”لم تكن بيني وبين أندريه علاقة عابرة إنما هناك افتتان متبادل“

ليلى ألكسندر گاريت

ترجمة وتقديم علي كامل

غالباً ما يتسائل الناس عن الكيفية التي كان يتعامل بها تاركوفسكي مع ممثليه، فعلى الرغم من أنه لم يكن يعمل معهم بالطريقة التقليدية إلا إن ثقته وتفهمه وحساسيته وحبه لهم هو في مستوىً أعلى من تلك المناقشات التقليدية التي تجري عادة حول المائدة المستديرة.

كان أندريه يكرر باستمرار أن الفيلم هو لُغز، وإن النتيجة النهائية، أي الفيلم المُنجَز، ينبغي أن يبقى دائماً لغزاً حتى للمخرج نفسه. «وإلا فإنه سيصبح ببساطة عديم الفائدة »… «الفيلم مثل الحياة، مثل الحب، اللذان هما أعجوبة من العجائب، لغز مفعم بالأسرار. نحن لا يمكننا تفسير سبب وجودنا، أو لماذا نحب. يمكننا أن نفسر في بعض الأحيان لماذا نكره، أما فيما يتعلق بكيفية الحب، فهو أمر نجهله، وببساطة، بدون هذا الحب ستكون الحياة مستحيلة. الحب مبرمج فينا من قوة عليا».

كان أندريه إنساناً وفناناً مختلفاً فهو لم يشعر بالحرج لبحث ومناقشة مفاهيم مثل الحب، البغض، الغيرة، المعجزات والموت. في حين أن مناقشة مفاهيم كهذه في الغرب أمر يُحبَّذ تجنبه إذا كان ذلك ممكناً، فالناس هناك يسعدهم أن يتحدثوا عن الطقس أو ما أنفقوه للتو من أموالهم أو ما يسمعوه من الراديو وهم جالسون في سياراتهم وهم متوجهون إلى العمل أثناء الزحام المروري.

لقد نشأ بين تاركوفسكي والممثلين نوعاً من الصلة والمراوغِة المحّيرة، فقد كان يتحكم بزمام الأمور وطريقة أدائهم بأسلوب خفي. لم تكن اللغات عائقاً بل يمكن القول أن لها في بعض الأحيان فوائد إيجابية. ولحسن الحظ، لم يكن تصوير فيلم «التضحية» برج بابل على الرغم من أنك يمكن أن تسمع في موقع التصوير إلى جانب اللغة السويدية والروسية لغات أخرى كالإنكليزية والفرنسية والإيطالية وحتى الإيسلندية.

غالباً ما يثق الممثلون بتقنياتهم الفنية التي هي في ظنهم راسخة ولا تشوبها شائبة، لكن هذا الأمر مع تاركوفسكي غير ممكن!. حيث يتعين على الممثلين الاعتماد على حاستهم السادسة، كما وينبغي أن تكون لديهم قدرات استثنائية خارج الحواس. فإما العمل بحماسة كاملة أو على الممثل أن يجد نفسه مع مخرج آخر.

لم يكن يرغب أندريه في مناقشة الكثير من الأمور مع الممثل وذلك بهدف جعله يستمع إلى عقله الباطن، إلى غريزته الداخلية، كي يحس بما ينبغي عليه أن يفعل. ليس مهم بالنسبة له ما إذا كان الممثل يعرف «ما الذي تناوله البطل في وجبة إفطاره». «الممثل ينبغي أن يكون كالاسفنجة تمتص كل شيء» كان يقول.

كانت لدينا في الفيلم مشاهد مسّلية مع الممثلة الانكليزية سوزان فليتوود التي لعبت دور «أديلايد» زوجة ألكساندر. كان دورها صعب للغاية ولم يكن مفاجئاً أنها بدأت تتصيد أجوبة من أندريه. كان يسميها «مفكرّتنا». كانت لديها طريقة تدريب مسرحي إنكليزية «مثالية».

كان يقول لي: «أستطيع رؤية سوزان أنها ستأتي ومعها أسئلتها الفكرية. إنها تريد دائماً أن تعرف!. أخبريها أن تتوقف عن تفسير دورها عبر العقل وعليها ببساطة أن تبدأ بالإحساس».

لقد كان يوضح لها مرات عديدة قائلاً: «أنا من خلق شخصية أديلايد. أنا مؤلفها. أنا رجل خلق شخصية إمرأة، وأنت إمرأة فضلاً عن كونك ممثلة تعرفين أكثر بما تشعر هي به. أنا أؤمن بقدراتك. أنا لست مجنوناً. هل يمكن أن أعهد إليك هذا الدور لو كانت لدي أية شكوك؟ أعلم أنك لن تقومي بهرس الدور».

إن هذا هو أفضل إطراء يمكن أن يحصل عليه ممثل من مخرج كما أظن وهي ثقته به. «أخبري الجميع بأنني أثق بهم مائة وواحد بالمائة لكنني لا زلت أتوقع

منهم المفاجئات». هكذا كان يقول لي.

لا شك أن هذا هو أحد الأسباب التي جعلت من عملية اختيار الممثلين أمراً معقداً ومؤلماً لكل من أندريه ومن حوله. لقد شاهدنا

آلاف الصور الفوتوغرافية لممثلين وممثلات من مختلف البلدان وقابلنا العشرات بشكل شخصي بينما كنا في الواقع بحاجة إلى ثمانية أشخاص من بينهم طفل.

لم تكن ثمة مشكلة بشأن الممثل إيرلاند جوزيفسون الذي أنيط له الدور الرئيسي «ألكساندر» في الفيلم، فقد كتب أندريه الجزء الخاص به، وذات الشيء مع دور ساعي البريد أوتو الذي لعبه الممثل والمخرج ألان إدوال. أما بالنسبة للخادمة جوليا فقد أراد أندريه أن يعطي الدور إلى الممثلة السويدية الشابة الرائعة بيرنيلا أوسترجين، لكن ذلك لم يتحقق للأسف الشديد لأنها كانت تنتظر

مولوداً حينها، لذا فقد تم اختيار الممثلة الإيسلاندية غورون جيسلادوتير لدور ماريا على الفور بعد مشاهدة صورها وهي ممثلة تظهر لأول مرة على الشاشة.

أما الإبنة مارثا (إبنة الكساندر من زوجته السابقة) فقد اكتشفناها في قاعة السينما في العرض الأول لفيلم «آكي وعالمه» للمخرج ألان إدوال.

الأدوار الأكثر صعوبة في الاختيار هي دور الدكتور فيكتور ودور أديلايد. لقد أراد أندريه أن يلعب الممثل السويدي ستيلان سكاسجارد من مسرح ستوكهولم الملكي دور الدكتور فيكتور لكن ذلك لم يتحقق للأسف الشديد لأنه كان مرتبط بعمل آخر.

أخيراً قرر أندريه اختيار الممثل سفين فولتر لهذا الدور والممثلة سوزان فليتوود لدور أديلايد والممثلة الفرنسية فاليري ميريسي

للعب دور الممرضة (المربية) جوليا. أما الممثل تومي كيلجفيست الذي لعب دور الطفل غوسين أو (الرجل الصغير)، فيمكن تأليف كتاب كامل بشأن البحث عنه.

«ينبغي أن يكون ثمة سر بيني وبينكم» كان يقول تاركوفسكي لممثليه. «إن الفكرة القائلة بأنكم يجب أن تعرفوا كل شيء هي فكرة غير صائبة. عليكم أن تكونوا في دائماً حالة من عدم اليقين والترقب. كل شيء يجب أن يكون مفاجئاً وغير متوقع. عليكم أن تكونوا أشبه بالعّشاق».

لقد اعتاد القول أنه على الضد من الممثلين الذين يقرأون سيناريو الفيلم الذي يمثلون فيه. «كيف يمكنك أن تمثل بإخلاص إذا كنت تعرف مسبقاً أنك ستموت في

المشهد الأخير؟ هذا يعني أن كل شيء يجري بينك وبين الآخر سيصبح مجرد كَذِبْ».

كان تاركوفسكي لا يحب المؤتمرات الصحفية والمقابلات وغالباً ما يقول أنها ممّلة، وقد كان ذلك، كما أظن، يُغيض الصحفيين والنقاد نوعاً ما. لم يكن في الواقع يثق بهم. كان يقول أن من الأفضل له أن يتخيل مُشاهدي أفلامه ومن ثم الترحال بحثاً عن موقع

تصوير لفيلمه القادم. وحين تبدأ مرحلة التصوير الفعلية كان يتمنى لو إنه كان بستانياً يزرع الزهور في مكان ما مع غيره من الفلاحين التوسكانيين.

اعتاد تاركوفسكي على مقارنة نفسه بالخيّاط. المخرج السينمائي أشبه بالخياط. إنه أمر في غاية الأهمية أن تبتكر رداءاً جديداً، التفكير بتصميم جديد، رسمه، اختيار اللون والقماش، قصّه، أن تستحضر قبعة، قفازات، أحذية، دبابيس مزخرفة، زهور… وتأتي من ثم خياطة الأزرار والحاشية ووضع النشا والكي هذا هو الكدح المحض.

وكان أندريه يحب أن يشبّه التصوير الفعلي بخياطة الأزرار، على الرغم من حقيقة أنه لم يمر يوم دون أن يأتينا بشيء جديد.

في طفولته كان يتوق بشدة أن يصبح «باخ» آخر جديد، وحين أدرك في وقت لاحق خيبة أمل كبيرة في أن يصبح قائد أوركسترا قرر حينها أن يكون مخرجاً سينمائياً. لكن عندما تحل فترة التصوير كان يفضل أن يكون بستانّياً. وهذا ما كان يدفعني إلى الضحك، مؤكدة له أنه حتى لو كان بستانيٌّ فإنه سيعود ثانية لعمل فيلم بعد ستة شهور. «بل فوراً» قالها والابتسامة مرتسمة على شفتيه.

ببساطة، كان أندريه إنساناً مغرماً بالسينما. كانت السينما هي شغفه، مرضه غير القابل للشفاء. لم يكن الإخراج السينمائي وعمل

أفلام هو مجرد مهنة أو عمل ما، إنما هو بالنسبة له بمثابة حياته ذاتها.

&

اللقاء الأخير… الوداع الأخير

لقائي الأخير بأندريه كان في باريس حيث ذهبنا لزيارته أنا ومدير التصوير نيكفيست والمنتجة التنفيذية آنا لينا ويبوم في يناير عام ١٩٨٦، حين كان بالكاد يستطيع النهوض من سريره.

جلبنا معنا نسخة منقحة من فيلم «التضحية» لنريه إياه. لقد نهض على الفور مبتهجاً بمجرد بدء تشغيل شريط الفيديو وظهور الصور على الشاشة وأصبح المريض طريح الفراش «تاركوفسكي» الذي ألفناه «غير القابل للتغيير»، الذي لم يُضِعْ الوقت في إعطائنا الكثير من الارشادات الجديدة والمهمات والتوجيهات. نعم، كان هو نفسه، أندريه القديم، الذي عرفناه مرة أخرى وكان سعيداً مثل طفل.

قام المخرج الوثائقي كريس ماركر حينها بتصوير ذلك اللقاء وكان لديّ فضول لمعرفة ما إذا كان قد التقط التحولات الفريدة التي حدثت حين يحوّل حب وتفاني المرء لإبداعه من شخص مريض إلى خالق ملهم مفعم بالتفاؤل الروحي والإلهام والإيمان.

كان أندريه يشد منديلاً ملونه حول رأسه قائلاً: «إنني أبدو مثل قرصان في هذا». وقد بدا حقاً أشبه بقرصان يبحث عن جزيرة كنزه. كان الفيلم بالنسبة له هو جزيرة الكنز تلك.

لقد نادى على ولده أندريوشا وأجلسه إلى جانبه على السرير وأمسك بيده طيلة المدة التي كان يشاهد فيها الفيلم. كان أندريوشا

يشاهد الفلم لأول مرة، وقد بدا الأمر غريباً ومؤلماً جداً ونحن نشاهدهما هناك وهما جالسان غرباء في أرض أجنبية. لقد جلس

أندريوشا الذي لم يفهم كلمة واحدة من الفيلم مذهولاً مثل طير وهو يتابع كل حركة على الشاشة بتركيز صامت.

من الواضح أنهما كانا متوترين، وكذلك نحن. كان المشهد مؤثراً جداً، الأب مبدع الفيلم وهو يسّلم شهادته الفنية إلى إبنه الذي أهدى له الفيلم.

أستطيع تخّيل المشهد بالطريقة التي جلس فيها سقراط محاطاً بتلامذته يملؤهم الحزن والألم بينما واصل هو نفسه دون انقطاع فلسفته عن الفضيلة ونداء الواجب، عن المفاهيم الأخلاقية الأكثر نبلاً، عن المعرفة المطلقة والإيمان، وهو يلمّح بشكل عابر معلقاً على تأثير السم على جسده… لا شك أن أندريه سوف يضحك على هذه المقارنة التي أجريتها بينه وبين سقراط.

المرة الأخيرة التي رأيت فيها أندريه كانت في السابع عشر من مارس ١٩٨٦ وبدا بصحة جيدة تمكنه للقيام بنزهة قصيرة. لقد جاء للعرض الذي نظمه المنتج الفرنسي أناتول دومان.

بدا راضياً، وصرنا نتهكم ونضحك جميعاً وتذّكر أندريه ما حدث في جوتلاند قائلاً

أنها كانت أكثر الأوقات سعادة وأقلها قلقاً رغم كل المشاكل والصعوبات التي كان علينا تحملها.

كان يتوق للغاية أن يُري ولده الوحيد أندريوشا «جزيرة السحر»، وقال بفخر «أنظروا أي إبن لدّي. لقد جاء لرؤية السويد، وخاصة جوتلاند، وكذلك لزيارة إيسلنغر، قلعة هاملت».

إن كل أمة لها هراؤها وأوهامها التي يمكن تصديقها أو تجاهلها. يُقال في روسيا إن الوداع عند عتبة الباب يجلب الحظ السيء.

حين قلنا وداعاً أحدنا للآخر عند عتبة الباب خرجنا سوية ونحن نقول ذات المقولة في وقت واحد منفجرين بالضحك:

«نحن أشبه بالعجائز الشمطاوات… سنلتقي مجدداً… فإلى ذلك الحين… نحن لا نؤمن بالخرافات» قال.

«بالطبع سنلتقي ثانية» أجبت، على الرغم من شعوري بالحزن الشديد. ولم يكن مقدّراً لنا أن نلتقي ثانية أو إلى ذلك الحين على حد قوله…

المرة الأخيرة الذي تحدثت فيها معه كانت قبل أسبوع من وفاته. اتصل بي أحد أصدقاؤه وترك لي رسالة صوتية على الهاتف يذكر لي فيها رقم العيادة التي كان يقيم فيها أندريه.

كان ذلك في الصباح الباكر، ولحسن الحظ كانت الممرضة تستعد للذهاب إلى غرفته لتعد ترتيبها لإدخاله فيها. كانت المحادثة تلك

واحدة من أكثر المحادثات التي مررت بها في حياتي عبثية ومأساوية وحزناً، لكنها واحدة من أكثر المحادثات حميمية. كان

صوته بالكاد يمكن تمييزه، لكن طريقته في الكلام هي ذاتها. قال أنه يجد صعوبة بالغة في التركيز. كان قد فقد صلته وإحساسه بأفكاره، لقد بدا كل شيء كما في الحلم. وددت أن أقول له شيئاً مهّماً لكن الكلمات بدت بلا دلالة وغير ضرورية.
«هل تتذكر كيف وجدنا تلك البقعة المليئة بثمار التوت البري في جوتلاند..؟ ربما هي ذات البقعة التي عثر عليها بيرغمان…
سألته… أما زلت لديك الشجاعة…؟».
يمكنني أن أحس به وهو يبتسم لتلك الأيام الهانئة في الصيف الماضي «تعالي لزيارتي…» «أراكِ قريباً» «فإلى ذلك الحين» كانت هذه هي عباراته الأخيرة.
عندما أفكر بالمعنى الحرفي لكلمة «حماسة» والتي تعني في اللغة اليونانية القديمة (الصفة التي يتمتع بها الله، أو المستوحاة من الله) أرى أندريه أمامي. حين كان يبدع فيلماً تراه مُلهَماً من قبل الرب ومفعماً بشغف للرّب. هذه الهبة المقدسة قد ضحى بها لجمهوره. لقد كنت محظوظة حقاً أن أقف إلى جانب هذا الفنان المتبّصر، المَهيب، الغامض والعظيم أندريه تاركوفسكي.
&