وَلَيسَ الغِنى نَشَبٌ في يَدٍ
وَلَكِن غِنى النَفسِ كُلُّ الغِنى

أبو العتاهية

يقول الدكتور حسن حميد في مقالته الموسومة "غنى الشعر.. غنى الروح! " عن الشاعر العراقي عبد المنعم حمندي: "...وعندي أن أهم ما يميز تجربة عبد المنعم حمندي الشعرية، هو الوفاء لأمرين اثنين: الأول الوفاء للشعر كيما يكون شعراً نايفاً لما يتمناه الشعر وعارفوه، أي أن يبقى نصاً مكيناً متجدداً في القراءة والحضور، عصي على الاستلاب والتباهت والمحو، والثاني هو الوفاء للقيم التي آمن بها عبد المنعم حمندي على الرغم من الكواره التي كرّت منذ احتلال الطغاة للعراق العظيم، فهو لم يغادر روحه العراقية، ولم تغادره هي، ولن تغادره."حديث الدكتور حسن حميد استوقفني والهمني كي اطرح على صديقي الشاعر جملة أمور فيما يخص شعره وللوقوف على تجربة الشاعر وللحوار معه والحديث حول أسلوبه الشعري وتلك النكهة ا لعراقية التي تغطي على شاعريته خلال العقود الأربع الماضية.

كلّما مرّ بي طائرٌ رفّ قلبي

و فاض الحنينْ

وإذا حطّ ، قد أوهمتني النجوم

بأن اصطباري وحزني شجيرةُ تينْ

إن خوفي عليه كمينْ

...

- ما الشعر، هل الشعر مجرد ايحاء؟
- الشعر ليس ايحاءً بل هو تحليق وتخييل، يصوغ لغة متمردة على الأنماط التقليدية، بأشكال ومضامين جديدة في الفكرة و الصورة والانزياح ارتجاج روحي، للأشكال العتيقة، فالشاعر رائي حالم يحاول إبداع أشكال ومضامين جديدة وغريبة، فينعكس ذلك في لغة وصور غير مألوفة، فهي حسب أدونيس “رؤيا جديدة وهي جوهريا رؤيا تساؤل واحتجاج:
تساؤل حول الممكن واحتجاج على ما هو سائد”.

دعني أغفو فوق الماء

يا حلم الألق المكنوزْ

ما أحزنني الآن ..

كان الليل من أجمل أصباح الدنيا

حين يمشّطُ شعر الشمس

في ينبوع الطوفان

أو في بهجة عشتار وتموزْ

وئد النهر فبأي مياهٍ تغتسلُ الروحُ

وبأي الأنهارِ أروي عطشي

من بئرٍ أو حتى من كوزْ

مَنْ يسمع نزفي في هذا العصف ؟

انطفأ النور ، واجتثّوا الأشجار ،

لم يبقوا نخلاً كي

أنشر فوق السعفات الثكلى مِحَني

أو نافذةً تحضن قلبي ، فأشاهدُ منها وطني.

- وكيف تكون حالة ولادة القصيدة؟
- يكون المخاض عملية خلق في مرحلة التنافر والتصادم بين ما هو منظور في البنية السائدة وبين ما يحدث من تغيير في تشكيلات صورية حديثة غير مألوفة ، من نتاج اللحظة الشعرية، لذا لم يعد مفهوم الحداثة تقليدياً ومؤطراً ، أنه اليوم إشكالية متنامية تحاول تحرير وجودها من أسر المطلق، بمعنى تحرير التعبير من القوالب والصيغ الكلاسيكية.

- ما هي الحداثة، كيف تفهمها؟
- الحداثة في قلب البيان العربي ولم تمت منذ الشعر الجاهلي بالرغم من كونها نحت مصطلح غربي، فهي لا تعني ضد القدامة، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بحركة التاريخ والتراث، قد تجد وفرة الحداثة في نص قديم ولا تجده في نص معاصر، هي تجاوز لكل مألوف وتقليدي، لكن لا يعني الانسلاخ إطلاقا “وإنما يعني تجاوز تركيبة النظام البلاغي بمفهوماته وقيمه، ولكل حقل وفن خصوصية ومميزات مكونة له، قابلة لضرورة التجديد، فليس هناك قديم وجديد، بل هناك تقليد وحداثة، وهذا مرهون بالمبدع نفسه اذا كان يسكنه هاجس الحداثة والتجديد وقوة الروح للخروج عن تكرار نفس الرؤى بنفس القوالب والصيغ الكلاسيكية ، إنها لغتنا الجميلة مثل نهر عظيم لا يعشق الا الذي يحبه ويحسن فن العوم فيه، بتعبير آخر أن المبدع يسعى دائما إلى الكشف الدائم في الخلق والإبداع مادام الإبداع يمثل أرضا بكرا تبحث عن فلاح ماهر وكل عمل إبداعي بالمعنى العميق هو أرض بكر.

على النعش يبكي الترابُ ويزّرقُّ حزنُ البيوتْ

ويبكي عليه الغمامُ ويبكي النقاءُ

وتبكي المساجد حزناً

على دمعةٍ في القنوتْ

تصلّي العصافيرُ

حين يقيمُ الصلاة بظل شجيرة توتْ

له الشمس متكأٌ في الأذانِ

وفي ظلمةِ القبر تحيا ،

تحنُّ عليهِ .. فكيف يموت ؟

- انت من جيل السبعينيات شعرياً، ما سمات هذا الجيل؟
- تسمية “جيل السبعينيات“ هذه التسمية بدعة ، يجب أن لا نجري خلفها، لا توجد أجيال في الشعراء و الشعرية تتفاوت بين شاعر وآخر، والشعرية ترفض الاطواق وخارج الإطار الزمني ، هل تعرف الى أيّ جيل ينتمي طرفة بن العبد أو المتنبي أو ابن الفارض أو أبو تمام ؟ .. عندما نتصفح ديوان الشعر العربي، لا يهمنا سوى الشعر وبراعة الشاعر ولا يستوقفني غير النص المدهش وبأي شكل فني كان (عمودياً أو حراً او نثراً) أقف عند الشعر والشاعر ولا يهمني عصره وجيله، فلماذا نضع الشعراء ونحبسهم في أقفاص الأجيال ، كما توضع البلابل ؟ وكل شاعر في الأرض هو امتداد لشعراء قبله وخلفية للذي يأتي بعده ويجب أن يكون متميزاً بين مجايليه في الزمن الذي هو فيه ! والمجايلون لنا لكل منهم عطره ومساره ، قرأت الأرض اليباب ل ت.س . اليوت ولا أعرف لأي جيل ينتمي .

(نيسان أقسى الشهور، يخُرج

الليلك من الأرض الموات، يمزج

الذكرى بالرغبة، يحرك

خامل الجذور بغيث الربيع)
وقرأت المركب السكران لرامبو ، ولا أعرف هل انتمى رامبو الى جيل وهل وضع شعره في سلة زمنية محددة ؟
المبدعون ملك للأجيال، يتجولون في كل العصور والأزمان ، ألشعر اكبر من الزمن، في وقت مبكر ، في منتصف السبعينيات تبلور وعي جديد عند مجموعة من الشعراء الشباب.
لعل بعضهم استهوته تسمية جيل السبعينيات، وخاض غمار لعبة تحت مظلة إطار زمني ، ولكن سرعان ما تنبه فرسان هذا الجيل إلى خطر التسمية فتمرد عليها وشق عصا الطاعة ، ورفض المكوث في قفص ، فكان لكل شاعر مشروعه الحداثي ، وطوح بعضهم في وادي غير ذي شعر.
فهذا الشاعر المبدع خزعل الماجدي، عشق الأساطير وتاريخ الأديان والمعتقدات والحضارات القديمة وهذا الشاعر الجميل فاروق يوسف استهواه الفن التشكيلي و الرسم و فيوضات جمالية اخرى، وهذا عادل عبدالله يبحث عن اليقين في طروحاته الفلسفية ، وهناك كوكبة منهم ما تزال تحفر مسلتها وتنقش ألواحها في الشعرية العربية بإخلاص مثل الشعراء:
هاشم شفيق وفيصل جاسم وأمجد محمد سعيد، وغيرهم ، هؤلاء أبناء جيلي الذين تفرقوا في الشتات، صمت بعضهم
ورحل إلى دار الخلود مثل رعد عبد القادر وكمال سبتي وخليل الاسدي .
أما أنا سكنني هاجس التجديد و بدأت السير نحو الحداثة منذ ديواني " أتيتك غدا " وتعمق هذا الهاجس في ديواني الخامس " طواف في ناي " وكلما تقادم الزمن تعتقت تجربتي وتفردت وكنت أرى شعري في كأس غريبة بخمرة معتقة لاتشبه الأصناف المعروفة و لقصائدي نكهتها ، وتجربتي شاذة لا تحسب على جيل بعينه ،حالي حال أي شاعر يعتز بمنجزه ، و في المكتبة الكونية مئات الشعراء عبر العصور ولكل شاعر مذاق خاص، أنا منهم ولهم ، فلتسقط بدعة الاجيال !

- كيف تختار عناوين دواوينك وقصائدك وماذا تعني عندك عتبة النص وما قبلها؟
– لكلِّ مخاضٍ أو ولادة قصيدة اشكالية عنوان ، فهو العتبةُ وهو الفنارُ الذي يرشدُ القارئ للعوم في خضمِّ النص ، وهذه الحَيّرة دائمة في تسميةِ أبنائي عند ولادةِ كل واحد منهم .! خاصةً وهي تنطلقُ من نفسٍ شاعرة تنظرُ الى نفوس قرائها ، وللإسم علاقة محورية بالمسمّى ..والعنوان مرآة النص له دلالة ومدلول ، ولهذا اتوقف طويلاً عند التسمية ، اختيار شكل
العتبة، لونها ، وبأي حجرٍ كريم أرصف جوانبها ،اثنا عشر مجموعة شعرية مطبوعة ،وعشرات القصائد منشورة في دوريات وصحف لم يحوها ديوان ،ولكل قصيدة عتبة ،وما قبلها من فضاء ،ومحرّضات ،وارهاص ،وذات تتأثر ،وعواطف هواجسهُا مرهونة بأسباب ،بعض العناوين تفرضهُ جملة سانحة في متن أو كلمة تَبخترتْ في ممرِ قافيةٍ او توريةٍ بمنعطفِ إشارةٍ واضحة.
وربما يكون توافق رأيِ قارئٍ حصيفٍ في معرضِ إختيار أبلغ ما اقترحت من اسماءٍ لها ..ونضعُ العتبة أحياناً دون أن نسأل كيف؟ ولماذا ؟ وهل تلائم البيت ، القصيدة، النص .وثمّة عناوين بعيدة الدلالة وتُشتّت القارئ ولكنها قريبة لنفسي، ابتكرت لها مبرارات أو تفسيرات مثل عنوان (أول النار) ديواني الرابع 1993، اختلفت حوله التأويلات: العقل، الحب، الحرب،..الخ أو ديواني الأول (أتيتُك غداً) 1986.
أثار (أتيتُك غداً) جدلاً فلسفياً ولغوياً ، وكذلك ديوان (طواف في ناي) 2001 ، وديوان (لذائذ الجمر واليقين)2003 ، وهذا القلق والتوتر رافقني في الدواوين الشعرية الآتية : معراج آخر عام ٢٠٠٨ و تهجدات في عام ٢٠١٥ وضوء الروح في عام ٢٠١٨ ، والثلاثة الأخيرة : القيامة ، والادريس والهدهد، والصلب، التي صدرت في عام ٢٠١٩ ، لكل عنوان سماء وأفق ، وهو عتبة الباب التي يقف عندها القرّاء متأمّلين قبل تأملهم قصائد الديوان !
اخيرا أشهدُ أن اختيار العنوان للقصيدة أو الديوان على ارتباط وثيق بالحالة النفسية، وبطبيعة جو القصيدة وزمانها ، ووهج مآل الذات الشاعرة ، ولكلِّ عتبة نجمةٌ وهلال!
الشاعر حمندي جال بنا اليوم في سفره شعرية، وربما اقول ربما هذه ليست الا صفحة تليها صفحات حوارية نتابع فيه انتاجه ونتذوق جمالية شعره ذو الطعم العراقي. اما لهذه المرة فنودعه متمنين له دوام الصحة والعافية والمزيد من الكلمات الطيبة.

عن الشاعر:
الشاعر عبد المنعم كريم علي عبد اللطيف حمندي ، وهذا اسمه الكامل مع ان اسمه الادبي هو (عبد المنعم حمندي ) .. من مواليد محلة القشل ببغداد سنة 1954 . نشأ في بيت أدب ، وعلم وأسرة دينية محافظة . درس في مدارس بغداد ودخل كلية الآداب المسائية وبعد تخرجه دخل عالم الصحافة لعشقه لهذا المسلك .. كما مارس العمل الاعلامي عن طريق الادب ومنذ منتصف السبعينات .
عمل في صحف ومؤسسات اعلامية عديدة منها : جريدة الجمهورية ، جريدة القادسية ، الإذاعة والتلفزيون ، جريدة الوفاق الديمقراطي ، قناة المشرق ، قناة الرشيد الفضائية ،وغيرها ، وتدرج في العمل الإعلامي والصحفي محرراً ، وخبيراً ، ومديراً ، ومدير تحرير ، ونائب رئيس تحرير ، ورئيس تحرير. مثّل العراق في العديد من المهرجانات والمؤتمرات العربية وفي المحافل الدولية. ولتميزه في العطاء الادبي والمهني فقد نال جوائز ودروع ثقافية وشهادات تقديرية في العراق والعواصم العربية ونال جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٩٤ عن ديوانه ( أول النار ) واعتزازاً بمكانته الأدبية وتكريماً لنتاجه الشعري والثقافي .وقد نالت قصائده ودواوينه اهتمام الدارسين وكبار النقّاد وكُتبت عن شعره ودواوينه دراسات نقدية عديدة في العراق والوطن العربي ، كتب العديد من البحوث والمقالات والدراسات الأدبية والفكرية المنشورة في مختلف المجلات والدوريات الادبية والفكرية. ترجمت بعض قصائده الى لغات عديدة منها : الانكليزية ، الفرنسية ، الاسبانية، الروسية ، الصربية. أصدر اثني عشر ديوانا.