يقول جوناثان سويفت: "لم توجد على الإطلاق موهبة فطرية خالصة إلا بمسٍّ من جنون"!
لكن ما هو الجنون؟ وما هو تعريفه؟ ولماذا يربط الناس بين المجنون والعبقري في كثير من الأحيان؟
إن مصطلح "مجنون" أقرب ما يكون إلى المصطلح الأدبيّ والروائيّ، لكنه بالمطلق ليس مصطلحاً علمياً. فلا يوجد في كل المعاجم والقواميس العلمية مرادف لكلمة "مجنون".
فالمجنون ليس هو الذهاني (المريض العقلي) وليس هو العصابي (المريض النفسي)! من هو إذاً؟
كما نفهم من مقولة سويفت أعلاه أن المجنون هو من يعيش خارج الصندوق، وهو من يغرّد خارج السرب، لكنه ليس أبداً المختل العقلي أو المخبول.
وإذا ما تركنا جانباً الدور التخريبي الذي لعبته السينما الهادفة إلى الربح في تعميق هذا الالتباس، وسبرنا بعمقٍ أسباب هذا الخلط الحاصل، فإننا سنجد لهذا الالتباس مبرراً غير كافٍ، وهو ظهور بعض العباقرة ممن لديهم سجلات مرضيّة.
على سبيل المثال، العالِم جون ناش صاحب نظرية "المبادئ الموجهة" والحائز على جائزة نوبل وأحد أعظم عباقرة الرياضيات في القرن العشرين، كان يعاني من هلوسات بصرية (فصام) رافقته طيلة حياته.
وأيضاً العالم توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي والتصوير السينمائي والكثير من المنجزات العلمية المذهلة، كان يعاني من ثغرات في الذاكرة.
لكن هذا قد لا يعني لنا شيئاً إذا ما اعتمدنا قانون النسبة والتناسب، فالعدد قليل إذا ما قورن بالعدد الكليّ.
العبقري، وقبل كل شيء، هو إنسان معرَّض للمرض النفسي والعقلي والعضوي، بالتالي فإن المرض يصيبه كإنسان ولا يطاله كعبقريّ.
أمَّا في ما يخص غرابة الأطوار، الصفة المميزة للعباقرة، فهذه ردَّة فعل طبيعية على أفكار ثورية وإشكالية يحملونها في رؤوسهم تتناقض كليةً مع واقعهم الذي يعيشونه.
فالإنسان الذي يستهدف في أعماله وأفكاره قضايا عظمى تراه غير مبالٍ بصغائر الأمور التي يهتم بها من هم حوله وفي محيطه.
ولسويفت أيضاً رأي في هذا الخصوص، لا يخلو من الدعابة، حيث يقول ما معناه: "كيف تستطيع التمييز بين العبقري وبين الناس العاديين؟ عندما ترى رجلاً استثنائياً قد تحالف ضدّه مجموعة من الأغبياء. أنت هنا أمام أول إشارة لهبوط إنسان عبقري على سطح الأرض".
قديماً في جزيرة العرب، ارتبط مصطلح العبقرية بنوابغ الشعر على وجه الخصوص. فقد كان ثمة وادٍ سحريّ يُسمَّى "وادي عبقر"، كان الناس يعتقدون حينها بأنه "مسكون"، أي أنه مليء بـ"الأرواح الشريرة" وكل من يمرّ بجانبه سوف يتلبَّسه "شيطان عبقر" فيصبح بذلك عبقرياً! وأيُّ شاعرٍ يُظهر فصاحةً وبلاغةً
وموهبةً استثنائيةً يكون لسان حال الناس تجاهه بأنه - ولا بدَّ - قد زار وادي عبقر.
العبقريّ كتعريف هو شخص حادّ الذكاء ، يمتلك إمكانات خارقة تفوق النسبة الاعتيادية في مجال معيّن أو حتى في مجالات عدَّة.
عندما نتفوّه بكلمة "عبقري" يتبادر إلى أذهاننا آلبرت آينشتاين وسيغموند فرويد وكارل يونغ والخوارزمي ونيتشه وغوته وشكسبير وبيكاسو وموتزارت وآخرون عباقرة في الفيزياء والعلوم والرياضيات والتصوير والموسيقى والأدب... وسؤالنا هو عن السبب الذي جعل هؤلاء روَّاد زمانهم وعظماء العصور كافةً؟
يعتقد بعض العلماء بأن الإجابة هي في الاستعداد الوراثي للعبقرية لدى هؤلاء العباقرة، ويظن البعض الآخر بأنَّ المعاناة هي سبب أساسي في صناعة الشخصية العبقرية الفذّة وفي صقلها، وها هنا نتذكّر ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
"تفرَّدتُ بالألمِ العبقريِّ/ وأنبغ ما في الحياة الألمْ".
ويرى البعض الآخر، كعلماء النفس، أن السبب يعود إلى نوع فريد من أنواع العصاب الذي يكون على شكل وسواس المعرفة وشغف الاكتشاف والتنقيب في المجهول ومحاولة احتوائه والقبض على هذا الكون من خلال اختزاله في حفنة زهيدة من الأرقام والمفاهيم المجرّدة المنتظمة والمرتبة في مكانها إلى الأبد.
&باحث وكاتب سوري
التعليقات