يصنف الباحث الألماني ريتشارد إيفانز المنتصرين والخاسرين في القرن التاسع عشر بعد معركة واترلو، التي يمكن بحق أن توصف بأنها أول خطوة في عصر العولمة.

إيلاف: يرفع تاريخ ريتشارد إيفنز الشامل الغطاء عن قرن من الحرية والقهر، من التقدم والحكم الظالم. فكتابه "السعي وراء السلطة: أوروبا 1815-1914" The Pursuit of Power: Europe 1815 – 1914 (منشورات فايكينغ؛ 928 صفحة؛ 40 دولارًا؛ ألين لين؛ 35 جنيهًا إسترلينيًا) سرد آخاذ ومرجع مفيد يبدد هذا الحنين.

"السعي وراء السلطة: أوروبا 1815-1914"

ذلك أن أوروبا مرت في العصر الفيكتوري بفترة مضطربة من التغيير الهائل، وشهدت ثورات وميلاد الديمقراطية الليبرالية بعد مخاض عسير في بعض المناطق، وظهور دكتاتوريات جديدة عن طريق العنف في مناطق أخرى، وتأسيس جمهوريات جديدة، بل وحتى ظهور أنظمة ملكية جديدة. 

حصلت حروب، وعلى الرغم من حدودها من حيث المكان والمشاركين فيها، فإنها اقترنت محليًا بتلك الأهوال القروسطوية القديمة: الأوبئة والمجاعة وذبح المدنيين والتنكيل بهم. 

لعل الموت والدمار اللذين ألحقتهما حربان عالميتان بين نزاعات أخرى خلال القرن العشرين، يقنعان بعضهم بالنظر إلى القرن التاسع عشر بوصفه حقبة هادئة من السلام نسبيًا. 

في الاتحاد قوة
كانت فلورا تريستان ابنة الثورة، ولدت لأب من العالم الجديد وأم من العالم القديم، لا تتمتع بقوة تُذكر في فرنسا القرن التاسع عشر. فحقوق المرأة بقيت محدودة، وأُجبرت فلورا حين كانت مراهقة على الزواج بحرفي في مونتمارت عاشت معه حياة "عذاب لا ينتهي". 

لكن فلورا هجرت زوجها في عام 1825 ومارست استقلالها: سافرت إلى البيرو، وكتبت كراسات نسوية، وفي أثناء زيارتها بريطانيا تسللت إلى مجلس العموم متنكرة بزيّ رجل تركي. وأثارت "جسارتها" غضب زوجها السابق الذي خطف طفلهما وأطلق النار على فلورا في أحد شوارع باريس عام 1838. نجت من الاغتيال، لكنها توفيت بالتيفوئيد في عام 1844. وربط مقالها الأكثر ديمومة بين حقوق المرأة والاشتراكية، دعت فيه المظلومين إلى الوحدة. كتبت: "في الاتحاد قوة".

لا يسعى إيفنز في تاريخه الشامل الجديد لأوروبا بين عامي 1815 و1914 إلى تقديم سرد جديد، بل يقتفي أثر خيط موحد، إذ كان أوروبيو القرن التاسع عشر طلاب سطوة قبل أي شيء آخر: سطوة على أنفسهم، سطوة بعضهم على بعض آخر، سطوة على الطبيعة وحتى على العالم الأوسع. 

وفي حين أن الجزء السابق الصادر من دار بنغوين عن تاريخ أوروبا تناول بالتفصيل سعي أوروبا إلى "المجد" في القرن الثامن عشر، فإن السعي إلى السطوة بأشكالها المتعددة هو الذي ساد المجتمع الأوروبي بين هزيمة نابليون واندلاع الحرب العالمية الأولى. 

التحول الاجتماعي
تنقلت حياة تريستان بين الثورة والرجعية، بين الحرية والقهر، بين التقدم العلمي والموت المبكر. كانت تلك الفترة في نظر بعضهم فترة تقدم وتحسن هائلين، ولدت فيها "الحداثة"، فيما كانت بنظر البعض الآخر حقبة قمع وإمبريالية وتصنيع مدمّر، هيّأت التربة لسقوط القرن العشرين في قعر الجحيم.

طابع تذكاري فرنسي يخلّد فلورا تريستان

إنها قصة كبيرة، لكن إيفنز يستخدم سرديات فردية في افتتاحه فصوله، إذ يذكرنا بـ"البعد الإنساني" ويترك "المجايلين يتحدثون عن أنفسهم". وإلى جانب تريستان، هناك البنَّاء والجندي الألماني ياكوب فالتر، الذي تقاذفته حروب نابليون عبر أوروبا، وإميلين باكهرست، التي جسد نشاطها النضالي وعقابها القاسي سياسة جماهيرية تتأرجح بين العنف والديمقراطية.

تتبدى مهارة إيفنز في عرضه تطور القارة السياسي من "الربيع الأوروبي" في عام 1848 إلى حريق 1914، رابطًا إياه بتغييرات ثقافية واجتماعية. وفي حين أن العديد من التغييرات السياسية والثقافية حدثت في بلدات ومدن آخذة في التوسع، يذكرنا إيفنز بأن معظم الأوروبيين كانوا فلاحين. 

يأتي إيفنز بعدد من أكثر شخصياته إثارة للاهتمام من عالمه الخفي. فالروسي سافي بورليفسكي تحوّل من فلاح أمّي إلى مدير حانة ناجح في مغامرة استثنائية تخللتها عمليات هروب بطوافات نهرية وطوائف دينية يخصي أفرادها أنفسهم بأنفسهم. وصُدمت ابنة فيينا الأريستوقراطية هيرمينا تسور مولين بفقر فلاحي زوجها الملاك البلطيقي، حتى إنها سمحت لهم بسرقة الغذاء من الضيعة. كان تحرير مثل هؤلاء المقهورين من أقنان وفلاحين وأقليات دينية هو التحول الاجتماعي المركزي في ذلك القرن. ونال عشرات الملايين السيطرة على مقدراتهم. 

حرية جزئية ومشروطة
لكن الحرية كانت "جزئية ومشروطة"، فاستمر بعض الفلاحين في دفع تعويضات إلى أسيادهم السابقين حتى أواخر العقد الأول من القرن العشرين، وأتاحت تبعية الريف نشوء أشكال من اللامساواة في العمل الصناعي المأجور، وبقيت المرأة محرومة من التمكين.
وكتبت تريستان أن زوجة حتى الرجل الأكثر معاناة من الاضطهاد كانت مع ذلك "بروليتارية البروليتارية". 

حدثت ثورات أيضًا في الصناعة والعمل، ويؤكد إيفنز بصورة مقنعة انتشار السيطرة البشرية على الطبيعة. فالتكنولوجيا ساعدت الأوروبيين على تقليص المسافات وصنع الوقت بضبط المجتمع على الساعة الموحدة. 

أُبعد شبح الطاعون والمجاعة بصورة متزايدة، لكن مسيرة العلم والصناعة لم تخلُ من تناقضات: بقي القرن يشهد موت ملايين من الجوع، ولا سيما في إيرلندا وروسيا، المبتليتين بحكم ظالم، وبقي المرض يتربص بفقراء المدن اليائسين في مناطق سكنهم المزدحمة. مع ذلك، كان الأوروبيون يعيشون حياة أطول وأفضل صحة وأكثر ثراء بحلول عام 1914. 

أوهام السيطرة
ارتبط مثل هذا التقدم ارتباطًا لا ينفصم بسعي القارة إلى السيطرة على العالم. وتأتي إدانة إيفنز الإمبريالية شديدة ومرجعية أيضًا، حيث يشير إلى "أن العنف كان في صلب الإمبراطورية البريطانية"، وأن الهيمنة الأوروبية الأوسع بُسطت وكُرّست بالقتل: مئات الآلاف قُتلوا في سيطرة فرنسا على الجزائر وقهر ألمانيا لطنجانيقا، فيما كان استغلال بلجيكا للكونغو بشعًا. 

وبدأت حرب البوير بدعوة حاكم مستعمرة كيب البريطاني إلى "إبادة" شعب الهوسا، وانتهت بعشرات الآلاف من مدنيين البوير في معسكرات اعتقال بريطانية. وأنزل الحكم البريطانية في الهند "كارثة" على السكان متسببًا في تفاقم المجاعات التي كانت تسفر عن موت ملايين الهنود. 

إيفنز واضح في قوله إن أفكار التفوق العرقي كانت ذات أهمية مركزية في المشروع الإمبريالي: في عام 1895، وصف وزير الدولة لشؤون المستعمرات البريطانيين بأنهم "أعظم عرق حاكم عرفه العالم"، في حين أن الكتب المدرسية كانت تصف الشعوب "الخاضعة" بأنها "بشعة" و"قذرة" و"همجية". ويكتب إيفنز أن إمبراطوريات الرجل الأبيض كانت عبئًا على شعوب المستعمرات، لا العكس. 

لا ننسى
لكنّ الأوروبيين تخيلوا مستقبلًا من الهيمنة الإمبريالية و"التحسن المفتوح بلا نهاية"، متجاهلين تحذيرات روديارد كبلينغ في قصيدته Recessional التي كتبها عام 1897 من أن "يُسكرهم مشهد القوة". وانطلاقًا من زمننا، يكون من الصعب ألا نقلق من مثل هذه الأوهام إلى جانب السياسات القومية المتطرفة والأفعال اللامسؤولة والنخب المقطوعة عن الواقع التي كلها دفعت أوروبا نحو الكارثة. 

يقدم كتاب "السعي إلى القوة" صورة كبيرة ساحرة لذلك الزمن. وينقل إيفنز "غرابة الحقبة ومألوفيتها"، كاشفًا عن الوجوه المتعددة لقرن لاقى الكثير من سوء الفهم، لكن إمبرياليته وثوراته ما زالت نافذة. 

فالبيت الأخير من قصيدة Recessional كلي الحضور، لكن تحذيره من زوال السطوة ومخاطر الجهل يبيّن أن عمل إيفنز جاء في أوانه: "لكي لا ننسى".