إنهم يحوّلون الآخرين إلى "هم"!، و"هم" هو كل شخص يختلف عني بلون البشرة أو بالثقافة أو بالموقع والمركز أو بالإنتماء أو باللغة أو بالشكل أو بالتجربة، بل وحتى بطريقة التفكير والتقاليد.
إيلاف: هذا هو المحور الذي ركزت عليه الكاتبة الأميركية المعروفة توني موريسون في كتابها البحثي الأخير "أصل الآخرين" وهو الدراسة الوحيدة التي نشرتها على مدى العقد الأخير، علمًا أن توني موريسون واحدة من أهم الكاتبات الأميركيات المعاصرات، وقد حازت جائزة نوبل للآداب في عام 1993، ثم جائزة بوليتزر والجائزة الاميركية للكتاب وعُرفت بكونها قاصة وروائية وباحثة وناشرة، إضافة إلى عملها في التدريس في جامعة برنستون.
"الآخر" امتداد لي.. ليس إلا جزءًا مني أرفض الاعتراف به |
"أصل الآخرين" يطرح أسئلة مثل هذه: "كيف يصبح المرء عنصريًا، وكيف يتحوّل إلى شخص يمارس التمييز على أساس الجنس؟". ثم يجيب: "لا أحد يولد عنصريًا، ولا أحد يولد مع ميل فطري إلى كراهية الجنس الآخر، بل هذه أمور يتعلمها المرء ما أن يحوّل الآخرين إلى (هم)".
اكتساب لا وراثة
ترى الكاتبة أن "العنصرية هي نتاج الخيال" في زمن تسيطر فيه هذه القضية على المشهد الداخلي الأميركي وعلى المشهد السياسي العالمي بشكل عام، حيث تثار قضايا الانتماء العرقي والخوف والحدود مع حركة أفواج من الناس من مكان إلى آخر، ومع ظهور سعي واضح إلى تحديد هوية الانتماء.
تسأل الكاتبة: "ما هو الانتماء العرقي؟، ولماذا هو مهمّ إلى هذا الحد؟، وما الذي يدفع البشر إلى تصنيف الآخرين وفقًا لمعايير معينة؟، ثم لماذا يشعرنا وجود "الآخرين" بالخوف؟"، ثم تستنتج ألا أحد يولد عنصريًا، ولكن الإنسان يتعلم هذا المفهوم عبر التجربة والتربية.
اعتمدت الباحثة في كتابها على ذكرياتها الخاصة وعلى حوادث التاريخ وعلى نتاجات عديدة لأدباء معروفين، مثل هارييت بيجر ستو، إرنست همنغواي، وليم فولكنر، فلانيري اوكونور، وكمارا لاي وآخرين.
كانت فلانيري أوكونور قد كتبت قصة قصيرة عنوانها "الزنجي الصناعي"، يقوم فيها رجل أبيض بتلقين ابن أخيه دروسًا في كيفية النظر إلى الآخرين وكيفية تقويمهم. وتنتهي القصة بوقوف الاثنين أمام نصب فارس أسود، ليشعر كل منهما بأنه مختلف عن "هذا الآخر"، وبأنه يتمتع بهوية خاصة ومختلفة تمامًا عن هوية "هذا الآخر".
حماية من الذات
تتطرق الكاتبة إلى ما كُتب من أعمال أدبية عن العبودية وعن مفهوم امتلاك بشرة سوداء وعن النقاء العرقي والكيفية التي استخدم بها الأدب لون البشرة، لطرح هوية شخص ما، وباعتبارها وسيلة مهمة من وسائل السرد القصصي، وترى أن "التأكيد على جعل العبد كائنًا أجنبيًا وغريبًا يبدو مثل محاولة يائسة من جانب الشخص المعني كي يثبت لنفسه بأنه طبيعي".
تعتقد موريسون بأن محاولة تغريب الآخرين عملية سقيمة وغير مجدية، وذلك لأنه ليس هناك أي غرباء، بل هناك فقط نسخ أخرى منا لا نريد الاقتراب منها، ولا الاعتراف بها، بل ونسعى إلى حماية أنفسنا منها.
تنظر الكاتبة أيضًا إلى العولمة وإلى تحرك الناس داخل بلدانهم وخارجها. وترى أن اختراع فكرة "الآخر" تقوم على وهم امتلاك سلطة، وعلى الحاجة إلى بسط السيطرة. وعلى هذا قام تاريخ الاستعباد في أميركا، حسب رأيها.
درجات الاندماج والهوية
تلاحظ الكاتبة أيضًا أن عدم الإحساس بالارتياح مع "آخرين" لا يقتصر على الأفارقة الأميركيين فحسب، وتنبّه إلى آليات ثقافية تحكم تحوّل المهاجر إلى أميركي، وهي آليات كانت معروفة لدى الجميع، ومنها مثلًا أن مواطنًا مهاجرًا من إيطاليا أو من روسيا عادة ما يحتفظ بجزء من لغته الأصلية وبطريقة ارتدائه ملابسه. لكنه لو أراد أن يتحوّل إلى أميركي حقيقي، وأن يراه الآخرون كذلك، وأن يكون انتماؤه الجديد فعليًا، فيجب أن يكون شخصًا أبيض، وتلك قضية لا يمكن أن تطرح في بلده الأصلي بالمرة.
ترى موريسون أن غالبية المخاوف المتعلقة باللاجئين سببها علاقاتنا الصعبة مع ما هو أجنبي، وإحساسنا السريع باحتمال فقدان الانتماء، لو حدث اندماج بين الطرفين، ما يعني أننا نفرض تصنيفًا معيّنًا على هؤلاء "الآخرين"، وهو ما يحرمهم بالتالي من خصوصيتهم كأفراد، ومن صفات فردية عادة ما يمنحها المرء لنفسه.
ممثلو العرق الحصريون!
وكانت الكاتبة قد تطرقت إلى مسألة الفردية في أعمال أدبية سابقة، مثل قصتها المعنونة "الجنة"، التي أصدرتها في عام 1997، وبدأتها بالجملة الآتية: "يطلقون النار على الفتاة البيضاء أولًا". أما البقية فيمكنهم الانتظار. لكن لا يمكن تحديد هوية هذه الفتاة البيضاء على الإطلاق، وهو ما يجبر القارئ على التعامل مع كل شخصية في الرواية على أساس ملامحها الفردية أكثر من الاعتماد على الأفكار العرقية المتعارف عليها.
نذكر أخيرًا أن هذا الكتاب ليس سهلًا عند القراءة، لأنه عبارة عن خلاصة تجربة واسعة، اعتمدت على الذكريات وعلى أحداث تاريخية، وحتى على قصص وخيالات روائية في كيفية النظر إلى العرق وإلى اللونين الأبيض والأسود. تقول في النهاية إن قضية العرق عبارة عن وسيلة لتصنيف كائنات أخرى، نعتبرهم خارج هذا التصنيف، وهو ما يعني أننا نحن فقط من يمثل العرق البشري.
أعدت "إيلاف" هذا التقرير نقلًا عن blogs.lse.ac.uk تجدون المادة الأصل على الرابط أدناه:
التعليقات