يُعرِّف مؤسّسُ "علم الأنثروبولوجيا الثقافية"، العالِـم الإنكليزي إدوارد تايلور، الثقافةَ بأنها "تلك الكُليَّة المُعقَّدة التي تشمل المعرفة والفن والأخلاق والإيمان والقانون والعادات، وأيَّ قدراتٍ أو عاداتٍ يكتسبها الإنسان كعضوٍ في المجتمع".
بهذا التعريف -الذي وُصِفَ بأنه الأكثر شموليةً- يبدأ تايلور كتابه الشهير "الثقافة البدائية"، والذي رأى فيه بأن الثقافة هي مُحصّلة لاكتسابٍ يتطلب حصوله مرور زمنٍ طويل. وقد شبَّهَ فيه الثقافة بالنباتات التي تنتشر بين المجتمعات، لكن من دون أن تتطوَّر.
كما رأى أن المجتمع والدين يتغيَّران بمبدأ وظيفيّ عالميّ بسببه عبرت الإنسانية من الهمجية إلى البربرية حتى انتهت اليوم بالحضارة.
ويؤكّد تايلور بأنَّ النظرية الأنثروبولوجية هي النظرية الوحيدة المُثلى القادرة على تقديم علمٍ يتعلَّق بالمحتوى الذهنيّ للخرافة، والتي هي برأيه (أي الخرافة) عقلنةٌ ميّتة. هذه الخرافة التي لها قوانين كقوانين اللغة والمخيّلة المنطقيَّتان، هي بالأساس نظامٌ له دلالته، وعلمٌ خاطئ له منهجه، أو فلسفةٌ صادقةٌ لكنها خاطئة.
ولعلَّ أبرز ما قدَّمه تايلور، في محاولته لتوضيح الذهنية الفريدة للبدائيّ من خلال هذا الكتاب، رؤيتَيْن اثنتَيْن:
الأولى هي أنَّ السير المنهجيّ لأفكار البدائيّ، والسير التسلسليّ للأفكار المنطقيَّة هما شيءٌ واحدٌ، غير أنَّ المشكلة تكمن في المُسلَّمات. فبينما تكون مُسلَّمات المنهج العلميّ مبنيَّةً على المنطق القابل للفحص والتجريب، تكون مُسلَّمات العقلية "الأرواحيَّة" اعتباطيةً وغيرَ علميةٍ، لكنها مقدَّسة.
والثانية تتمحور حول المغالطة الحاصلة ما بين الارتباط الذهنيّ والارتباط الموضوعيّ لدى البدائيّ. أي اعتبار ما يحصل في الطبيعة من حوله، وما يتصوُّره في خياله، شيئاً واحداً، فلا يستطيع الفصل والتمييز بينهما.
وفي مجال دراسة المعتقدات، قدَّم الأنثروبولوجيّ الكبير مفهوماً جديداً في هذا الخصوص، هو مفهوم "الأرواحيَّة"، أو لِنَقُل أعاد إحياءَه بطريقةٍ جديدةٍ تعني الإيمان بـ"الروح الفردية" للأشياء، و"الجن" و"الشياطين". ورأى بأنَّ جميع هذه الصوَّر اللامنظورة هي الأساس الثقافيّ لأيّ معتقدٍ دينيّ. وظهور المعتقد الدينيّ كان نتيجةً حتميةً لفهمٍ خاطئٍ للظواهر التي اعترضت الإنسان كالموت والمرض والنوم والأحلام.
وبرأيه فإن التفسير الخاطئ للأحلام مثلاً، هو سبب وجود فكرة "الروح"، أي الروح" المُسافرة و"الروح" التي تُغادر الجسد دون رجعة!
أيضاً تحدَّث تايلور عن الممارسات الإنسانية القديمة، والتي لم تَعُدْ تُشكّل ضرورةً من ضرورات الحياة، غير أنها ظلَّت حاضرةً في المشهد الإنسانيّ الحاليّ على شكل رواسب وبقايا أوابد سحيقة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الطقوس التي ما تزال حاضرةً، وبقوَّةٍ، إلى يومنا هذا. مثل الإبقاء على الاهتمام بالخيل والفروسية، والحفاظ على مهارة رمي السهم من القوس... وغير ذلك الكثير.
لقد مثَّل كتاب "الثقافة البدائية" دراسةً شاملةً ومُعمَّقة في الحضارة الإنسانية، وإسهاماتها في مجال الأنثروبولوجيا، وكان بمثابة حجر الزاوية للانطلاق نحو إنجاز مؤلفاتٍ أغنت المكتبة الفكرية الإنسانية في ما بعد، ككتاب "الأنثروبولوجيا" لتايلور، وكتاب "الغصن الذهبي" لتلميذه جيمس فريزر، وكتاب "الطوطم والتابو" لسيغموند فرويد.

باحث سوري في علم النفس التحليلي