ما إنْ وصل عزرا باوند لندن عام 1909، حتى اتصل بالكتاب والشّعراء الجدد، وبما أنّه كان جد مثقف ويعرف لغات عديدة خصوصاً اللاتينية والفرنسية والصيينة، أستطاع أنْ يفرض حضوره القيادي. وقد انضمَّ الى نادي الشّعر الذي كان يلتقي أعضاؤه في أحد مطاعم حي سوهو. ومؤسس هذا النّادي كان الشّاعر والنّاقد هولم. وهولم كان أوّل من قدّم فلسفة هنري برجسون إلى الانجليز، مع عدّة مقالات شرحية لنظرية هذا الفيلسوف، وقد أعجب باوند بهولم لهذا السبب. لأنّ باوند كان يسعى إلى التخلّص من رتابة الوزن والتقاليد، واهتمام هولم ببرغسون، كشف لباوند عن إضافة مبدأ جديد إلى مفهومه التمردي هو أنّ اللُّغة الشِّعرية ينبغي لها المضي قدماً بصُور مرئية صلبة تعطي إحساسات جسمانية مادية.
المهم استطاع باوند انْ يلمّ شملَ هؤلاء الشُّعراء تحت يافطة جديدة هي "الصُّوريون". وأواسط 1913 أخذت البيانات والتصريحات تنتشر باسم الصُّوريين، فتسرّع باوند إلى إصدار عام 1914 انطولوجيا شعرية وضع لها عنوانا بالفرنسية Des Imagistes "صوريون". ضمّت نماذج ليست جديرة بالتسمية الباوندية المحض لما يجب أنْ تكون عليه الصُّورية. فهي خليطٌ من قصائد متضاربة بين الرّمزية، والانطباعية والدينيية والمتأثّرة بالصينية كقصائد باوند نفسه. معظمُها خال من بنود باوند الثلاثة: 1/ تناول مباشر للشيء ذاتياً كان أو موضوعياً؛ 2/ عدم استخدام أبداً أيّة كلمة لا تساهم في هذا التقديم؛ 3/ صورة هي التي تتمثّل مركباً انفعالياً وثقافياً في لحظة من الزمن". و"الصُّورة"، وفقاً لباوند، "ليست وصفاً بصرياً، وإنّما هي مركّب ذهني وعاطفي في لحظةٍ من الزمن، وإنّها ملموسة وليست مجرّدة". أمّا بصدد الإيقاع، "فيجب التأليفُ وفقَ تتابع إيقاع المقطع الموسيقي، وليس وفقَ تتابع بَنْدُول الإيقاع". والبنود هذه تكشف عن دعوة باوند إلى "الكلمة الدقيقة" رغبةً بإنهاء الارث الفيكتوري وبقاياه الرومانسية في الحقبة الادواردية، التي كانت مسيطرةً في الشّعر باستعارتها المبتذلة ونعوتها التزويقية. غير أنّ الصُّوريّة أخذت تفقد هذه الصفات وبدت كأنها تزويقية، بحيث شعر باوند بضرورة إلقائها في دوّامة. في الواقع، "كانت الصّوريّة اختلاقاً تاريخياُ، وليست مدرسة حقيقية كالدوّامية"، كما كتب مارتن كايمان. فكلّ طموحاتها كانت تتلخّص في أنْ تتماشى والتراث ومع أجود ما في الماضي. وإبداعاتها محدودة في سلسلة قصيرة من نصوص تتبع تعاليم باوند بتحسين الشعر المعاصر. وبرنامج كهذا هو أبعد من برامج أية طليعة.
وهنا سيأتي دور الرسّام ويندهام لويس المتأثر بالتكعيبية، والعضو الإنجليزي في المستقبلية. إذ كان يفكّر، إثر انشقاقٍ عن "مجموعة بلومسبري" الفنّية، في خلق تيارٍ جديد تتوالف فيه التكعيبية والمستقبلية خطاً ثالثاً جديداً متميّزاً بطابعٍ انجليزي. فأقترح عزرا باوند، الذي كان وراء كلّ هذا التحديث الإنجليزي، لويندهام لويس أنْ يسمّي تيّاره Vortex "الدُّوّامة، دوّارة مائيّة"، وبهذه الطريقة ينتهي من ركود الصّورية التي أصبحت باهتةً بعد أنْ أخذت ايمي لُويل تشرف على نشر شعر الصُّوريين. وربّما عنوان "الدوّامة" الذي اطلقه المستقبلي الإيطالي جياكومو بالا على مجموعة رسوم عرضت عام 1913 في لندن، أوحى إلى لويس وباوند بتسمية تيارهم "الدوّاميّة"! وقد وضع باوند تعريفاً للدوّامة: "الدوّامية هي فنُّ الكثافة... نقطة الطاقة القصوى... وتمثل في الميكانيك الفاعلية الكبرى". فأصدر لويس وباوند، أواسط 1914 العدد الأول من مجلة غريبة اسمها "انفجار"، وقد جاءت بإخراج يثير الانتباه حيث تتسيّد الحروف الغليظة جداً والألوان الزاهية. وحملت كتابات وبيانات ذات نبرة جديدة. أحيا فيها باوند الصورية باسم آخر، وتميّز فيها ويندهام لويس نفسه وتيّاره عن المستقبلية وذلك باقصاء ثنائية الماضي/المستقبل، وداعيّا إلى أنَّ الحاضر هو الفن... والشّيء الوحيد الفعّال هو الحاضر". بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، صدر عام 1915 عددٌ ثان وأخير. ومع أن ثمّة "مستقبلية موقوفة" في كلّ صفحات "انفجار"، إلا أنّ باوند لم يكن مرتاحاً من شعار المستقبليين ضد الماضي. فهو يعتبر هروبه من أميركا هروباً من غياب الماضي. لذا راح يبحث في تاريخ أوروبا عن كل ما هو نشط وذو طاقة في ماضيها، والبيت الشّعر التالي يعبر الكثير عن نزعته الماضوية:
نحن ورثةُ الماضي
ومن الغباء أنْ لا نعترفَ بهذا.

لكنه نشر مقالا تفصيلياً في مجلة "كلّ أسبوعين" عام 1914، أوضح فيه أنّ "الدوّامي ليست لديه هذه العرَّة لتدمير أمجاد الماضي. ليس لدي أيّ شكٍّ في أنَّ إيطاليا تحتاج إلى مارينيتي، لكنه لم يجلس على البيضة التي فسقتني، وبما إنّي معارض لكلّ مبادئه الجماليّة، لا أرى، لا أنا ولا عدد كبير من الذين يتفقون معي، أيّةَ حكمة في أنْ نطلق على أنفسنا صفة المستقبلية. لا نرعب في تجنب مقارنة مع الماضي. اننا نفضل أنْ تتم المقارنة بواسطة أناسٌ أذكياء فكرتهم عن التراث ليست محدودة النطاق بأربعة أو خمسة قرون وقارة واحدة"!
لكن النّاقد الإيطالي فراتيني، قال إنّه سمع باوند يقول: "إنّ الحركة التي بدأتُها مع إليوت وجويس وآخرين (يقصد الصُّورية)، لو لا المستقبلية لما كان لها وجود"! مهما كان من أمر تأثير المستقبلية الحقيقي على باوند والمحدثين الانجليز، إلا أنّ ويندهام لويس بإصداره "انفجار"، قضى نهائياً على مشروع مارينيتي بجعل لندن عاصمة المستقبلية العالمية، قضاءً جعل منها مجرد هبّة ريح من دون تأثير يُذكر، رغم عشرات المحاضرات والمعارض والنّدوات المستقبلية التي شهدتها لندن ما بين 1913 و1914.

بيرسي ويندهام لويس: "دوّامتُنا"
1
دوّامتنا لا تخاف الماضي: لقد نسيت وجوده.
دوّامتنا تعتبر المستقبل أمراً عاطفياً كالماضي.
المستقبل بعيد، كالماضي، لذلك أنّه عاطفي.
إنَّ العنصر المحض "الماضي" يجب أنْ يحافظ عليه ليتشرّب اكتئابنا ويمتصه.
كلُّ شيء غائبٍ وبعيدٍ ويحتاج إلى اسقاط في ما يعانيه الدماغ من ضعف مستتر، هو عاطفي.
الحاضر يمكن له انْ يكون عاطفياً بشكل مكثف خصوصاً حين تقصون العنصر المحض "الماضي".
لا تشتغل دوّامتنا فقط بالنشاط التفاعلي، ولا تُماثل الحاضر ببَسطِ الحيوية الفاقد الحس.
الدوّامة الجديدة تغطس إلى قعر الحاضر.
كيمياء الحاضر يختلف عن كيمياء الماضي. ومن هذه الكيمياء المختلفة ننتج تجريداً حياً جديداً.
اغرقت دوّامةُ رامبرانت هولندا بطوفان حلمي.
غمرت دوّامةُ تيرنر أوروبا بموجة ضوئية.
نتمنّى أنْ يكون الماضي والمستقبل معنا، الماضي لكنس اكتئابنا، والمستقبل ليمتص تفاؤلنا المزعج.
مع دوّامتنا، الحاضر هو الشيء الفعّال الوحيد.
الحياة هي الماضي والمستقبل.
الحاضر هو الفن.

2
تتمسّك دوّامتنا بحجيرات مُحْكَمة السَّدّ.
ليس هناك حاضر أو ماض أو مستقبل، وإنما هناك فن.
أيُّ لحظة غير مسترخية ضعفاً أو متراجعة، أو، من ناحية أخرى، تحلم بتفاؤل، لهي فنّ.
"لا شيء غير الحياة" أو كما يقال "واقع" هو كمية رابعة، متكونة من ماض، ومستقبل، وفن.
الحاضر غير النقي دوامتنا تحتقره وتتجاهله.
ذلك أنّ دوّامتنا لا يمكن رشوتُها.
يجب أنْ يكون لدينا الماضي والمستقبل، الحياة البسيطة، أي لنفرغ أنفسنا، وانْ نحافظ على نقائنا من أجل اللا حياة، أي الفن.
الماضي والمستقبل عاهران انجبتهما الطبيعة.
الفن مَنجى دوريّ من هذا الماخور.
يضع الفنانون الكثير من الحيوية والبهجة في هذه القدسية، ويهربون، كما يهرب معظم الناس، من وجود جدير بالاحترام إلى أماكن مشابهة.
والدوّاميُّ هو في أقصى طاقته كلما كان ساكناً
الدوّاميّة ليست عبداً للهياج، وإنما سيّده.
الدوّاميُّ لا يتزلّف إلى الحياة.
إنّه يعرّف الحياة على مكانها في الكون الدوّاميّ.

3
في كَونٍ دوّاميّ نحن لا نتهيّج فرحاً على ما اخترعنا.
إذ لو فعلنا هذا لكان يعني أنَّ للحظ دوراً في ما جئنا به.
إنّه ليس رميةً من غير رامٍ.
ليس لدينا محظورات.
هناك حقيقة واحدة، هي أنفسنا، وكلُّ شيء مباح.
لكن لسنا فرسان الهيكل.
نحن فخورون، ووسيمون ومفترسون.
نفترس الآلات، إنّها فريستنا المفضلة.
نخترعها ثم نفترسها.
إنّه عصر دوّاميّ عظيم، دائماً عصر عظيم للفنانين.

4
وفيما يتعلّق بالانطباعية المتأخرة الهزيلة التي تحاول راهناً أنْ تعيش حياة ضئيلة في هذه الجزر:
دوّامتنا ضاقت ذرعاً بتبعثركم، وبرجالكم شبه الدجاج الناطق.
دوّامتنا فخورة بجوانبها المصقولة.
دوّامتنا لن تصغي إلى أيّ شيء سوى إلى رقصتها المصقولة الكارثية.
دوّامتنا ترغب بإيقاع سرعتها الثابت.
دوّامتنا تندفع مثل كلب غاضب ضد ضجّتكم الانطباعية.
دوّامتنا بيضاء ومجرّدة مع سرعتها المتوهّجة بالحرارة.

&