاهما وطن صغير، كلاهما يتحول إلى مكان بعيدا عن الوهج الإيروتيكي هما بيتان حسيان، حالمان وواقعيان، هكذا تصور الشاعرة هذه العلاقة في قصيدتها الطويلة:" البيت" التي تتكون من 14 مشهدا شعريا، تصدره بمشهد أول يكثف هذه العلاقة ويومىء إليها قبل أن تستطرد شعريا في تبيانها في المشاهد التالية، حيث تقول:
البيتُ امرأة
إن لم يكن لديك امرأة تعشقها
فأنت لا تمتلك بيتا . / ص 26

ليبيدو الإحساس:
في قصيدة " علاقات" يتبدى الإحساس الإيروتيكي بشكل واضح، خاصة في المشهد الثالث من القصيدة المكونة من 3 مشاهد، هي تقترب أولا من الحالة الوجدانية، من أثر الطاقة الكامنة بالذات " الليبيدو" – حسب فرويد- ولكنه هنا ليبيدو إحساس أكثر منه طاقة مشحونة بحسية مندفعة. طاقة إحساس وتأمل، يستنفر في المشهد الثالث ليسمي هذا الإحساس بتسميات ساخنة واضحة، لقد كانت هذه العلاقة تتسم بإحساس سينتمنتالي جلي كما نجد في هذا المشهد:
لابد أن هناك علاقة بين ألق عينيه
وانخفاض تراتيلي السرية
بين ألواني المائية
وقميصه الأسود المبلل بالحليب المسكوب على شفتيه
بين انطلاق شعري نحو صدره
وبرود فنجان القهوة بيننا
بين ركضي الشره في الطرقات
ودهاء حروفه الساكنة
بين ملمس الورق الخشن
ونعومتي
بين العشق
وممارسة الجنس علنا في الطريق العام
بين الألم والمغازلة
وبين العلاقة والعلاقة الأخرى / ص.ص 46-47

بعد ذلك تبرز الشاعرة هذا الإحساس في شكله الإيروتيكي الشبقي :
"وجعلنا العلاقة جسدا متهالكا، ألقينا به على طاولة الاجتماعات المربعة، وتأملناه مليا حتى أفزعنا أدوات المائدة، الملونة بطلاء أخضر خفيف،
لأنك شاعر مغرور أردت أن تأتيه من اسفله
ولأني امرأة عاشقة
تسكنني شياطين اللون والماء
أردت أن أسقي رأسه أولا
عسى أن ينبت لي نباتات عبثية مبهجة
كحياة
أحب أن أجوبها بخبرة قطاع الطريق
ولأنك شهواني محارب
أضاع نظارته في زمن الهتافات الزائلة
مددت أصابعك للمداخل الجنوبية
.........................../ ص 51
كذلك فإن القصيدة التي يحمل الديوان اسمها تنهمك في تصوير اللذة الإيروتيكية :" خرائط اللذة" ولكن ببعد يمزج بين الحسي والوجداني ومنها هذا المشهد:
حينما ألوذ بك
فأسقط في طبق العسل
دون ذنب
حينما تطوق خصري
يا حبيبي
ويلسعني الدفء
حينما أهمس في أذنك اللينة
كفى .. لقد أذبت كل خلايا جسدي
بالفعل لم تتبق لي الآن
سوى خلية واحدة قديمة
لا تصلح سوى
لملء فراغ ضئيل
في ذاكرتي المضحكة / ص 70

مع ذلك، ومما يؤكد على يقين استثمار الشاعرة لعدة رؤى تحول الجنس إلى حالة موت، والجسد إلى مجرد جثة :
أحب أن تمتلىء جثتي الوردية
برائحة حلوة
بحلم راقص
وضربات خفيفة
على فخذي الساكن
من عاشق قديم / ص 79
مع هذا الإحساس الذي يحول ما هو إيروتيكي إلى شعور مادي سيكولوجي بحيث يتحول من تكراره إلى حالة من الضجر والسأم، يوطد هذه الرؤية التي لا تجعل الشاعرة تحتفي بمطلق الإيروتيكي كحس وفعل شبقي، ولكن يعزز من قيمة التأمل الإنساني وتقديم الرؤية الشعرية الخاصة لهذا الفضاء الحسي المتوهج.
&وفي ظل هذا الوعي تنتقد شعريا فعل العهر، التي تحول المرأة إلى مجرد آلة تضخ الشبق بشكل مادي لا قيمة له سوى حضور الجسد، كما
في قصيدة :" لم لا؟ "
يمكنني أن اصبح عاهرة بسهولة
فأعضائي وفيرة
والرجال كثيرون
أعرف أن الرجل يمكنه أن
يكتفي بعضو واحد
لذا يمكنني مثلا
أن أمنح ذراعي لرجل
قدمي لرجل آخر
ونهديّ لثالث
وهكذا
يا للمتعة
متعة أن تمنح بسخاء
ربما
ما لا يجعلني عاهرة في نظر البعض
أنني أفعل ذلك
كل ليلة كل نهار
حينما
أجلس على سجادتي الحمراء
أمارس تمارين اليوجا
ثم بمقص بارد
أقطع أعضائي الحرة
المتجمدة أطويها جيدا
ثم أعبئها في أظرف ملونة متسعة
وأنتظر ساعي البريد . ص.ص / 106/107

إن القصيدة تؤكد على الآلية التي يتحول فيها الموضوع الجنسي عبر الجسد الأنثوي، وهي آلية خارج العاطفة وخارج الإحساس، بل خارج الليبيدو الجسدي نفسه، فالذروة المهبلية – فيما يرى جاك أندرييه في كتابه: النزوع الجنسي الأنثوي – " ليست وحدها الدليل على الصحة النفسية " ( من ترجمة: اسكندر معصب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 2009) ولهذا فإن الجسد هنا يتحول إلى مجرد أداة ، وهي رؤية من بين رؤى متعددة تقدمها الشاعرة في هذا الديوان الذي يحتاج لقدر من الإصغاء النقدي وقراءته عبر مثيراته النفسية والجمالية معا .
&